مصر

التجربة السنغافورية: أوجه استفادة الأكاديمية الوطنية للتدريب من تجربة الإصلاح الإداري في سنغافورة

رغبة من مصر في الاستفادة من التجربة المتقدمة التي تتميز بها سنغافورة في الإصلاح الإداري والتي دائمًا ما توصف بأنها دولة إدارية وتنموية ومؤسسية، التقت الدكتورة رشا راغب- المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب، بالسفير دومينك جو- سفير سنغافورة في مصر، الثلاثاء الماضي (14 مارس) بمقر الأكاديمية الوطنية للتدريب، وتمت مناقشة ملف التعاون المشترك بين الأكاديمية والعديد من الجهات بدولة سنغافورة مثل كلية الخدمة المدنية وبرنامج التعاون السنغافوري، مع إمكانية عقد ورشات عمل مشتركة لمناقشة أفضل الممارسات المهنية في مجال خدمة الجمهور، والأدوات العملية التي تضمن تقديم خدمات متميزة للمواطنين، مع دراسة إمكانية إجراء زيارات ميدانية للمؤسسات التي تعمل في مجال خدمة المواطنين في سنغافورة والاستفادة من خبراتها لتحقيق أهداف التنمية الإدارية في القطاع العام المصري.

وكما هو معروف أن الأكاديمية الوطنية للتدريب تأسست بقرار رئيس الجمهورية رقم 434 لسنة 2017، على غرار المدرسة الوطنية الفرنسية للإدارة، من منطلق التزام الإدارة المصرية بالتعلم المستمر وتدريب وتأهيل الكفاءات من كل الفئات والطبقات الاجتماعية، لخلق مجموعة من المسؤولين يتمتعون بالكفاءة العالية وتمكينهم من شغل الوظائف والمناصب العليا في مؤسسات الدولة، والارتقاء بكفاءة موظفي الجهاز الإداري بالدولة من خلال تقديم برامج تعلّم رائدة. فكيف تستلهم مصر من خلال أكاديميتها الوطنية للتدريب من التجربة السنغافورية؟ وما أوجه الاستفادة من كلية الخدمة المدنية وبرنامج التعاون السنغافوري؟

مؤسسات التأهيل الإداري السنغافورية

  • كلية الخدمة المدنية(CSC):

تأسست كلية الخدمة المدنية في مارس عام 1971، وهي مؤسسة علمية وتدريبية متخصصة في تطوير قدرات ومؤهلات موظفي القطاع العام والنهوض بإمكانياتهم الإدارية، وتطورت الكلية منذ عام 2001 إلى منظمة تضم أربع إدارات، وخمسة معاهد تدريب هم: القيادة ومنظمة التنمية، والحوكمة والسياسة، والإدارة العامة، والقيادة للقطاع العام، والخدمة المدنية الدولية.

توفر الكلية لموظفي القطاع العام الفرصة لـ: تعلم وتبادل المعرفة، تطوير ثقافة الخدمة وتقريب وجهات النظر، وتبادل وجهات النظر وإنشاء شبكة حوار. كذلك تقدم الكلية الكثير من النشاطات المتنوعة، التي أهلت ومكنت المتدربين من بناء قدرات استراتيجية في الحكم والقيادة والإدارة العامة والإدارة من خلال: التدريب، والمحاضرات، والندوات، والمطبوعات والفعاليات التي تضم خبراء دوليين وقادة القطاع العام والخاص والأوساط الأكاديمية.

  • برنامج سنغافورة للتعاون (SCP):

في عام 1992، أُنشئ برنامج التعاون السنغافوري لتقديم تجربة التنمية في سنغافورة مع البلدان النامية الأخرى على أساس الاعتقاد بأن تنمية الموارد البشرية هي مفتاح بناء الدولة، من خلال العمل مع أكثر من 50 شريكًا محليًا ودوليًا، لإجراء أكثر من 300 برنامج سنويًا. ومنذ عام 2015، تتماشى جميع برامج الاستهلاك والإنتاج المستدامين مع خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030 وأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، والتي تعد بمثابة خارطة طريق مفيدة للبلدان في رحلتهم التنموية.

وشارك برنامج التعاون السنغافوري خبراته التنموية مع ما يقرب من 150.000 مسؤول حكومي من 180 دولة وإقليمًا ومنظمة حكومية دولية. يدير برنامج التعاون السنغافوري إدارة التعاون الفني التابعة لوزارة الخارجية السنغافورية.

وقد شارك أكثر من 100.000 مسؤول في دورات برنامج سنغافورة للتعاون التي عقدت في سنغافورة، بينما حضر آخرون دورات للبرنامج في أجزاء أخرى من آسيا والمحيط الهادئ، وأفريقيا، والشرق الأوسط، وأوروبا الشرقية، وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. ففي كل عام يتم تنظيم حوالي 300 دورة يتدرب بها قرابة 7000 مسؤول حكومي.

تجربة الإصلاح الإداري في سنغافورة

كان تحول سنغافورة من دولة نامية ما بعد الاستعمار ملحوظًا بشكل كبير، ولعب القطاع العام دورًا رئيسًا في هذا التحول. ونظرًا للطبيعة التداخلية للدولة السنغافورية وصفت سنغافورة بأنها دولة إدارية وتنموية ومؤسسية، وسعت خطة إصلاح الخدمة المدنية للقرن الواحد والعشرين إلى ترسيخ مفهوم الدولة الإدارية والابتعاد عن نموذج الإصلاح من “أعلى إلى أسفل” الذي اتبع خلال فترة الثمانينيات، وفيما يلي مراحل الإصلاح الإداري في سنغافورة: 

  • بداية الإصلاح الإداري: 

قامت الحكومة السنغافورية في عام 1959 بوضع برنامج إصلاحي هدف إلى التخلص من الممارسات الإدارية التي تم وضعها خلال الفترة الاستعمارية، وبدأ بعملية إصلاح إداري قائم على مجموعة من الخصائص وهي: القواعد، والجدارة، والنظام الوظيفي، والموضوعية، وتقسيم العمل والتسلسل الهرمي.

1- ففي عام 1959 مع إنشاء “مركز دراسة السياسات” الذي تم تصميمه، وهدف إلى: التحضير للاستقلالية، من خلال وضع مدونة سلوك إداري يقوم بتعيين موظفين محليين مؤهلين وتكييف الخدمة المدنية مع الظروف المحلية؛ حيث يتطلب الانتقال من دولة استعمارية إلى دولة إنمائية تغييرًا في ثقافة الخدمة المدنية، وتمثلت مبادئ مركز دراسة السياسات في:

– رفع وعي موظفي الخدمة المدنية بالمشاكل التي تواجه سنغافورة. 

– الاحتفاظ بالترقية على أساس الجدارة بدلًا من الأقدمية من النظام البريطاني القديم.

– تم تشكيل لجنة الخدمة العامة، التي تأسست عام 1951، على غرار لجنة الخدمة المدنية البريطانية. ويذكر أن “تقاليد الخدمة المدنية البريطانية القوية أنتجت إدارة فعالة وخالية من الفساد ونجحت في تنفيذ سياساتها التنموية”.

– الجدارة السياسية القوية لسنغافورة التي تعمل على مكافحة الفساد، وتم التأكيد على أن الخدمة المدنية يجب أن توظف أفضل المؤهلات.

– التركيز على المنح الدراسية؛ من أجل تطوير بنية الطبقة الاجتماعية داخل الخدمة المدنية، على الرغم من تراث نظام الخدمة المدنية في المملكة المتحدة الذي تهيمن عليه تقليديًا نخبة “أوكسبريدج”.

2- كذلك كان هناك وكالة لمكافحة الفساد “مكتب تحقيقات الممارسات الفاسدة”: الذي تم إنشاؤه في الأصل في ظل الحكومة الاستعمارية في عام 1952، ولكن تم منحه صلاحيات جديدة في عام 1960. إذ التزم حزب العمل الشعبي حينها بشكل علني بسياسة صارمة لمكافحة الفساد على نحو مستدام.

3- بدأ وضع القطاع العام “في مقعد القيادة” مع خطة التنمية الأولى 1961-1964. واحتاج حزب العمل الشعبي إلى دعم الخدمة المدنية في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لضمان بقائه في المنصب. ولتحقيق ذلك، قاموا بتخفيف العبء الإداري وإنشاء ملف لبناء قدرات العاملين.

  •  فترة الثمانينيات:

تم إعادة هيكلة الإصلاحات لتحسين القطاع العام من خلال إصلاح النظم المالية والضريبية ومكافحة الفساد، بالإضافة إلى إجراءات الخصخصة ضمن نطاق المصلحة العامة وتحت رقابة الجهاز الحكومي.

وضمن الإطار الزمني للآلية الوقائية الوطنية، كان هناك بعض التفويضات لسلطة الميزانية للوزارات ابتداءً من عام 1989، وهكذا سُمح للوزارات بالمشاركة في الإدارة المالية دون تدخل من وزارة المالية. وكان هذا بمثابة بداية نهاية “نظام التخطيط، البرمجة والموازنةPPBS ” الذي تم تقديمه في عام 1974. 

  • فترة التسعينيات: 

بحلول تسعينيات القرن الماضي، كان هدف الحكومة هو تحقيق وضع دولة متطورة مكشوفة، وبدا أن استراتيجية التنمية الحكومية أثبتت كفاءتها؛ حيث:

1- الخدمة المدنية في سنغافورة أكملت بنجاح الانتقال من الإدارة الاستعمارية إلى إدارة التنمية ويبدو أنها دخلت مرحلة ثالثة، وهي مرحلة إدارة الخدمة. وقد أفاد “كوه” في أول خطاب له كرئيس للوزراء في عام 1991، بأن البيروقراطية يجب أن تتبنى “ثقافة الخدمة”. ومنذ بداية التسعينيات، كان التركيز على الحاجة إلى الاحتفاظ بأفضل العناصر في الخدمة المدنية.

2- أدركت سنغافورة أنه من أجل الحفاظ على “إدارتها التكنوقراطية”، يتعين عليها التنافس مع القطاع الخاص من حيث الأجور وشروط الموظفين، ومن هنا جاءت سياسة “الراتب الموازي” لذا نجد أن الكتاب الذي قدم إلى البرلمان السنغافوري في 21 أكتوبر 1994 تحت عنوان: “الرواتب التنافسية للحكومة المختصة والنزيهة: معايير للوزراء وكبار الموظفين العموميين”، كرس مفهوم التكافؤ مع رواتب القطاع الخاص، والذي كفل عمليًا أن يكون موظفو الخدمة المدنية في سنغافورة هم الأفضل أجورًا في العالم.

3لا يعتبر الفساد قضية إدارية، ويرجع ذلك أساسًا إلى حصول الموظفين المدنيين على رواتب تنافسية ومتساوية مع القطاع الخاص. وإخفاء القرارات التي تتخذ على أساس المصلحة الذاتية. 

  • الإدارة الجديدة 1995:

الإدارة الجديدة أوجدت إصلاحات جعلت سنغافورة تتماشى مع الآلية الوقائية الوطنية الدولية؛ حيث تم الإعلان عن إصلاحين رئيسين في منتصف التسعينيات: إطلاق الخدمة العامة للقرن الحادي والعشرين، وإعداد الميزانية من أجل النتائج.

أولًا- إطلاق الخدمة العامة للقرن الحادي والعشرين في مايو 1995: 

  •  كان لها هدفين، الأول، هو تعزيز موقف التميز في الخدمة في تلبية احتياجات الجمهور بمعايير عالية من الجودة واللياقة، والثاني، هو تعزيز بيئة تحفز وترحب بالتغيير المستمر من أجل مزيد من الكفاءة والفعالية من حيث التكلفة من خلال استخدام أدوات وتقنيات الإدارة الحديثة مع الانتباه إلى معنويات ورفاهية الموظفين العموميين. وعلى الرغم من أن الهدف الأول كان جعل الخدمة المدنية “ملموسًا”. والهدف الثاني يسعى إلى خلق “ثقافة تنظيمية ومعايير مختلفة”، إلا أن الهدفان ليسا متعارضين، ومن أجل تحقيقهما كان ينبغي التركيز على أربعة مجالات للخدمة العامة وهي: رفاهية الموظفين، المراجعة التنظيمية، والخدمة الجيدة، التميز من خلال المؤسسة والتعلم المستمر “والذي يشمل فرق العمل ودوائر الجودة ونظام اقتراحات الموظفين”. ومع ذلك، فإن أهم متطلبات الخدمة العامة للقرن الواحد والعشرين، هو جعل الموظفين العموميين يتقبلون التغيير المستمر.
  •  تعمل كل لجنة وظيفية باستمرار على تطوير مؤشرات لقياس التقدم في المجالات التي تقع ضمن اختصاصها، ووجود دراسات استقصائية دورية لتحديد مدى فعالية الخدمة العامة للقرن الحادي والعشرين في تغيير المواقف بين الموظفين العموميين وتصور الجمهور للخدمة العامة.
  •  إنتاج مكتب الخدمة العامة مجلة شهرية، مخصصة للمعلومات حول المبادرات والأنشطة المتعلقة بالخدمة العامة تعكس هذه المجلة التأكيد على التعلم المستمر الذي يمثل جوهر فلسفة الخدمة العامة. 
  •  يعد التدريب أيضًا عنصرًا مهمًا، وكان من أحد أهداف الخدمة العامة للقرن الحادي والعشرين هو أنه بحلول عام 2000، يجب ألا يقضي أي موظف أقل من 5٪ من وقت عمله في التدريب.

ثانيًا- إعداد الميزانية من أجل النتائج: كان أول ظهور لمفهوم “الميزانية من أجل النتائج” في ندوة وزارة المالية في يوليو 1994. ويبدو أن إعداد الموازنة من أجل النتائج كان موجه من قبل القيادة السياسية أكثر من الخدمة العامة للقرن الحادي والعشرين رغم أنه يعد أحد أهدافها؛ وذلك على نحو جعل التأثير السياسي يخدم الأهداف الإدارية.

كانت الخدمة العامة للقرن الحادي والعشرين، مبادرة خدمة عامة تهدف إلى تغيير المواقف والقيم بدلًا من التغيير الإجرائي أو التنظيمي. وقد تم الإعلان عن الدفعة الأولى من “اتفاقيات الشراكة AAs” تحت عنوان “الميزانية من أجل النتائج” في مارس 1996 وتم تنفيذها اعتبارًا من 1 أبريل 1996. كذلك تم إنشاء وحدة جديدة في وزارة المالية تسمى “الموازنة من أجل النتائج”. وكان الدافع الرئيس وراء إعداد الموازنة من أجل النتائج هو الرغبة في “جعل المؤسسات العامة تتصرف مثل القطاع الخاص”.  بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك حاجة متصورة لتقديم خدمة أفضل لجمهور أكثر تعليمًا، وكذلك لإعادة هندسة القطاع العام لشحذ القدرة التنافسية للاقتصاد؛ بحيث ينصب التركيز في إطار إعداد الموازنة من أجل النتائج على نواتج اتفاقيات الشراكة، مع كون النتائج من مسؤولية الوزراء. ولإعداد الموازنة من أجل النتائج عدة ميزات تتمثل في:

  • تحدد كل جهة حكومية مخرجاتها وتضع أهداف الأداء؛ بحيث يتم تقييم الأداء بناءً على أهداف محددة.
  • تعتمد الميزانية التشغيلية للوكالة على مستويات الإنتاج.
  • يمكن للوزارات ترحيل جزء من مدخراتها إلى السنة المالية التالية، لتمويل برامج جديدة، أو شراء معدات، أو مواجهة النفقات الطارئة.
  • ستتمتع الوكالات بأقصى قدر من الاستقلالية لتحقيق أهدافها. 

وبهذا يتضح أن اتفاقيات الشراكة التأسيسية حددت مؤشرات الأداء، كذلك أنه من الصعب الاختلاف مع “اتفاقيات الشراكة” لأنها تستند إلى مبدأ ربط الميزانيات بتحديد الأهداف والنتائج، ومع فكرة منح موظفي الخدمة المدنية مساحة أكبر للابتكار وأن يكونوا “متعاونين مع العملاء”.

وإلى جانب ذلك كان التطور الموازي لإعداد الموازنة من أجل النتائج هو انتقال واسع لوظائف الموظفين تم تقديمه في عام 1995. وشمل ذلك نقل وظائف التوظيف والترقية من لجنة الخدمة العامة، إلى عدد من مجالس شؤون الموظفين، جنبًا إلى جنب مع تفويض الإدارة المالية بموجب إعداد الموازنة من أجل النتائج، لم يعد يُنظر إلى هاتين الوظيفتين على أنهما “عمليات هامشية” ولكنهما “عناصر حاسمة” في تشغيل المؤسسات العامة.

وفيما يتعلق بالمساواة الاجتماعية وتوزيع الثروة، فإن أداء سنغافورة إيجابي مقابل دول جنوب شرق آسيا الأخرى. ويبدو أن التنمية الاقتصادية السريعة في سنغافورة قد ساعدت على تحقيق ظروف اجتماعية أكثر مساواة مع درجة معينة من الرفاهية. علاوة على التأكيد مرارًا وتكرارًا على طبيعة الجدارة للخدمة العامة في سنغافورة وهي إحدى مبادئ الحكم غير المكتوبة.

ومما سبق يتضح أن؛ مصر تتطلع من خلال تعاون الأكاديمية الوطنية للتدريب والسفارة السنغافورية، إلى الاستفادة من التجربة السنغافورية في مجال الإدارة العامة والخدمة المدنية كنموذج رائد لا بد من الوقوف عليه، ودراسته والأخذ به لكونه يتسم بالتميز والإبداع والشمولية؛ حيث سيتيح البروتوكول الموقع فرصة للتعاون بين الطرفين، والاستفادة من الخبرات السنغافورية الواسعة والغنية في مجال القطاع العام والحوكمة، وسيكون دعم كلية الخدمة المدنية حيويًا بالنسبة للأكاديمية الوطنية للتدريب؛ حيث سيتم تزويد قادة المستقبل من التنفيذين بالأكاديمية الوطنية للتدريب بالمهارات اللازمة للارتقاء بمسيرتهم المهنية وفقًا لأعلى المعايير العالمية.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى