
الحوار الوطني: استكمال مسار الإصلاح
في 18 ديسمبر 2023، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى استئناف جلسات الحوار الوطني للاستفادة من الحالة السياسية التي شهدتها الدولة خلال فترة الانتخابات الرئاسية، والتي أثمرت عن تعدد لمرشحي الرئاسة باختلاف توجهاتهم وأيدولوجيتهم السياسية، فضلًا عن الإيمان بفكرة إجراء حوار يجمع كافة فئات الشعب المصري دون استثناء أو تمييز أو إقصاء، وحظيت دعوة الرئيس لاستكمال الحوار بقبول واسع من الأحزاب السياسية، وبدأت في إعداد أجندات عمل لطرحها في الجولة الثانية من الحوار وتحديد القضايا الأكثر الأولوية والتي تتلاقى مع التحديات الراهنة التي تواجهها الدولة، مما يبرز أهمية تقييم مخرجات الجولة الأولى من الحوار الوطني، والمطلوب في المرحلة الثانية من الحوار.
المرحلة الأولى من الحوار الوطني
اتخذت الدولة العديد من الخطوات في إطــار عمليــة الإصلاح السياسي، بداية من إطـلاق اسـتراتيجية وطنيـة لحقـوق الإنسان فــي ســبتمبر 2021، تشــتمل علــى برنامــج وخطــة عمــل محــددة علــى مــدار 5 ســنوات مــن عــام 2021 وحتـى 2026 تسـتهدف تعزيـز كافـة حقـوق الإنسان، المدنيـة والسياسـية والاقتصادية والاجتماعية والثقافيــة، بجانــب تعزيــز حقــوق المــرأة والطفــل وذوي الإعاقة والشــباب وكبــار الســن. وفي إطار ضمـان الحـق فـي الحريـة الشـخصية وتعزيزهـا، فضلًا عن صدور قرار بإنهـاء حالـة الطـوارئ فـي أكتوبـر 2021 وإعـادة تفعيـل لجنـة العفـو الرئاسـي وتوسـيع قاعـدة عملهـا بالتعـاون مـع الأجهزة المختصة ومنظمـات المجتمع المدنـي المعنية، بمـا يعكس وجـود إرادة سياسـية لإنهـاء هذا الملف والعمل علـى إعادة دمجهم فـي المجتمع.
واستكمالًا، لحالة التصالح المجتمعـي الـذي يعـزز مسـيرة التنميـة والإصلاح، أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية في 26 أبريل 2022، دعوة لإجراء حوار سياسي مع جميع القوى السياسية والأحزاب والنقابات المهنية ووصفه “بالحوار الوطني”، لمناقشة أولويات العمل الوطني بهدف الاستمرار في الجهود نحو الانفتاح والإصلاح السياسي، وقابلت هذه الدعوة زخمًا إيجابيًا سواء على مستوى القوى السياسية أو على مستوى المجتمع، لا سيما في ظل التأكيد على عرض المخرجات النهائية للحوار على رئيس الجمهورية لتحويلها إما إلى قرارات تنفيذية، أو إلى مشروعات قوانين، بحسب طبيعة المخرجات، وفيما يلي نقاط تقييم المرحلة الأولى للحوار الوطني:
1- الحوار وطنيًا وليس سياسيًا
كانت الفلسفة القائم عليها الحوار هو أن يكون مظلة تشمل أطرافًا ممثلة عن كافة فئات الشعب ومن كل المحافظات، ولا يقتصر على النخب السياسية أو الثقافية فقط، حيث شملت الأحزاب السياسـية، ومنظمـات المجتمـع المدنـي، والجمعيات الأهلية، وكذلك النخبة السياسـية المؤيدة والمعارضة والصحفيون والإعلاميون، والفنانون، والمثقفون، بالإضافة إلى رجـال الأعمال، وممثلين عن الأزهر والكنيسـة، والمراكـز البحثيـة والجامعـات، وممثلين عن النقابـات، وأصحاب المعاشـات، والعمال، والفلاحين، والشـباب. بهدف بناء دولة ديمقراطية حديثة لتحقيق العدالة والمساواة لكافة أبناء الشعب، ومن أجل التوافق على آليات الإصلاح الاجتماعي ومناقشة القضايا الملحة التي تفرضها التحديات الحالية التي تواجه الدولة.
وذلك على عكس التكهنات السابقة التي حصرت الحوار في شكل حوار اقتصادي، نظرًا لأن دعوة رئيس الجمهورية كانت من ضمن ثلاثة عشر قرارًا ذو طابع اقتصادي، باستثناء (الدعوة للحوار الوطني، وإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي)، وكان تفسير ذلك، أن تبعات جائحة كوفيد-19، وما تبعها من الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد المصري، جعلت الدولة تلجأ إلى عقد حوار اقتصادي لمناقشة تلك التداعيات ومحاولة إشراك المجتمع فيها لإيجاد حلول، وفي المقابل كان هناك محاولات لحصر الحوار في شكل حوار سياسي بين الدولة والأحزاب المعارضة، حيث أعلنت الحركة المدنية الديمقراطية التي تضم أحزاب (المصري الديمقراطي الاجتماعي، والإصلاح والتنمية، والكرامة، والتحالف الشعبي الاشتراكي، والمحافظين، والدستور، والوفاق القومي، والاشتراكي المصري، والعيش والحرية، ومصر الحرية، والعدل)، في بيانها الصادر في مايو 2022 “أن الحركة قبلت مبدأ “الحوار السياسي” من منطلق المسؤولية أمام الشعب وحرصًا على مصالح الوطن واحتراما للدستور”، وقدمت على أساسه مقترحًا لجدول أعمال الحوار والذي قصرته على القضايا السياسية فقط.
كما تزامن مع ذلك، إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي، الأمر الذي يؤكد جدية الإصلاح السياسي الذي يقوم على ترسيخ مبادئ الدستور، فقد تم الإفراج عن نحو 40 من المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا سياسية، وبعد يوم من تفعيل لجنة العفو، أعلنت وزارة الداخلية إطلاق سراح أكثر من 3000 سجين بعفو رئاسي، تنفيذًا لتوجيهات رئيس الجمهورية بأن توسع لجنة العفو في عملها من خلال التعاون مع الأجهزة المختصة ومنظمات المجتمع المدني المعنية.
2- القواعد الحاكمة للحوار:
حدد مجلس أمناء الحوار الوطني عدة قواعد ثابتة لبدء الحوار، الأولى، عدم المساس بالدستور المصري، الثاني، استبعاد كل من مارس أو حرض أو هدد أو اشترك في أعمال عنف وقتل وبالأخص جماعة الإخوان الإرهابية، في ظل وجود توقعات من جانب جماعة الإخوان الإرهابية أن الهدف من الحوار هو فتح الباب لعودتهم للمشاركة في الحياة السياسية مرة أخرى، لكن اتفقت كل القوى السياسية بما في ذلك الحركة المدنية الديمقراطية، “إنها “لم ولن” تدعو جماعة الإخوان المسلمين للمشاركة في الحوار السياسي الذي دعا إليه الرئيس”.
3- تقييم مخرجات الحوار:
حددت أمانة الحوار الوطني الجهات المنوط بها وضع مقترحات وأجندة الحوار الوطني والتي وصلت لأكثر من 100 موضوع موزع على 19 لجنة لمناقشة مختلف القضايا المصرية، وقد شارك في المرحلة الأولى من الحوار الوطني ما يقرب من 60 حزبًا سياسيًا مصريًا، من توجهات سياسية متنوعة، ما بين أحزاب معارضة وأحزاب موالاة، ومن تيارات يسارية وليبرالية وناصرية وغيرهم. ولم يرفض أي حزب مصري المشاركة في جلسات الحوار، كما بلغ مجمل جلسات الحوار الوطني 90 جلسة، منهم 74 جلسة عامة ومعلنة، و16 جلسة مغلقة، وقسمت الجلسات المعلنة والعامة بواقع 23 جلسة للمحور السياسي و26 جلسة للمحور المجتمعي، و25 جلسة للمحور الاقتصادي، بواقع 113 قضية تمت مناقشتها خلال الجلسات.
كما بلغ إجمالي المتحدثين في جلسات الحوار الوطني أكثر من 2630 متحدثًا في مختلف المحاور واللجان، وبلغت المقترحات في القضايا المطروحة في جلسات الحوار أكثر من 1500 مقترح، في مختلف المحاور “السياسي – الاقتصادي – المجتمعي“.
بالإضافة إلى مشاركة ممثلون عن الحكومة في المحور المجتمعي والمحور الاقتصادي، لتوضيح بعض الاستفسارات والتوضيحات حول عدد من القضايا المطروحة في هذين المحورين، كما كان القوام الأهم في عمل “اللجنة الفنية” للحوار الوطني من الشباب، بواقع 70 شابًا وشابة ساهموا في نجاح المرحلة الأولى من جلسات الحوار الوطني.
الشكل (1) مؤشرات عامة للجولة الأولى للحوار الوطني

الشكل (2) نسب تمثيل الجهات في جلسات الجولة الأولى من الحوار الوطني

كما أثمرت الجلسات في المحاور (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) عن عدد من المخرجات، ففي المحور السياسي، تمت مناقشة المحليات والنظام الانتخابي، من حيث ضرورة سرعة إصدار قانون المجالس الشعبية المحلية، وسرعة إجراء انتخاباتها، والتوافق على النظام الانتخابي للمجالس الشعبية المحلية، والذي يجمع بين القائمة المطلقة المغلقة بنسبة 75%، والقائمة النسبية المنقوصة بنسبة 25 %، ومباشرة الحقوق السياسية، والحريات العامة وحقوق الإنسان بضرورة إصدار تشريع لإنشاء مفوضية مُناهضة التمييز، والأحزاب، والمجتمع المدني وذلك بإصدار قانون موحد للعمل التعاوني، وفي المحور الاقتصادي تمت مناقشة الدين العام، والاستثمارات، والبطالة، والصناعة، والزراعة، والسياحة، وفي المحور المجتمعي تمت مناقشة قضايا الصحة والتعليم والسكان والثقافة. وتم الإعلان عن إرسال مخرجات الحوار الوطني للبرلمان لمناقشتها ووضع التشريعات اللازمة لتنفيذها، وهناك مقترحات تنفيذية سترفع لرئيس الجمهورية لتحويلها إلى قرارات تنفيذية لدى الجهات المختصة بالحكومة.
وقد دخلت بعض مخرجات المرحلة الأولى من الحوار حيز التنفيذ، منها الاستجابة السريعة للرئيس عبد الفتاح السيسي لمقترح الحوار الوطني بضرورة إجراء تعديل تشريعي يسمح باستمرار الإشراف القضائي الكامل على العمليات الانتخابية، وفق نص المادة «34» من قانون الهيئة الوطنية للانتخابات، لكي يتيح الإشراف القضائي الكامل على عمليات الاقتراع والفرز في الانتخابات والاستفتاءات بنظام «قاض لكل صندوق»، حيث إن هذه المادة كانت قد حددت مدة الإشراف القضائي بعشر سنوات فقط من تاريخ العمل بالدستور (18 يناير 2014)، وتنتهي في 17 يناير 2024، وكذلك قرارات الرئيس بالعفو عن سجناء الرأي، وهي عديدة ومتتالية، وجاءت نتيجة لنداءات وبيانات مجلس الأمناء.
متطلبات المرحلة الثانية من الحوار
إدراكًا من القيادة السياسية بأهمية تعزيز التوافق الوطني في المرحلة المقبلة، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي لاستكمال جلسات الحوار الوطني، وعلى الرغم من مناقشة المرحلة الأولى من الحوار ما يقرب من 113 قضية في الثلاثة محاور، إلا أن هناك بعض القضايا التي غابت عن المناقشة، وفيما يلي أبرز القضايا التي يمكن مناقشتها خلال المرحلة الثانية:
1- توسيع دائرة القضايا المطروحة للنقاش
ففي المحور السياسي، بالنسبة للأحزاب المصرية، يمكن القول إن هناك تفاوتًا بين الكم والكيف، فقد وصل عدد الأحزاب السياسية في مصر إلى ما يقرب من 100 حزب سياسي، ويبلغ عدد الأحزاب الممثلة في البرلمان حوالي 14 حزبًا سياسيًا، أي أكثر من 85 حزبًا ليس له أي مقعد في البرلمان، مما يعني إنه حزب مجهول لدى المواطن، نظرًا لافتقاده القدرة على الوجود في الشارع واجتذاب أكبر عدد من الأعضاء، نتيجة لذلك، من الأفضل الاهتمام بما يقدمه الحزب للمواطن، وبالتالي يقترح دمج عدد من الأحزاب ذات التوجهات الموحدة في حزب سياسي واحد، ووضع شرط يقضي بضرورة حصول الحزب على مقعدين في البرلمان كشرط للاستمرار، فضلًا عن إجراء حوار حول الطريقـــة المثلـــى لممارســـة الأحزاب السياســـية لعملها وكيفية تعزيز دورها في المشاركة السياسية، بما يضمن تفعيل الحياة الحزبية بشكل حقيقي لتأسيس نخبة سياسية حقيقية ويتيح استدامة الحوار بشكل يعبر عن المواطن بشكل جاد.
أما المحور المجتمعي على الرغم من أهمية المحورين الاقتصادي والسياسي في عملية الحوار الوطني، إلا أن المحور المجتمعي له الأهمية الأكبر، لذلك من الضروري طرح قضية الحفـاظ علـى الهويـة الوطنيـة للدولـة المصريـة لتحقيـق التماســـك الداخلـــي، وتحقيـــق الاستقرار السياســـي، خاصة وأن الحروب في الوقت الحاضر هي حروب لا تقوم على القوة العسكرية، إنما تقوم على حرب الشائعات لعمل انقسام بيـن فئـات المجتمـع المختلفـة.
2- استدامة انعقاد الحوار
تزيد من بناء الثقة بين الدولة والأحزاب السياسية والمواطنين، وهو ما يتمثل في عدم إقصاء أي قوى سياسية من الحوار، لأن الهدف الرئيس منه خلق حالة حوار في المجتمع، وأن يشعر المواطنون بحقهم المشروع في التعبير عن رأيهم، حيث إن الدولة مستفيدة من كل الآراء سواء فيما يتعلق بطرح أو تعديل تشريعات أو اقتراح سياسات بديلة وجديدة، كما إنه يجعل كل الأطراف الفاعلة تشارك في وضع استراتيجية تشاركية لمواجهة التحديات الراهنة من أجل تقديم توصيات للحكومة للعمل بها، ووضع نهج تنموي جديد يقود الدولة والمجتمع للتقدم والنماء خلال السنوات المقبلة، فضلًا عن الخروج بحزمة مشاريع قوانين تقدم للبرلمان من أجل تسهيل مهمة الحكومة لمواجهة التحديات الداخلية.
3- تنفيذ توصيات المرحلة الأولى
إن العمل على تنفيذ وتطبيق توصيات الحوار الوطني هي الاختبار الحقيقي لمدى نجاح تجربة الحوار واستمراره لاستكمال مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر، وهو ما أكده رئيس مجلس الوزراء من عمل خطة التنفيذية لتوصيات الحوار الوطني، التي أسفرت عنها المرحلة الأولى من جلساته المنتهية أعمالها في أغسطس 2023، وذلك استكمالًا لاهتمام الحكومة بمتابعة كافة النقاشات بالجلسات المختلفة، وتكريسًا لدور هذا المحفل الوطني؛ الذي أطلقه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في استثمار المساحات المشتركة من أجل التحاور بين كافة فصائل المجتمع المصري لرسم خارطة أولويات العمل الوطني تجاه الجمهورية الجديدة، وهذه الخطوة تعنى أولًا، الموائمة بين توصيات الحوار الوطني والخطط التنفيذية للحكومة التي تعد ضمانة مهمة لنجاح الحوار الوطني وتعزز تطبيق مخرجاته بشكل سريع وفعّال، ثانيًا، حرص القيادة السياسية على تنفيذ مخرجات الحوار، ثالثًا، منح الحوار جدية في مرحلته المقبلة ويعزز من حرص المشاركين على تقديم أفضل الرؤى والمقترحات الجادة.
باحثة بالمرصد المصري



