الأكثر قراءةالحوار الوطني

الحوار الوطني وإنهاء ملف الحبس الاحتياطي

أعلن مجلس أمناء الحوار الوطني، الإثنين 19 أغسطس 2024، عن رفع توصيات إنهاء ملف “الحبس الاحتياطي” إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعد جلسات ومناقشات شملت 120 متحدثًا يعبرون عن مختلف القوى والأطياف السياسية والمجتمعية في مصر، وهي نقاشات عكست الإجماع الوطني الجامع على ضرورة إحداث تعديلات على تشريعات الحبس الاحتياطي في ظل الثقة والإرادة السياسية وحالة الانفتاح التي يشهدها المجال العام في مصر منذ إطلاق الرئيس السيسي دعوته للحوار الوطني في أبريل 2022.

إن إنهاء ملف الحبس الاحتياطي في مصر اعتُبر من أهم الموضوعات التي طُرحت على طاولة الحوار الوطني – الذي كان يُعوَّل عليه بصورة كبيرة من قبل الحقوقيين والقانونيين، خصوصًا بعدما أعلن الرئيس السيسي عن تدشين الحوار الوطني في أبريل 2022- باعتبار أن هذا الملف شهد تعارضًا كبيرًا بين البيئة التشريعية والممارسات الواقعية وأيضًا تناقضًا آخر جمع بين عدد من القوانين الخاصة بتنظيم الحبس الاحتياطي وبين أهداف الدولة في النهوض بالحالة الحقوقية، والتي بدأت بإطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في سبتمبر 2021، وإنهاء قانون الطوارئ في أكتوبر 2021، بالإضافة إلى إطلاق الحوار الوطني كدلالة وأداة قوية تضمن حرية الرأي والتعبير وغيرها من الآليات التي اتبعتها الدولة المصرية لإرساء دعائم الديمقراطية، فإنهاء ملف الحبس الاحتياطي جاء ضمن خطة الدولة الكبرى لتعزيز الحقوق والحريات، وضمان مستوى أعلى للمواطنين للتمتع بكافة حقوقهم وعلى رأسها الحقوق السياسية والمدنية.

مناقشات الحوار الوطني حول ملف الحبس الاحتياطي:

ضمن خطة الدولة المصرية لتعزيز الحقوق والحريات، جاءت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في سبتمبر 2021 -التي أطلقها الرئيس السيسي في سبتمبر 2021- والتي اعتبرت أن التوسع في الحبس الاحتياطي يشكل تهديدًا حقيقيًا للحق في الحرية الشخصية؛ حيث أوصت بإدخال تعديلات على هذا النظام، وهو ما جعل الحوار الوطني يخصص عددًا من الجلسات لمناقشة موضوع الحبس الاحتياطي وإصلاح منظومة العدالة الجنائية في مصر.

إن مناقشة ملف الحبس الاحتياطي بجلسات حقيقية شهدها الحوار الوطني على مدار الفترة الماضية، يعكس جدوى الحوار الوطني وفاعليته في التعاطي مع القضايا التي تمس وتهم المواطن في الشارع المصري، ومدى أهميته في تعزيز التواصل مع المؤسسات التنفيذية والتشريعية لصياغة الأطر السياسية والقانونية والاجتماعية الصحيحة لملف الحبس الاحتياطي.

هذا وقد عقدت لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة جلساتها يوم 23 يوليو 2024، وشارك في مناقشاتها عدد من الشخصيات السياسية والحقوقيين وعدد من الأشخاص المفرج عنهم حديثًا، بالإضافة إلى الشخصيات العامة والنواب وممثلي الأحزاب ورؤساء بعض منظمات حقوق الإنسان وممثلون عن لجنة العفو الرئاسي. وتناول النقاش عددًا من الموضوعات، وهي:

  • مدة الحبس الاحتياطي
  • بدائل الحبس الاحتياطي
  • الحبس الاحتياطي عند تعدد الجرائم وتعاصرها
  • التعويض عن الحبس الاحتياطي الخاطئ
  • التدابير المصاحبة للحبس الاحتياطي

ومن الملاحظ من أبعاد النقاشات أنها جاءت لتغطية كافة جوانب الأزمة وأبعادها بالإضافة إلى تأثيراتها وامتداداتها عبر الزمن كقراءة واعية من قبل المشاركين في جلسات الحوار الوطني على المناقشة الواعية والتناول السليم لهذه الأزمة وذلك للوصول إلى توصيات حقيقية تؤدي إلى نتائج واقعية وملموسة.

إن إصلاح ملف الحبس الاحتياطي في مصر سيعزز من فعالية النظام القضائي ويمنح الثقة للمواطنين في قدرة الدولة على تحقيق العدالة، كما أن تحسين الإجراءات المتعلقة بالحبس الاحتياطي سيسهم في ضمان حق المتهمين في الحصول على محاكمة عادلة وفي وقت معقول، كما أن تقليص فترات الحبس الاحتياطي وضمان عدم استغلاله ستعد وسيلة فعالة لتحسين معاملة المتهمين واحترام حقوقهم القانونية والإنسانية وبالتالي فإن تطوير هذا الملف يعتبر من الخطوات الضرورية في دعم الحريات العامة وتوفير بيئة قانونية تحمي الحقوق المدنية وسيادة القانون.

ولقد استغرقت المناقشات خلال الجلسات ١٢ ساعة متواصلة، شارك خلالها حوالي ١٢٠ متحدثًا من مختلف الانتماءات، بواقع ٧٥ ساعة عمل لمجلس الأمناء و١٨٠ ساعة عمل للأمانة الفنية للحوار الوطني، وبلغ إجمالي التوصيات ٢٤ توصية، حيث تم التوافق بشكل كامل على ٢٠ منها، وهناك ٤ توصيات تضمنت أكثر من رأي لآلية تنفيذها، وقد جاءت هذه التوصيات بعد مناقشات مستفيضة وآراء متنوعة بين أعضائه، طبقًا للإجراءات المقررة بلوائح الحوار من خلال الجلسات العامة ولجان الإعداد والصياغة، وتقديمها من مقرري المحور السياسي ومقرري اللجنة، ثم عرضها على مجلس الأمناء، هذا وقد اختتم الحوار الوطني مناقشاته بشأن الحبس الاحتياطي يوم الاثنين ١٩ أغسطس الجاري، وقدم توصياته للرئيس عبد الفتاح السيسي.

دلالات المناقشات حول الحبس الاحتياطي:

يعكس التركيز على إنهاء ملف الحبس الاحتياطي إرادة سياسية واضحة حول ملف ظل مسكوتًا عنه لسنوات طويلة، خاصة وأنه من أكثر القضايا التي أثارت جدلًا واسعًا في أوساط القانونيين والحقوقيين نظرًا للأزمات المتلاحقة التي يتسبب بها، فالتركيز على إنهائه وفي هذا التوقيت يحمل دلالات قوية، فقد نجح الحوار الوطني في تحقيق تفاعل جاد بين جميع القوى السياسية والشبابية والحزبية والنقابية والمجتمع المدني، ليأتي دور القيادة السياسية في تنفيذ وترجمة مخرجاته التي تعد ركيزة مهمة لخلق مساحات مشتركة، فقد كسر هذا الحوار على طاولته كافة الخطوط الحمراء وتطرق لأكثر القضايا الشائكة التي تهدف إلى تحقيق عدالة جنائية وطفرة كبرى في المنظومة القضائية من خلال تخفيف مدد الحبس الاحتياطي ومنح المحبوسين على ذمة قضايا فرصة حقيقية لإثبات البراءة دون ضياع سنوات عمرهم خلف القضبان.

هذا وقد تزامنت المناقشات حول ملف الحبس الاحتياطي مع قرارات الرئيس عبد الفتاح السيسي بالعفو عن 600 من المحكوم عليهم في جرائم مختلفة من الرجال والنساء في الثامن من أغسطس الجاري كخطوة استثنائية ذات بعد إنساني، وأيضًا ما قامت به لجنة العفو الرئاسي مسبقًا ضمن سلسلة المفرج عنهم سياسيًا والذين تجاوزوا الـ 1200 شخص يعكس حرص القيادة السياسية على توفير مناخ إيجابي يتناسب مع حالة الحوار الوطني الجارية في هذا التوقيت، ورغبة حقيقية لإنهاء ملف المحبوسين.

كما تتفاعل لجنة العفو الرئاسي بصورة إيجابية مع طلبات الإفراج التي ترسلها الأحزاب، وتتعاون اللجنة مع منظومة الشكاوى بالمجلس القومي لحقوق الإنسان التي تقدم هي الأخرى قوائمها للمحبوسين ممن تنطبق عليهم شروط ومعايير العفو.

كما أن جزءًا من مهام لجنة العفو الرئاسي إعادة المفرج عنهم إلى أعمالهم وجامعاتهم لاستكمال تعليمهم، وذلك للاستفادة من طاقاتهم وتوجيهها في الطريق الصحيح، سواء بالمساعدة في عودة البعض إلى أعمالهم أو توفير فرص عمل، حتى لا يتركوا فريسة لظروف اقتصادية واجتماعية صعبة. وأيضًا اشترك العديد من المفرج عنهم سياسيًا في جلسات الحوار الوطني، والذي اعتُبر من أفضل الممارسات في إنهاء الخصومات الموجودة بين أفراد المجتمع ولم شمل كافة أعضائه، وجلوسهم على طاولة واحدة للتفاوض من خلال تطبيق مفهوم العدالة التصالحية. وبالتالي، فإن توقيت الإصلاحات الحالية في ملف حقوق الإنسان يعكس التوجهات العامة للحكومة واستجابتها للتحديات الداخلية والخارجية.

ختاما:
إن قضية الحبس الاحتياطي والعدالة الجنائية من أولى القضايا التي تبناها الحوار الوطني خلال جلساته التحضيرية مع القوى السياسية المختلفة، وجلساته العامة، من أجل الوصول إلى مخرجات وتوصيات قابلة للتطبيق تحدث مزيدًا من التوازن في واحدة من أهم القضايا التي كانت من الخطوط الحمراء

فبعدما شهد ملف الحبس الاحتياطي كل هذا الجدل خلال الفترات السابقة، نحن الآن على أعتاب إنهاء هذا الملف بعد سلسلة من المناقشات الجادة والثرية بين المشاركين والمعارضين قبل المؤيدين، مما سمح بخلق مساحات مشتركة جعلت الجميع يأمل ويتوقع تغييرًا كبيرًا مع التعديلات التشريعية التي ستكون مع بداية الدورة التشريعية الجديدة أمام الجلسة العامة في مجلس النواب، فنحن أمام تطور حقيقي لملف حقوق الإنسان في مصر.

ولكننا بصدد التأكيد على أن تعزيز حقوق الإنسان هي عملية مستمرة وتراكمية الأثر، ولا تظهر نتائجها إلا بشكل متدرج، ومهما بذل من جهد أو تحقق من إنجاز في هذا المجال فإنه وفقًا للسرعة التي يعيش فيها العالم فإنه يحتاج للمزيد والمزيد من الجهد، وستظل بالطبع هناك تحديات واسعة والتي ستستوجب بذل المزيد من الجهد للتغلب عليها لضمان أعلى مستوى من الحرية.

سلمى عبد المنعم

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى