الحوار الوطني

ملف الصحة…أولوية وطنية على طاولة الحوار الوطني

جاءت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية عام 2022 إلى عقد حوار وطني، للوقوف على التحديات التي تواجه الدولة المصرية، من خلال طرح العديد من الرؤى بإشراك  القوى السياسية المختلفة، وبدء تشكيل مجلس أمناء الحوار الوطني الذي قرر بالإجماع الارتكاز على ثلاثة محاور، وهم المحور السياسي، والمحور الاقتصادي، والمحور المجتمعي، ولما كان المحور المجتمعي لا يقل أهمية عن باقي المحاور، خاصة وأن تنمية العنصر البشري سواء  من الجوانب الثقافية أو التعليمية أو الصحية، من أهم الملفات المطروحة على طاولة الحوار والتي قد تعود نتائجها بالإيجاب على الوطن والمواطن.

فقد وضع دستور 2014، حق الصحة من ضمن الأولويات الوطنية، حيث نصت المادة 18 على أن “لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب، ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3 % من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطى كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفائهم منها طبقًا لمعدلات دخولهم. وتلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين في القطاع الصحي”.

وقد عملت لجنة الصحة بالحوار الوطني خلال العام الماضي، على تحديد بعض النقاط التي سيتم تناولها وتستدعي المناقشة من بينها، أنظمة الرعاية الصحية سواء القطاع الحكومي أو الخاص، ونظام التأمين الصحي الشامل، وهجرة الأطباء، وتطوير المستشفيات، وغيرها من القضايا الصحية الأخرى، ونتناول خلال هذا التقرير بعض التحديات الرئيسة التي قد تمثل عائقًا أمام تشكيل منظومة صحية متكاملة.

أنظمة الرعاية الصحية

يتكون نظام الرعاية الصحية في مصر، من القطاع الصحي الحكومي، الذي يضم (المستشفيات التابعة لوزارة الصحة السكان، والمستشفيات التعليمية، الهيئة العامة للتأمين الصحي، الأمانة العامة للصحة النفسية)، والقطاع الصحي شبه الحكومي، والذي يضم (المستشفيات الجامعية والمستشفيات التابعة لوزارات الداخلية والنقل) والتي تخضع لمجموعة لوائح تنظيمية خاصة بها، ولديها مصادر إيرادات منفصلة، لكن لا تمتلك القدرة على تحقيق الاعتماد المالي بمفردها، ومن ثم توفر لها وزارة الصحة بندًا في الموازنة، وأخيرا القطاع الصحي الخاص، الذي يضم (المستشفيات الخاصة وغيرها من المؤسسات العلاجية الهادفة للربح).

الشكل رقم (1) هيكل النظام الصحي في مصر

يعد القطاع الصحي الحكومي، هو الجهة الوحيدة المنوط بها تقديم خدمات طب الأسرة، ولا يسمح للقطاع الخاص بتقديم تلك الخدمة، لأن اللوائح التنظيمية تمنع مشاركة القطاع الخاص في قطاع الرعاية الصحية الأولية. على الرغم من أن أهمية دور القطاع الخاص في تقديم الرعاية المتخصصة، لكن القطاع الحكومي يخدم نسبة أكبر من السكان.

إذ بلغ عدد المستشفيات الحكومية طبقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في عام 2019، بنحو 652 مستشفى، و92599 أسرة،  بينما بلغ عدد مستشفيات القطاع الخاص 1130 مستشفى، و35747 سريرًا، ويتمثل دور القطاع الخاص في تقديم خدمات الرعاية الصحية عن طريق المستشفيات الخاصة، والمؤسسات والجمعيات الهادفة للربح وغير الهادفة للربح، وهي المقدم الرئيس لخدمات رعاية مرضى العيادات الخارجية، والصيدليات، بالإضافة إلى دور العديد من المنظمات غير الحكومية خدمات صحية، بما فيها العيادات المرفقة بالجمعيات الخيرية الأخرى وهي مسجلة لدى وزارة التضامن الاجتماعي.

الشكل رقم (2) عدد المستشفيات الحكومية والخاصة في الفترة من 2010-2019
         المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، مصر في أرقام، 2019

         المصدر: نقابة الأطباء المصرية، بيان بإحصائية الاستقالات، ديسمبر 2022
         المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، مصر في أرقام، 2019

كأي نظام صحي يواجه القطاع الصحي المصري العديد من التحديات، منها نقص بعض المستلزمات الطبية في المستشفيات على الرغم من أن الخدمات تقدم بالمجان، لكن غالبًا ما تطلب المستشفيات من المرضى توفير بعض المستلزمات الطبية لعلاجهم على نفقتهم الخاصة.

استقالات الأطباء

على الرغم من الجهود التي اتخذتها الدولة خلال السنوات الماضية للنهوض بالكوادر البشرية في المنظومة الصحية، والتي بدأت بالدراسة التي قامت بها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالتعاون مع وزارة الصحة والسكان، عن مدى احتياجات مصر للأطباء البشريين والمقارنة بالمعدلات العالمية خلال السنوات من 2020-2025.

حيث ذكرت الدراسة أن أعداد الأطباء البشريين المرخص لهم بمزاولة مهنة الطب حتى نهاية عام 2018، بدون الأطباء على المعاش، تقدر بـ 212 ألفًا و835 طبيبًا، بينما من يعمل وقتها فعليًا في مصر بالجهات المختلفة التي تشمل وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية الحكومية والخاصة وغيرها من المستشفيات، حوالي 82 ألف طبيب فقط، بنسبة 38% من القوة الأساسية المرخص لها مزاولة مهنة الطب، وأضافت الدراسة أنه طبقًا لهذا العدد يكون معدل الأطباء في مصر 8,6% طبيب لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن.

وقد توصلت الدراسة إلى عدة توصيات وهي: 

  • تبني الدولة بكافة مؤسساتها خطة لاسترجاع الأطباء للعمل بالقطاع الحكومي المصري، من خلال رفع المستوى التدريبي الذي يتم تقديمه للأطباء وتأمين بيئة العمل المناسبة، ورفع المقابل المادي والمستوى الاجتماعي للأطباء، بحيث تستهدف هذه الخطة خلال السنوات الخمسة القادمة عودة 60 ألف طبيب للعمل بالقطاع الصحي الحكومي.
  • ضرورة العمل على زيادة عدد الطلاب الذين يتم قبولهم بكليات الطب البشري بالجامعات الحكومية والخاصة عن 10 آلاف طالب سنويًا، بما لا يتعارض مع إمكانات الكليات والمستشفيات الجامعية في توفير مستوى جيد من التعليم الطبي
  • التوسع في إنشاء كليات طب بشري جديدة حكومية أو خاصة أو أهلية، بما لا يخل بمعايير الالتحاق أو التدريب الطبي فيها.

وعلى غرار ذلك، اتخذت الحكومة العديد من الإجراءات لتحسين أوضاع الأطباء التدريبية والمادية للحد من هجرتهم، إلا أن إحصائيات الواقع أكدت استمرار عزوف الأطباء عن العمل داخل مصر، وتتمثل الجهود في التالي: 

  • زيادات تدريجية في الأجور. 
  • زيادة بسيطة في مكافآت الأداء للجزء المتغير من رواتب القوى العاملة في مجال الصحة.
  • المزايا غير المادية المتمثلة في فرص التدريب والحصول على التعليم الطبي المستمر.
  • زيادة أعداد المقبولين بكليات الطب، وإنشاء كليات طب جديدة حكومية مثل العريش والوادي الجديد وخاصة مثل النهضة وغيرها.
  • لجنة لدراسة تحسين أحوال الأطباء، مع رفع توصياتها لرئيس مجلس الوزراء خلال ثلاثة أشهر من انعقادها.

وبعد مرور ما يقرب من أربعة سنوات من تنفيذ بعض الإصلاحات السابقة، إلا أن الأرقام والإحصائيات تؤكد أن الوضع ما زال سيئًا، وزيادة معدلات عزوف الأطباء عن العمل بالقطاع الحكومي، فطبقا لبيانات نقابة الأطباء المصرية فإن عدد الأطباء الذين تقدموا إلى نقابة الأطباء خلال عام ٢٠٢٢ لإنهاء خدمتهم في قطاع الصحة الحكومي في مصر وصل إلى 4261 طبيب.

الشكل رقم (4) عدد الأطباء الذين استقالوا من القطاع الصحي الحكومي من 2016-2022
         المصدر: نقابة الأطباء المصرية، بيان بإحصائية الاستقالات، ديسمبر 2022

لذلك يقترح التالي:

  • تعزيز الثقة بين الكادر الطبي والمؤسسات الطبية: تعتبر الثقة نقطة مهمة للغاية في رغبة الأطباء في البقاء بالمنظومة الطبية المصرية، وهو ما يظهر بشكل جلي خاصة في فترة الأزمات والأوبئة مثل جائحة كوفيد -19، ويمكن العمل من خلال الوصول لحلول جذرية من خلال الجنة التي تم تشكيلها من قبل وزارة الصحة، والعمل على مراجعة القوانين واللوائح.
  • الحوافز المادية: يمكن العمل على هذا البند من خلال توفير التدابير التالية، العمل على زيادة الرواتب وتعزيزها في إطار تطبيق نظام التأمين الصحي الشامل، بما يتناسب مع ارتفاع معدلات التضخم، وتعزيز الحوافز على أساس الأداء للعاملين في مراكز الرعاية الصحية الأولية، خاصة في محافظات الصعيد والمحافظات الحدودية.

التأمين الصحي الشامل

في ديسمبر 2017، أصدرت الحكومة قانون التأمين الصحي الشامل بهدف التصدي للتحديات التي تواجه النظام الصحي الحالي ومعالجة القصور في نظام الهيئة العامة للتأمين الصحي “القائم حاليًا”، لتوفير تغطية تأمينية لجميع المواطنين المصريين، وللفئات غير القادرة بنسبة تصل إلى 30% عن طريق تقديم الدعم الكامل من جانب الحكومة. 

بالإضافة إلى ذلك، يتيح نظام التأمين الصحي الشامل إمكانية التغطية الاختيارية للمصريين المقيمين في الخارج، ويمكن القول إن نظام التأمين الصحي الشامل يعمل على معالجة القصور في نظام الهيئة العامة للتأمين الصحي “النظام القديم”، بغية الارتقاء بمستوى التغطية الصحية، لذلك يجب إيضاح الفرق بين النظامين:

  • نظام التأمين الصحي “النظام القديم”: تتولى مسؤوليته الهيئة العامة للتأمين الصحي والتي تقوم بدور مقدم الخدمة، متحمل التكلفة، والمشرف على الرعاية الصحية، وتحسب اشتراكات التأمين على الأجر الأساسي، مع العلم أن الدعم المالي الذي تقدمه الحكومة لبعض الفئات، ولا تتجاوز نسبة التغطية 54% من إجمالي عدد السكان.

 أما برنامج التأمين الصحي على الطلاب فيشمل الطلاب والأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عامًا. ويتم تمويل الهيئة العامة للتأمين الصحي عن طريق الاشتراكات والموازنة العامة للدولة. إلى جانب أن التغطية تكون على الشخص فقط بشكل منفرد، ويكون ربط المستفيدين بمنشآت صحية محددة وكلها منشآت الحكومية فقط، وأخيرا فإن هذا النظام لا يتمتع بالاستدامة المالية.

  • نظام التأمين الصحي الشامل” النظام الجديد”: تتولى مسؤوليته أربعة هيئات، وهم: الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل، الهيئة العامة للرعاية الصحية، الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي، الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية.

ويهدف إلى تغطية جميع السكان، بما في ذلك العاملون في القطاع غير الرسمي، حيث تم تقسيم المواطنين إلى فئات (الموظفون، أصحاب العمل، المتقاعدون، الفئات المدعومة من جانب الدولة) والذين يساهمون بنسبة بسيطة من الأجر أو المعاش مع توفير الدعم لهم من الدولة. وسيتم تمويل الدعم الموجه لهم من مصادر مثل ضريبة التبغ، ورسوم الطرق، ورسوم رخصة القيادة، ورسوم ترخيص المرافق الطبية.

إلى جانب أن الأسرة هي وحدة التغطية وليس الفرد فقط مثل النظام السابق، علاوة على أن المستفيدون لهم حرية اختيار مقدمي الخدمات من القطاعين الحكومي والخاص، وبالنسبة مصادر تمويل منظومة التأمين الصحي، من خلال مصدرين رئيسين هما: الاشتراكات الإجبارية، وعوائد الضرائب العامة، وبالتالي يمكن القول إنه يتمتع بقدر كبير من الاستدامة المالية عكس النظام السابق.

وقد تم تحديد تطبيق نظام التأمين الصحي الشامل على ستة مراحل على مدار 15 عام، تشمل المرحلة الأولى، ست محافظات بدأ العمل بها في عام 2019 بمشروع تجريبي في بورسعيد، ثم توسعت إلى الأقصر في عام 2021، ويجري حاليًا التوسع في الإسماعيلية، ومن المتوقع أن يشمل النظام ثلاث محافظات أخرى مثل أسوان والسويس وجنوب سيناء.

لكن من المسلم به، أن يواجه هذا النظام العديد من التحديات التي يجب العمل للتغلب عليها، ومن أبرز هذه التحديات:

  • مصادر التمويل: طبقا لما تسير عليه منظومة التأمين الصحي الشامل، من إدخال أعداد المحافظات الجديدة ضمن المنظومة، فمن الممكن أن تؤدي إلى حدوث عجز مالي، وذلك لأن الزيادة التي تحدث في تحصيل الاشتراكات، لن يقابلها زيادة في النفقات بسبب زيادة التكاليف الطبية الناتجة عن هذا الإدخال.
  • تسجيل العاملين في القطاع غير الرسمي: تعد إحدى التحديات التي تواجه المنظومة، وهي تسجيل المواطنين العاملين في القطاع الغير الرسمي، والذي يصعب ضمهم إلى نظام الضريبة على الدخل.

لذلك يقترح العمل على إيجاد مصادر تمويلية إضافية، مثل زيادة معدل الضريبة على منتجات التبغ، وتطبيق الضريبة على المشروبات المحلاة بالسكر، وهي ضريبة تطبق حاليًا في 85 دولة وتم تطبيقها كسياسة مالية صحية لأنها تتعلق بالجانب الصحي، وتعتبر أداة قوية لتعزيز الصحة وتقليل نسبة الإصابة ببعض الأمراض مثل السكر وأمراض القلب، ومن جانب مادي، توفر إيرادات لتلك الدول يمكن أن توجه نحو تحقيق التغطية الصحية الشاملة.

  • دعم المحافظات الأقل نموًا لتحقيق التنمية: يتمثل هذا التحدي في أن هناك محافظات تفتقر إلى العديد من الخدمات الطبية، وبالتالي معدل التنمية فيها أقل ويمكن مواجهة هذا التحدي من خلال متابعة أوجه الاختلاف بين المحافظات المتعلقة بالدخل، وكذلك قدرة مقدمي الخدمة (المستشفيات – الوحدات الصحية) بتلك المحافظات على تقديمها، وتعزيز الإمكانات الطبية سواء البشرية أو الطبية في تلك المحافظات، لضمان قدرة القطاعين الحكومي والخاص على تقديم الخدمة الطبية بشكل كافٍ.
  • تأثير تطبيق النظام الجديد على معدلات الاستفادة من الخدمات الصحية: تم بالفعل تطبيق نظام التأمين في عدة محافظات عدد سكانها محدود، لذلك يجب عمل تقييم شامل لسير العمل في المحافظات التي طبقته، وتحديد معدلات الاستفادة من الخدمات الصحية والإنفاق على الصحة في المحافظات التي نفذته وذلك قبل إدخال المنظومة وبعدها.

مما سبق يمكن القول، إنه على الرغم من النتائج الإيجابية التي حققتها الدولة المصرية في مجال المبادرات الصحية خاصة المتعلقة بالصحة العامة من القضاء على فيروس سي، أو المبادرات المتعلقة بالأم والطفل وذلك في ظل الانخفاض النسبي للإنفاق على الصحة، إلا أن هناك بعض التحديات التي تؤثر بشكل سلبي على أداء المنظومة الصحية، ويفتح طرح هذا الملف وتحدياته على طاولة الحوار الوطني، الباب أمام التوصل إلى حلول لها بشكل سريع، نظرًا لتوفر الإرادة الكاملة والدعم الفعال الذي يحظى به الحوار من القيادة السياسية المصرية. 

+ posts

باحثة بالمرصد المصري

منى لطفي

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى