
جذور الأزمة: الأبعاد الرئيسية لأزمة شرق السودان
على مدار أربعة أعوام يمر خلالها السودان بمرحلة انتقالية مضطربة، احتل شرق السودان موضعه من الأزمة وشكل أحد مسارات المرحلة الانتقالية، وساهم في بلورة جانب مهم من تعاطي قوى الانتقال السياسي على كافة المستويات، من المركز للهامش ومن السياسي للأمني للاجتماعي.
وقد تبلورت الأزمة بشكل رئيس من تشكل المجلس الأعلى لنظارات البجا الذي اتخذ موقفًا معارضًا من مسار الشرق ضمن اتفاق جوبا للسلام. وعلى مدار أكثر من ثلاثة أعوام احتدمت فيها الأزمة تارة وهدأت تارة أخرى، فإنها لا تزال تشكل تهديدًا لأية تسوية سياسية وحكومة مدنية مقبلة، كما كان الحال مع إغلاق الشرق في سبتمبر 2021، والذي فاقم الضغط على حكومة عبد الله حمدوك.
أزمة ترتبت على تنفيذ المسار
تبلورت ملامح أزمة شرق السودان في وقت مبكر من المرحلة الانتقالية السودانية؛ إذ شهد شرق السودان حالة من الإغلاق والاعتصام في 2019، كذلك ثار الاقتتال والعنف القبلي في ولايات شرق السودان بدءًا من المواجهة بين البني عامر والهدندوة في نوفمبر عام 2019 وامتد الصراع في دورات متعددة على مدار عام 2020، بين البني عامر والنوبة، أدى إلى اتخاذ والي البحر الأحمر عبد الله شنقراي قرارًا بحظر التجوال في الولاية في أغسطس 2020.
ورغم ضغط مجلس البجا من أجل عزل والي البحر الأحمر في يونيو 2021، بعد عام من توليه منصبه، نظرًا لرغبتهم في أن يتغاضى عن ممارساتهم الرامية إلى حرمان بعض المواطنين من العمل الرسمي في بعض المواقع الحكومية والعامة بزعم تلافي الصدام بين مكونين قبليين وكذلك ضغطهم على الكثير من الشركات والمؤسسات الوطنية وأماكن التعدين لفصل العاملين من مكون بني عامر والحباب؛ فإنهم عادوا إلى التصعيد مرة أخرى ضد الوالي الجديد عبد الله أدروب، رغم كونه ينتمي إلى الهدندوة، لكنه اتخذ مسافة واحدة من الجميع.
فقد قدم استقالته في يونيو 2022 بعد اعتصامات أمام حكومة الولاية في مدينة بورتسودان، مما خفف من حدة الأزمة، لكنها أثارت الخلافات داخل مجلس البجا وخاصة مع رفض تيار الناظر ترك في ذلك التوقيت لاستخدام التصعيد، مما دفعه إلى تقديم استقالته.
ويشار إلى نوفمبر 2019 بوصفه البداية لسلسلة العنف القبلي في الشرق والقائم على أبعاد سياسية؛ إذ كانت الندوة التي نظمها الأمين داوود ممثل حزب الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة في مسار الشرق، للتعريف بالمسار ضمن اتفاق جوبا، أحد عوامل التصعيد من قبل المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة بقيادة محمد الأمين ترك ناظر قبيلة الهدندوة، ونشوب الصراع بين بني عامر والنوبة في بورتسودان، وكانت هذه المناسبة التي وقع فيها الصلح بين الطرفين وفقًا لنظام القلد –وهو عرف قبلي للبجا- ترغب في تطبيقه وفقًا لتصوراتها لما ينبغي أن تكون عليه بنود إحلال السلام بالشرق.

وكان الخلاف على تعيين الوالي الجديد عمار علي صالح المنتمي لقبيلة البني عامر هو الحافز للعنف الذي شهدته كسلا في أغسطس 2020؛ إذ تجمعت حشود تابعة للناظر ترك رفضًا لتعيين الوالي الجديد بينما احتشدت وفود أخرى مناصرة لتأييده من البني عامر وكذلك من قوى الحرية والتغيير، أدت في النهاية إلى اتخاذ رئيس الوزراء الانتقالي عبد الله حمدوك قرارًا بإعفاء الوالي عمار صالح، رضوخًا للضغوط التي تمت ممارستها في الشرق. وكانت ولاية كسلا قد شهدت أحداث عنف مماثل أدت في 12 مايو 2022 إلى اتخاذ والي الولاية المكلف حينها عادل عثمان محمد الحسن باتخاذ قرار بحظر التجوال في الولاية لمدة 24 ساعة.
وقد أضاعت مواقف المجلس الأعلى للبجا حظوظ ممثليهم في المجلس السيادي والحكومة الاتحادية وولاة الولايات، خاصة مع تخصيص مسار الشرق نسبة 30% من التمثيل للموقعين على المسار (حزب مؤتمر البجا المعارض، والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة) و70% لأصحاب المصلحة بمن فيهم من قيادات مجلس البجا. هذا إلى جانب ضمان تمثيل أبناء الشرق بنسبة تصل إلى 14% في وظائف الخدمة المدنية في الولايات الثلاث تحت إشراف مفوضية الخدمة المدنية، على نحوٍ يضمن التمثيل العادل لأبناء الشرق.
وبهذه النسبة، فإن حظوظ ممثلي الشرق في المسار والمحسوبين على البني عامر ستكون أعلى من حظوظ البجا وهو أمر مرفوض بالنسبة لهم، على نحوٍ أثار مواقف رافضة لأية تعيينات مترتبة على مسار الشرق.
وفي هذا السياق، مارس البجا ضغوطًا على والي البحر الأحمر السابق عبد الله شنقراي الذي تولى منصبه في يونيو 2020 بدعوى التواطؤ مع اللجنة الأمنية في ولاية البحر الأحمر، لكن تمثل الدافع الرئيس في الضغط عليه رغبة البجا في تغاضي الوالي عن ممارسات بحرمان بعض المواطنين من العمل الرسمي في بعض المرافق الحكومية والعامة بدعوى تلافي الصدام بين مكونين قبليين بسبب العرف القبلي “القلد”. وكذلك ضغط البجا على كثير من الشركات والمؤسسات الوطنية لفصل وتجميد العاملين من مكون بني عامر والحباب، وحتى في أماكن التعدين.
ولم تتوقف حدود الضغط على المسؤولين الرسميين والمعينين في الشرق إلى هذا الحد، بل إنه وفقًا لبروتوكول مسار الشرق، فإن وزارة التربية والتعليم في حكومة حمدوك كانت من نصيب أسامة سعيد رئيس مؤتمر البجا المعارض، لكن ظلّ هذا المنصب شاغرًا؛ خشية إثارة الغضب والتصعيد.
أزمة التمثيل في مسار الشرق

وترتبط الأزمة بشكل رئيس برفض الحزبين الذين مثلا الشرق في مسار جوبا وهما: حزب مؤتمر البجا المعارض بقيادة أسامة سعيد، والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة بقيادة خالد شاويش؛ الذين رفضتهم قيادات مجلس البجا المعارض باعتبار أنهم لا يمثلون قبائل الشرق وأن البني عامر وافدة على شرق السودان.
كان حزب “مؤتمر البجا” جزءًا من التحالف الوطني الديمقراطي الذي كان يقود المواجهة ضد حكومة البشير بقيادة موسى محمد أحمد الذي كان يرأس رئاسة حزب مؤتمر البجا وجبهة الشرق حينها، وشارك في العمليات التي كانت يقودها من إريتريا، وبعد توقيع اتفاق نيفاشا 2005، تم توقيع “اتفاقية سلام شرق السودان” في أسمرا عام 2006، والتي ترتب عليها تخصيص صندوق لإعادة إعمار الإقليم، لكن لم تنفذ حكومة البشير سوى مشاركة أهل الشرق في السلطة التنفيذية، وحال الفساد دون أن يلعب “صندوق تنمية شرق السودان” دورًا ملموسًا.
وعلى ذكر صندوق الشرق، فإن نص مسار الشرق في اتفاق السلام قد عكس موقف البني عامر من مظلمة تاريخية تتمثل في استئثار الهدندوة بإدارة الصندوق الذي تأسيس في 2007 وفقًا لاتفاق الشرق الذي رعته إريتريا، لهذا اشتمل الاتفاق على فقرة تنادي بضرورة إعادة هيكلة صندوق الشرق وتمثيل الموقعين على مسار الشرق في مجلس إدارته، أي ضمان تمثيل للبني عامر في الصندوق. وعلى هذا توعد قادة مسار الشرق بعودة عمل لجنة إزالة التمكين لمتابعة أين صرفت أموال المانحين ضمن صندوق إعادة إعمار الشرق.
حين بدأت حكومة الثورة بقيادة حمدوك عام 2019 مفاوضات جوبا مع الجبهة الثورية كان حزب مؤتمر البجا المعارض بقيادة أسامة سعيد إلى جانب الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة التي كان في قيادتها الأمين داؤود، أحد الحزبين المعارضين في الشرق، على نحوٍ أثار اعتراضات قادة مجلس البجا بحيازة المحسوبين على الجبهة الثورية الأهلية في تمثيل الشرق، بل إنهم يرون أن الشرق لم يشهد حروبًا تستدعي إفراد مسار له ضمن اتفاق السلام للجبهة الثورية، رغم ما شهده الشرق من آثار حرب 1997 في منطقة جنوب طوكر وضواحي كسلا، وظل المواطنون مهجرين من أماكنهم طيلة 20 عامًا.
وقد عرض رئيس البجا المعارض على موسى محمد أحمد –أحد مؤسسي مجلس نظارات البجا- أثناء توقيعه لاتفاق إعلان المبادئ في سبتمبر 2019 وقبل تكوين المجلس الأعلى للبجا، أن ينضم للمفاوضات تحت مظلة حزب البجا المعارض، لكنه وضع شروطًا جديدة من بينها نقل المفاوضات من جوبا إلى أسمرا والتفاوض وفقًا لاتفاق أسمرا.
وقد كان موسى محمد أحمد الذي دعا إلى تأسيس مجلس البجا، يشغل منصب مساعد رئيس الجمهورية حتى سقوطه، كجزء من اتفاق جبهة الشرق لعام 2006. وما إن أدركت بعض قيادات مؤتمر البجا في عام 2012 عدم تحقق سوى 25% فقط من بنود اتفاق أسمرا، قررت الخروج عن التزامات أي اتفاق مع الحكومة، ففي عام 2014 أجرى أعضاء حزب مؤتمر البجا اتفاقًا مع الجبهة الثورية، لكن انسحب بعدها موسى محمد أحمد، وبقي أسامة سعيد ليقود حزب مؤتمر البجا – المعارض بصحبة آخرين، ومن هنا جاءت أهليتهم كمعارضين تحت مظلة الجبهة الثورية للتفاوض عن مظالم الشرق.
وبالتوازي مع مفاوضات جوبا، عقدت الحكومة مؤتمر أهل الشرق في 2019 بالخرطوم وشاركت كل أطراف شرق السودان بأوراق تم تضمينها بعد ذلك في بنود اتفاق الشرق، حتى رفض موسى محمد أحمد والناظر ترك المشاركة في المؤتمر، لأنهما كانا يريدان مؤتمرًا يقتصر على مكون “البداويت”.
وقد أقام مجلس البجا مؤتمر سنكات الأول، والذي كان من ضمن مخرجاته رفض مسار الشرق وتشكيل منبر تفاوضي جديد، والإعمال بنظام القلد ذلك التقليد البجاوي وترسيم الحدود بين القبائل ومر الهوية الوطنية لبني عامر والحباب.
وأوصى مؤتمر سنكات الذي عقد في سبتمبر 2020 تحت شعار “مؤتمر السلام والتنمية والعدالة” بإقليم موحد لولايات شرق السودان وفق الحدود الجغرافية التاريخية، وتكوين تنسيقية عليا مشتركة بين كافة مكونات الإقليم، علاوة على رفض التدخلات الخارجية، وفي حال عدم تحقيق مطالبهم لوح المجلس بالذهاب لحق تقرير المصير.
وطالب المؤتمر بإلغاء مسار الشرق وأن يكون هناك منبر تفاوضي جامع لأهل الشرق، فضلًا عن إيقاف عمليات التعدين والشركات المركزية إلى حين وضع أسس تحقق مصلحة المنطقة، فضلًا عن إعادة تطبيق نظام القلد وإعادة ترسيم الحدود بين القبائل.
أزمة التصعيد ضد الحكومة الانتقالية

تجدر الإشارة إلى أزمة الشرق بوصفها أحد محركات الأزمة التي أفضت في النهاية إلى حل الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، حينما أغلقت الموانئ والطرق الرئيسية؛ نظرًا لعدم إلغاء حكومة حمدوك لمسار الشرق. وبعد قرارات 25 أكتوبر 2021، نجحت السلطات حينها في تهدئة الأزمة بتعليق مسار الشرق لمدة أسبوعين لحين توافق أهل الشرق وتكوين لجنة عليا لجبر الضرر وجلوس أطراف الشرق لمناقشة أزمات الإقليم المزمنة.
وقد عاود المجلس التهديد بالتصعيد مرة أخرى مع انتهاء المهلة التي تم إعطاؤها للحكومة متمسكين برفض المسار كلية لا تجميده، لكن بعد اجتماع مع اللجنة العليا برئاسة حميدتي في ديسمبر 2021 تم تمديد المهلة مرة أخرى التي انتهت في 4 ديسمبر 2021، وذلك بعد أن رفع المجلس الحصار على ميناء بورتسودان والطرق القومية مطلع نوفمبر ولمدة شهر لمنح الحكومة مهلة لحل الأزمة التي تفاقمت مع فرض الحصار في 17 سبتمبر، ومهدت لقرارات 25 أكتوبر 2021، بعد أن التقى بالناظر ترك وفدًا من البعثة الأممية للعب دورًا في الوساطة بين الحكومة الانتقالية ومجلس البجا.
ربما تصور الناظر ترك تحقيق مكاسب بانضمام مجلس نظارات البجا ومجموعات أهلية أخرى رافضة بانضمامها للكتلة الديمقراطية التي مثلت الإسناد للمجلس السيادي وكذلك عامل ضغط على الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية الممثلة في قوى الحرية والتغيير.
وتعززت هذه التصورات من انضمام ترك وجناح مؤيد له من مجلس نظارات البجا للكتلة الديمقراطية التي كانت المرتكز الرئيسي لاعتصام القصر الذي ارتكز على جناح من قوى الحرية والتغيير سميت بتيار ميثاق التوافق الوطني، الذي كان رافضًا لتصور الحرية والتغيير المركزي في إدارة المرحلة الانتقالية وطالب بتوسيع قاعدة المشاركة وحل الحكومة الانتقالية، وهي الحركة التي شكلت أساس تشكيل الكتلة الديمقراطية، والتي فهمت بأنها محاولة لإلحاق قوى الإسلام السياسي ولاقت رفضًا قاطعًا من قوى الثورة.
ولاقى هذا الاعتصام حشدًا موازيًا له من مركزي الحرية والتغيير تحت مسمى مليونية الطوفان ردًا على مواكب تثبيت الثورة التي حركها تيار ميثاق التوافق الوطني. ويبدو أن الغلبة كانن لتيار ميثاق التوافق الوطني، الذي تزامنت احتجاجاته في العاصمة الخرطوم مع أزمة إغلاق طرق وموانئ شرق السودان التي حركها مجلس البجا، بانحياز رئيس المجلس السيادة لمطالبهم بحل الحكومة الانتقالية وتعليق العمل بالوثيقة الدستورية التي أسست للشراكة بين مكوني الحكم الانتقالي.
وما إن حلت الحكومة الانتقالية، قام مجلس البجا بتعليق ورفع الاعتصامات والإغلاق في الشرق وإمهال المركز مهلة لإلغاء مسار الشرق كلية وفقًا للمطالب المعلنة. وبعد أن كان أنصار مجلس البجا ليس معترفًا بهم كممثلين رسميين عن مطالب الشرق، باتت كتلة لا يمكن تجاوزها في معادلات الانتقال السياسي، إلا أنه تم تجاوز الكتلة الديمقراطية كلية ضمن التوافق السياسي الذي ترعاه الآلية الثلاثية والذي أسس الاتفاق الإطاري، ما دفع بالأزمة إلى مرحلة جديدة.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية