الاقتصاد المصري

اتجاهات التمكين الاقتصادي وحلول الاستثمار الاجتماعي للفئات الأكثر استحقاقًا

يرتبط التمكين الاقتصادي والاستثمار الاجتماعي بعلاقة سببية ثنائية الاتجاه، فقد أثبتت الدراسات والأبحاث أن التمكين الاقتصادي يعزز مشاركة الأفراد في ممارسة الحقوق والحريات، واتخاذ وصنع القرارات على مستوى الفرد والمجتمع، فغالبًا ما تفتقر الفئات الأكثر احتياجًا إلى المهارات والثقة للمشاركة في صنع القرار المجتمعي. لذلك فإن السياسات العامة والبرامج والمبادرات والحملات المتعلقة باستهداف التمكين الاقتصادي لهذه الفئات تعزز -بشكل غير مخطط له دائمًا ومخطط له أحيانًا- بناء القدرات والمهارات لدى الفئة المستهدفة، مما يحقق استثمارًا اجتماعيًا طويل الأجل.

الاتجاهات العالمية للتمكين الاقتصادي

حتى وقت قريب، انصب الجزء الأكبر من أدبيات التمكين الاقتصادي على مناقشة سبل التمكين الاقتصادي للمرأة كاستراتيجية رئيسة في معالجة عدم المساواة بين الجنسين، بينما ركز الجزء الأصغر من هذه الأدبيات على مجالات التمكين الاقتصادي بشكل عام من خلال: تعزيز أصول الفقراء، والأشكال التحويلية للحماية الاجتماعية، وفرص التمويل الأصغر، والتدريب والتأهيل المهني والحرفي والمهارى والاجتماعي. بيد أنه خلال السنوات الأخيرة ظهرت عدة اتجاهات عالمية كحلول مبتكرة للتمكين الاقتصادي للفئات الأكثر احتياجًا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

  • التوجه “متناهي الصغر”: 

يضم التوجه متناهي الصغر كلًا من: التمويل متناهي الصغر، والمدخرات متناهية الصغر، والتأمين متناهي الصغر، والتأجير متناهي الصغر، وريادة الأعمال متناهية الصغر. وتمثل جميعها أحد أكثر اتجاهات التمكين الاقتصادي المعترف بها على نطاق واسع في معظم دول العالم، وتستهدف بشكل مباشر توفير الخدمات المالية أو الموارد والأصول، مثل القروض والمعدات وغيرها للأفراد والشركات الصغيرة، والتي تعاني من عدم قدرتها في الحصول على الخدمات من الجهات التقليدية لانعدام اشتراطات الحد الأدنى التي تفرضها تلك الجهات.

وبشكل عام، تتم أفضل الممارسات للتمكين الاقتصادي وخاصة التمويل متناهي الصغر عبر المؤسسات المالية للتنمية المجتمعية. ويمثل جهاز تنمية المشروعات أحد الأمثلة المصرية على ذلك؛ إذ يتضمن قنوات متعددة لتوفير تمويل وتأمين متناهي الصغر، في مقدمة هذه القنوات تأتي الجمعيات أو المؤسسات الأهلية المرخص لها بمزاولة نشاط التمويل متناهي الصغر، والتي تنقسم إلى ثلاث فئات بناء على قيمة محفظة الإقراض بالجمعية أو المؤسسة. وتصل قيمة تمويل الجهاز للجمعيات والمؤسسات الأهلية العاملة في مجال التمويل متناهي الصغر من 50 مليون جنيه إلى 5 ملايين جنيه للجمعية طبقًا للوائح والشروط، ويتراوح حجم القرض من خلال تلك الجمعيات إلى المواطنين المستهدفين من 25 ألف جنيه إلى 10 آلاف جنيه بشروط محددة، ومعلنة.

في ذات السياق، يتوسع الجهاز بشكل كبير في تقديم خدمات التمويل متناهي الصغر عبر قنوات أخرى إلى جانب الجمعيات الأهلية منها: البنوك، والمؤسسات المالية غير المصرفية (شركات التمويل متناهي الصغر). وقد ارتفعت بشكل ملحوظ قيمة أرصدة تمويل المشروعات متناهية الصغر وفق التقرير الصادر عن الهيئة العامة للرقابة المالية، وبلغت نسبة النمو بنهاية عام 2021 أكثر من 97 % بإجمالي نحو 27 مليار جنيه، مقارنة بنهاية عام 2020 والتي بلغت فيه أرصدة التمويل نحو 4.19 مليار جنيه، وتزامن مع هذا النمو زيادة أعداد المستفيدين بنسبة 40.10 %، بإجمالي قدره 5.3 ملايين مستفيد، وتمثل هذه القيمة أكثر من ضعف عدد المستفيدين عام 2020 والذي بلغ 2.3 مليون مستفيد جدول (1). 

نهاية عام 2021الفئة
النسبةأرصدة التمويلالنسبةعدد المستفيدين
%57.3415,538,278,630%41.741,458,888شركات
%36.859,985,229,873%51.171,788,524الجمعيات والمؤسسات الأهلية من الفئة (ا)
%2.73740,999,852%2.6592,667الجمعيات والمؤسسات الأهلية من الفئة (ب)
%3.08833,163,186%4.44155,258الجمعيات والمؤسسات الأهلية من الفئة (ج)
%10027,097,671,541%1003,495,337الإجمالي
جدول (1) تطور نشاط مشروعات التمويل متناهية الصغر في مصر حتى نهاية 2021المصدر/ تقرير الهيئة العامة للرقابة المالية https://fra.gov.eg/portals/microfinance/pdf/report-2021.pdf 

يصاحب التمويل متناهي الصغر بنسبة كبيرة في معظم دول العالم برامج للتأمين الإلزامي متناهي الصغر، وهو أحد أشكال التأمين المصمم خصيصًا للأفراد ذوي الدخل المنخفض بحيث يوفر تغطية لمخاطر مثل المرض والوفاة والأضرار في الممتلكات. وقد أصدرت الهيئة العامة للرقابة المالية قرارًا ينظم التأمين متناهي الصغر في مصر عام 2016، وحدد القرار الضوابط التي تتيح إصدار وتوزيع وثائقه إلكترونيًا. وقد بلغ عدد عملاء التأمين متناهي الصغر الاختياري لأنشطة تمويل المشروعات المتناهية الصغر نحو 15.551 عميلًا حتى عام 2021، فيما بلغ إجمالي عدد المنتفعين بالحماية التأمينية الإلزامية في نشاط تمويل المشرعات متناهية الصغر نحو 3.25 ملايين عميل. 

من جهة أخرى، تختلف ريادة الأعمال متناهية الصغر Micro-entrepreneurship عن التمويل متناهي الصغر في كونها تضم بشكل أساسي التدريب والتوجيه وتوفير الموارد لبدء الأعمال التجارية الصغيرة وتنميتها، ويمكن أن توفر التمويل بشكل غير أساسي إما مباشرة أو من خلال “التشبيك” مع قنوات التمويل وأصحاب المصلحة. على النقيض، يتفق التأجير متناهي الصغر Micro-leasing مع التمويل متناهي الصغر بشكل كبير، فهو يمثل أحد أشكال التمويل الذي يسمح للأفراد والشركات الصغيرة بالحصول على المعدات أو الأصول الأخرى التي يحتاجونها لبدء مشاريعهم كمعدات الزراعة أو الأدوات أو المركبات التي تمكنهم تنفيذ مشروعاتهم أو تطويرها. وقد أثبتت الدراسات الصادرة عن البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن توظيف الحلول متناهية الصغر بشكل عام كأداة للتمكين الاقتصادي يحسن مجموعة من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، كمستوى الدخل والصحة والتعليم.

  • الشمول المالي:

يشير الشمول المالي إلى توفير الخدمات المالية للوصول إلى الشرائح المجتمعية منخفضة الدخل التي لا تتوفر لديهم إمكانية الوصول إلى الخدمات المصرفية المناسبة مع احتياجاتهم مثل: حسابات التوفير والقروض، والخدمات المالية الرقمية؛ كالخدمات المصرفية عبر تطبيقات الهاتف والمحافظ الرقمية. وقد حدد البنك الدولي الشمول المالي بوصفه عامل تمكين لسبعة من أهداف التنمية المستدامة الأربعة عشر، والتي تستهدف القضاء على الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك من خلال اتباع نهج استراتيجي عبر استراتيجيات وطنية للشمول المالي تجمع بين الجهات التنظيمية المالية، ووزارات الاتصالات، وبعض الوزارات المعنية بحسب النظام السياسي لكل دولة.

وقد أكدت أبحاث البنك الدولي أنه عندما تضع الدول استراتيجية وطنية للشمول المالي، فإنها تزيد وتيرة الإصلاحات وتأثيرها. وهو ما يمكن تتبعه بوضوحه في التجربة المصرية؛ فبالتزامن مع إعلان البنك المركزي عن إطلاق استراتيجية الشمول المالي (2022-2025)، لتعزيز الشمول المالي للمجتمع وتحقيق النمو الاقتصادي، نجحت جهود المشروع القومي لتطوير الريف المصري “حياة كريمة” في تعزيز البنية التحتية للشمول المالي من خلال إتاحة باقة متنوعة من الخدمات والمنتجات المالية والمصرفية منها:

  • توزيع 380 ماكينة صراف آلي جديدة في قرى المشروع.
  • إتاحة أكثر من 70 ألف بطاقة ميزة مدفوعة مسبقًا للأهالي داخل قرى حياة كريمة.
  • تقديم تمويلات متناهية الصغر بقيمة تخطت ملياري جنية لرائدي الأعمال وأصحاب المشروعات داخل القرى.
  • فتح أكثر من 36 ألف حساب بنكي، وأكثر من 9 آلاف محفظة هاتف محمول للأهالي داخل قرى حياة كريمة.
  • الوصول إلى أكثر من 62 ألف مستفيد للخدمات المصرفية المباشرة وغير المباشرة.
  • تنفيذ 253 جلسة تشاورية وندوات تعريفية لأهالي القرى حول مبادئ الشمول المالي للأفراد والشركات، والتعريف بكافة الخدمات والمنتجات المالية المتاحة داخل كل قرية.

حلول الاستثمار الاجتماعي

يسعى الابتكار الاجتماعي في الوقت الراهن إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال تقديم خدمات جديدة ونماذج تنظيمية وإدارية في الإنتاج والاستثمار بطريقة مستقلة تحقق الاستدامة المالية اللامركزية دون الاعتماد على الدعم المالي العام والتمويل المشروط، بل من خلال دعم ريادة الأعمال الاجتماعية، والاستثمار ذي الأثر نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

وتمثل ريادة الأعمال الاجتماعية نوعًا جديدًا من الأعمال التجارية التي يتطور بنجاح في العالم، من خلال خلق الثروة الاجتماعية للحد من الفقر وتحسين مقياس التنمية الاجتماعية، وتحقيق أثر اجتماعي وبيئي ملموس لحلول التحديات المختلفة مثل: تحدي تحقيق الرفاهية المستدامة، والمساواة بين الجنسين، وتنمية المهارات ومحو الأمية الحديثة (كالأمية التكنولوجية – الأمية المالية).  

  • حلول الاقتصاد الدائري والرفاه المستدامة:  

يمثل دعم الاقتصاد الدائري وتقليل الهدر والحد من انتاج النفايات أحد حلول الاستثمار الاجتماعي، وذلك من خلال تطبيق التصاميم ونماذج الأعمال المستدامة، وتغيير أشكال وأنماط الاستهلاك لتقليل هدر الموارد الطبيعية، والمشاركة في نشر ثقافة إعادة الاستخدام وإعادة التدوير في مجال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. وبشكل أكثر تحديدًا، تضع المنظمات الملتزمة بالاقتصاد الدائري في الحسبان التأثيرات الاجتماعية والبيئية في أعمالها.

وتمثل المؤسسات الاجتماعية الخضراء أحد الاتجاهات العالمية والإقليمية وأفضل الممارسات في الاستثمار الاجتماعي والريادة الاجتماعية، والتي تسعى إلى تعزيز الحلول لتحديات تحقيق الرفاهية المستدامة، حيث تتطلب رفاهية الإنسان إنتاج السلع والخدمات لتلبية الاحتياجات مع الحفاظ على الموارد وتقليل تداعيات البيئة وتغير المناخ الناتج عن الاستثمار بشكل عام.

وقد ظهرت في الآونة الاخيرة مجموعة من الحلول التي تسعى إلى تحقيق نظم غذائية مستدامة عبر الاستثمار الاجتماعي الذي تقوده بعض المؤسسات الاجتماعية في قطاع سلال الإمداد القصيرة مثل: حقول وحدائق وصوبات التكامل الاجتماعي، والزراعة الحضرية، وصناديق الأطعمة العضوية، ومحلات السوبر ماركت التعاونية، ومخازن المواد الغذائية السائبة.

  • حلول المساواة بين الجنسين (الجندرية):

كثفت العديد من مسرعات الشركات الناشئة في المؤسسات الاجتماعية وريادة الأعمال الاجتماعية استثماراتها نحو برامج تستهدف العدالة والمساواة لسد الفجوة بين التباينات العدالة في توزيع الموارد بين الجنسين، أو الرعاية الصحية أو التعليم أو الإسكان؛ وذلك من خلال البحث عن حلول لأفضل السبل التي يمكن أن تعالج بها المؤسسات الاجتماعية المشاكل والتحديات التي تنتج عن عدم المساواة في الفرص، أو التكيف لمواجهة الأوبئة والأزمات الاقتصادية والصحية المدمرة والتي تتأثر بها شرائح النساء والأطفال أكثر من الرجال، لذلك تتجه الحلول الابتكارية في الاستثمار الاجتماعي وريادة الأعمال الاجتماعية نحو تخصيص برامج للنساء مثل: إصدار سندات كسب عيش المرأة، والتي تركز على مساعدة النساء ورائدات الأعمال، ودعمهن اجتماعيًا وتمكينهن اقتصاديًا.

  • تنمية المهارات ومحو الأمية الرقمية والمالية:

تعد التقنيات الرقمية ركيزة مهمة لحلول الابتكار الاجتماعي، حيث توفر فرصًا واسعة في جميع القطاعات كالرعاية الصحية أو البيئة أو الإعاقة أو التعليم، لذلك تعد التقنيات الرقمية أداة لتضمين التحول الرقمي للمنظمات والمؤسسات الاجتماعية، والتي تمثل مصدرًا للتمويل وجمع التبرعات والمنح، ووسيلة مهمة لتحقيق الإدماج والتكامل الاجتماعي، من خلال توفير فرص عمل للفئات الأولى بالرعاية، أما محو الأمية المالية فيستهدف تثقيف الأفراد حول الإدارة المالية والتعامل مع الخدمات والمنتجات المصرفية.

ختامًا: يمكن القول إن ملف التمكين الاقتصادي والاستثمار الاجتماعي للفئات الأكثر استحقاقًا في مصر يحذو نهج الاتجاهات العالمية، ومن الممكن استشراف مستقبل الجهود المتبعة في هذا الملف عبر تتبع إنجازات المبادرات التي يطلقها التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، إلى جانب قياس نمو توطين المشروعات الصناعية الصغيرة ومتناهية الصغر ضمن مبادرة تطوير الصناعة المصرية “ابدأ”، بالإضافة إلى استقصاء تطور البنية التحتية في القرى المصرية التابعة للمشروع القومي “حياة كريمة” وعلاقتها بمؤشرات الرفاهية. 

+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

د. إسراء علي

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى