الاقتصاد المصري

واقع وتحديات التنمية الصناعية في مصر

أعادت الأزمات العالمية تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي، لتبدو وكأن أزمات العقود الأخيرة كانت بداية نهاية النظام الاقتصادي العالمي الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت العديد من الدول النامية، مثل الصين والهند، في مقدمة الركب الاقتصادي، اعتمادًا على مجموعة من الاستراتيجيات والسياسات التي ساهمت في تحقيق نمو اقتصادي سريع ومستدام، وبناء اقتصادات أكثر قدرة على الصمود أمام الصدمات الداخلية، من خلال سياسات داعمة لتوطين الاستثمار والصناعة وتقليل الاعتماد على الاستدانة، بإجراء إصلاحات اقتصادية وهيكلية فعالة، بالتركيز على التصنيع من أجل التصدير والاستثمار في البنية التحتية، والتعليم والتدريب للأيدي العاملة، وتشجيع ريادة الأعمال.

تراجع عالمي

كان لانتشار جائحة كورونا وفرض حالة الإغلاق التام والجزئي بمختلف دول العالم أثر بالغ على معدلات التداول التجاري والاستثمار العالمي. وقبيل التعافي التام من الآثار الاقتصادية للجائحة، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية لتلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي، لتنعكس في صورة اعتلال الأمن الغذائي لمختلف دول العالم، لتصل معدلات التضخم على إثرها إلى مستويات قياسية، ما دفع الفيدرالي الأمريكي -وبالتبعية مختلف البنوك المركزية لاتخاذ سياسات مالية صارمة- إلى رفع معدلات الفائدة للسيطرة على معدلات التضخم، وهو ما أدى إلى خروج الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة من الأسواق الناشئة، ومن بينها مصر.

على الجانب الآخر، أدت ظروف التمويل الأكثر صرامة، وعدم اليقين لدى المستثمرين، والتقلبات في الأسواق المالية، وبالنسبة لعمليات الاندماج والاستحواذ، والتدقيق التنظيمي الأكثر صرامة الذي انتاب الاقتصاد العالمي إلى تراجع معدلات الاستثمار المباشر. فقد بلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2023 حوالي 1.33 تريليون دولار، أي أقل بنسبة 2% عما كانت عليه في عام 2022. وتأثر الرقم الرئيسي بالتقلبات العنيفة في عدد صغير من اقتصادات القنوات الأوروبية، وباستثناء تأثير هذه القنوات، كانت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمية أقل بنسبة 10% عما كانت عليه في عام 2022. مع توقع صندوق النقد الدولي استمرار ضعف آفاق النمو واتجاهات الانهيار الاقتصادي والتوترات التجارية والجيوسياسية والسياسات الصناعية وسلسلة التوريد خلال عام 2024.

تشير مؤشرات صندوق النقد الدولي إلى تعاظم تأثير الأزمات المالية والاقتصادية الأخيرة على الدول المتقدمة عنها في الدول النامية. فوفقًا لتقرير الاستثمار العالمي لعام 2024، تركز نمو الاستثمار في البلدان النامية، حيث ارتفع عدد المشاريع بنسبة 15%. وفي البلدان المتقدمة، انخفضت الإعلانات عن المشاريع الجديدة بنسبة 6%.

وأوضح صندوق النقد الدولي أن للسياسات الداخلية للدول بالغ الأثر على تشجيع وجذب الاستثمارات. فكانت التحركات الرامية إلى تطبيق حد أدنى من الضرائب على أكبر الشركات متعددة الجنسيات سببًا في اتجاه تدفقات الاستثمار للتراجع عام 2023، فانخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلدان النامية بنسبة 7% لتصل إلى 867 مليار دولار. وانخفض عدد صفقات تمويل المشاريع الدولية بمقدار الربع. وقد زادت الإعلانات عن المشاريع الجديدة في البلدان النامية بأكثر من 1000، ولكن هذه المشاريع كانت شديدة التركيز؛ وشكلت منطقة جنوب شرق آسيا النصف تقريبًا، وسجلت منطقة غرب آسيا الربع، وسجلت أفريقيا زيادة طفيفة، في حين اجتذبت أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي عددًا أقل من المشاريع.

وعلى الجانب الآخر، ساهمت تدابير التسهيل المعتمدة في عام 2023 من قبل عدد من الدول في جذب اهتمام المستثمرين، وكان من أبرز التدابير المتخذة إدخال النوافذ الواحدة للموافقة على المشاريع الاستثمارية، والتي تشمل مختلف التراخيص والتصاريح ذات الصلة بالأنشطة الاستثمارية، إلى جانب إطلاق منصات إلكترونية لتأسيس الشركات.

وأظهرت اتجاهات الصناعة انخفاض الاستثمار في قطاعي البنية التحتية والاقتصاد الرقمي، ولكن نموًا قويًا في قطاعي التصنيع والمعادن الحيوية التي تعتمد على سلسلة القيمة العالمية. وأثر ضعف أسواق تمويل المشاريع سلبًا على الاستثمار في البنية التحتية، وواصلت قطاعات الاقتصاد الرقمي تباطؤها بعد انتهاء الطفرة في عام 2022، مما يُظهر تأثير ضغوط إعادة هيكلة سلسلة التوريد. كذلك انخفض الاستثمار الدولي في القطاعات ذات الصلة بأهداف التنمية المستدامة في البلدان النامية في عام 2023. في حين تشهد قطاعات الطاقة المتجددة والنقل نموًا في الاستثمارات، بينما كانت أعداد المشاريع في نظم الأغذية الزراعية والمياه والصرف الصحي أقل مما كانت عليه في عام 2015 عندما تم اعتماد الأهداف، وتشير المؤشرات إلى عدم عدالة توزيع المشروعات الاستثمارية المتعلقة بالأهداف العالمية فيتركز أغلبها بمنطقة آسيا، في حين تجتذب أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أقل من حصصها في جميع المشاريع.

وبوجه عام، لا يزال العالم منحصرًا في معدلات نمو منخفضة، إذ تشير التوقعات إلى بلوغ النمو العالمي نحو 3.2% هذا العام و3.3% في عام 2025، أي أقل كثيرًا من المتوسط الذي بلغ 3.8% منذ مطلع هذا القرن وحتى تفشي الجائحة. وهو ما يهدد سياسات مكافحة الفقر وعدم المساواة في كافة دول العالم وبخاصة الدول النامية. ومع ارتفاع الديون، وتباطؤ النمو، وزيادة العجز، لن يستغرق الأمر الكثير قبل أن يزداد تدهور مسارات الدين في العديد من البلدان، ولا سيما في حالة ارتفاع فروق العائد على السندات الحكومية في الأسواق، مما يفرض مخاطر على الاستقرار المالي. لذا يتعين معالجة المشكلة الأساسية المتمثلة في بطء النمو، بمكافحة ركود الإنتاجية؛ لاستعادة مسار تحقيق أهداف التنمية، فهناك حوالي 35% من أهداف التنمية المستدامة أصبحت في وضع أسوأ مما كانت عليه عند نقطة البداية عام 2015، فيجب أن تعود نسبة النمو الاقتصادي العالمي إلى طبيعتها بين 4 إلى 5%، وبالبلدان النامية إلى حوالي 8%، مع ضرورة الاعتماد على التمويل المحلي لتدبير الاحتياجات المالية للمشروعات التنموية.

لتحتدم حدة المنافسة على الساحة العالمية- وخاصة بالدول النامية- لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، في ظل مساعي دول العالم لتعزيز التحرر الاقتصادي ودعم آليات السوق الحر والانفتاح الخارجي بالتزامن مع تراجع دور الدولة في المجال الاقتصادي لصالح القطاع الخاص المحلي والأجنبي، لتحقيق إصلاح وتنمية ونمو اقتصادي مستدام.

الواقع المصري

لم يكن الواقع المصري مغايرًا عما هو عليه العالم أجمع، فقد تأثرت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للداخل خلال عامي انتشار جائحة كورونا. فوفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، فقد انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للداخل من 9.01 مليار دولار عام 2019 إلى 5.8 مليار دولار عام 2020، ثم إلى 5.12 مليار دولار عام 2021.

وما زاد الأمر تعقيدًا، اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية عام 2022، والتي أدت إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم العالمي، حيث سجلت أعلى مستوياتها في العديد من دول العالم، مما استلزم توجه البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة إلى رفع أسعار الفائدة العالمية أكثر من مرة، لاحتواء الضغوطات التضخمية، وهو ما أدى إلى هروب الأموال الساخنة من الاقتصادات الناشئة؛ ومن بينها مصر، حيث خرج ما يزيد عن 20 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في الفترة من يناير إلى سبتمبر 2022، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم الأساسي ليسجل %38.7 في عام 2023، وتراجع قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي بما يزيد عن 60%، إلى جانب تصاعد حجم المديونية الخارجية، واتساع الفجوة الدولارية بين المطلوب والمعروض من الدولار، في ظل سياسة نقدية تشددية، ما خلق وفاقم أزمة وجود سعرين لصرف الجنيه، أحدهما يقارب ضعف السعر الرسمي.

وعلى خلفية تصاعد الصراع في قطاع غزة، واتساع رقعة الصراع لتشمل بعض الضربات الحوثية للمصالح الإسرائيلية في البحر الأحمر، وتضرر عدد من السفن العملاقة، الأمر الذي دفع عددًا من السفن لتغيير وجهتها بالمرور عبر طريق رأس الرجاء الصالح، ما أدى إلى تراجع إيرادات القناة للعام المالي الماضي 2023-2024 بنسبة 23% إلى 7.2 مليارات دولار مقارنة بالعام المالي الأسبق. كُل هذه الظروف المتوالية مجتمعةً ألقت بظلالها على الحياة اليومية للمواطنين في صورة ارتفاع معدلات التضخم المستمر، وانفلات حركة الأسواق والتسعير والاحتكار، على خلفية تعطل سلاسل التوريد وحركة التصنيع والإنتاج لعدة شهور.

وضع معقد

الوضع المركب والمتشابك التعقيد أكد على أنه لا مناص من تعزيز الاستثمار المباشر المصري والأجنبي على حد سواء، من خلال كسر دائرة الاستدانة، والاستغلال الأمثل للموارد المحلية، وتعبئتها لتوطين التنمية والصناعة والاستثمار، لتعزيز المنتج المحلي وتقليل فاتورة الاستيراد، بل وتعزيز الصادرات المصرية للخارج. للحفاظ على الاتجاه الهبوطي لمعدلات التضخم واستقرار العملة وإدارة الديون الخارجية وزيادة نمو القطاع الخاص بجانب إعطاء الأولوية للاستقرار الاقتصادي وإدارة المخاطر الخارجية وتعزيز مناخ الاستثمار، وهو أمر ضروري لتحفيز النمو وزيادة الاستقرار الاقتصادي. وهو ما يستلزم معالجة كافة المعوقات أمام جذب تدفقات استثمارية، بجانب مواطن القصور والتحديات الهيكلية بقطاع الاستثمار بوجه عام والصناعة بوجه خاص. وخلق مناخ استثماري جاذب للمستثمرين، من خلال تحسين المؤشرات الكلية لأداء الاقتصاد المصري برفع معدلات النمو الاقتصادي، وخفض الدين الخارجي، والحفاظ على توافر واستقرار سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، وعلاج الاختلال القطاعي بهيكل الاقتصاد المصري.

وعلى مر العقود، قدمت الحكومات المصرية المتعاقبة العديد من الحوافز والضمانات الضخمة للمستثمرين المصريين والأجانب، كتخصيص أراضٍ لخدمة المشروعات الاستثمارية الكبرى، ومنح إعفاءات ضريبية وجمركية وحرية تحويل الأرباح دون قيد أو شرط للمستثمرين الأجانب، وكذلك السماح باستقدام عمالة أجنبية. إلا أنها لم تؤت ثمارها بالشكل الكافي، فحجم التدفقات الاستثمارية على الاقتصاد المصري يوصف بأنه هزيل مقارنة بحجم الحوافز المقدمة للمستثمرين منذ إطلاق برنامج الانفتاح، فنسبة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر لم تتخط حاجز 9.3% والتي تم تحقيقها في عام 2005، بينما في الأغلب كانت تتراوح النسبة بين 1% إلى 2.5% في أغلب الأوقات خلال الفترة (1970-2022)، وهي نسبة ضعيفة في دولة بحجم مصر التي تعاني من زيادة سكانية مطردة.

كذلك، كانت الاستثمارات موجهة دائمًا لقطاع البترول والخدمات، لذا لم توفر مثل هذه الاستثمارات فرص عمل كافية ومتنامية تواجه الزيادة المضطردة في أعداد السكان، أو إدخال تكنولوجيا صناعات جديدة، وإنشاء دورات تصنيع متكاملة داخل الاقتصاد المصري، وبالتالي رفع القدرات التصديرية المصرية. وهو ما يؤكد جوهرية رؤية المستثمر للبلد المضيف للاستثمار. ومن أهم الأمور التي يضعها المستثمر نصب عينيه عند اختيار البلد المضيف لاستثماراته، ما يلي:

الاستقرار الأمني والسياسي للدولة المضيفة للاستثمار، وقد كانت البيئة المصرية طاردة للاستثمار على خلفية التراجع الأمني وتواتر بعض الأحداث الإرهابية في أعقاب ثورتي 25 يناير و30 يونيو، فقد أثر اضطراب الاستقرار الأمني والسياسي بشكل كبير على معدلات جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية. فقد اتجه صافي تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر للانخفاض خلال عامي 2011 و2012، لتصل لأدنى مستوياتها عام 2012/2013 بقيمة 3753.3 مليون دولار، فيما وصلت قيمة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للداخل إلى 10.2736 مليار دولار في العام نفسه. إلا أنه مع استقرار النظام الأمني السياسي واستعادة الثقة في النظام الديمقراطي في مصر وفتح المجال السياسي عاودت مؤشرات الاستثمار الأجنبي للتحسن النسبي بدءًا من العام المالي 2013/2014.

تعد مؤشرات الاقتصاد الكلي أحد أهم المعايير الأولية للاختيار، وفي مقدمتها مقارنة معدل النمو الاقتصادي في مصر بمعدل النمو في دول المنطقة العربية وشمال إفريقيا، ووفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي فقد بلغ معدل نمو الناتج المحلي في مصر 6.7% عام 2022، في حين وصل إلى 3.8% عام 2023، بينما كانت توقعات صندوق النقد الدولي لعامي 2024 و2025 هي 2.7%، و4.1% على التوالي. وفي المقابل، كانت التوقعات لعامي 2024، و2025 لتركيا تقدر بحوالي 3.6%، و2.7% على التوالي، بينما كانت التقديرات لجنوب إفريقيا 0.9% و1.2% على التوالي. وكانت التقديرات للسعودية -الساعية لتنويع النشاط الاقتصادي- 1.7%، و4.7% على التوالي. كذلك الأمر بالنسبة لمؤشرات جوهرية أخرى توضح رجاحة الوضع الاقتصادي للدولة كنسبة الدين العام الخارجي من الناتج القومي الإجمالي، تطور معدل التضخم، العجز المزمن للميزان التجاري، وعدم استقرار سعر صرف العملة المحلية.

وقد شهد سوق الصرف في مصر تغيرات كبيرة تزامنت مع إعلان الحكومة عن تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي في عام 2016، والذي بدأ بتعويم الجنيه المصري مقابل الدولار، بهدف القضاء على السوق السوداء وترك تحديدها وفقًا لعوامل العرض والطلب، إلا أن توابع هذه الخطوة لم تحقق الهدف المرجو منها. لتأتي الأزمة الروسية الأوكرانية ويتعرض الجنيه المصري لضغوط كبيرة بسبب انعكاسات الأزمة على الاقتصاد، حيث أدت إلى ارتفاع تكلفة استيراد السلع الأساسية، فضلًا عن خروج ما يقرب من 20 مليار دولار من استثمارات الأجانب غير المباشرة “الأموال الساخنة”، وبناءً عليه، ضاعف الفيدرالي الأمريكي عدد مرات رفع أسعار الفائدة لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم. فقد تراجع سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار بعد رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة، وأوجد سعرًا مختلفًا في السوق الموازية حتى تجاوز الدولار 60 جنيهًا للدولار وذلك نتيجة التثبيت الذي حدث بعد ارتفاع سعر الصرف عند 30 جنيهًا، ليُعلن تحريك السعر وفقًا لآليات السوق في مارس 2024، ليستقر حاليًا عند متوسط 48.5 جنيه/دولار.

بخلاف الوضع الاقتصادي والأمني للدولة ومدى استقراره، فإن البيروقراطية وجمود وتعقيد الإجراءات الإدارية والتنظيمية تأتي على رأس العوامل التي قد تثني المستثمر عن اختيار البلد المضيف، لما لهذه الإجراءات من دور في عرقلة بدء وتشغيل المشاريع الصناعية والاستثمارية من الأساس، فمثل هذه العقبات تزيد من الوقت والتكلفة اللازمين لإنشاء وتشغيل المشاريع. فالمستثمر مطالب بالحصول على عدة تراخيص معقدة قد تمتد مدة الحصول عليها إلى شهور. في المقابل أيضًا، التغييرات المستمرة في القوانين واللوائح تؤدي إلى عدم استقرار البيئة الاستثمارية، مما يجعل المستثمرين يترددون في ضخ رؤوس أموالهم في بلدان تعاني من تغير سريع ومفاجئ في الإجراءات المنظمة للعمل الاستثماري. وبمصر توجد هيئة وحيدة معنية بقضية الاستثمار الأجنبي المباشر وهي هيئة الاستثمار والمناطق الحرة، إلا أن تلازم وجود شكاوى من قبل المستثمرين بأن الإجراءات الخاصة بالاعتماد معقدة وتعاني من البيروقراطية الإدارية.

وفي السياق ذاته، تُعد بساطة الإجراءات المالية والقيود المصرفية الصارمة وارتفاع معدلات الفائدة مُحددات مالية هامة لرؤية المُستثمر، فمن الضروري تبسيط إجراءات الحصول على التمويل وتقديم حوافز للمصارف والمؤسسات المالية لدعم المشاريع الصناعية والاستثمارية، كذلك خفض سعر الفائدة على الاقتراض في الجهاز المصري لتعزيز كونه مصدر تمويل رئيسي. كذلك البورصة المصرية لا تزال بعيدة نسبيًا عن القيام بالدور المطلوب منها في دعم الاقتصاد الوطني، وتوفير مصادر لتمويل استثمارات الشركات الأجنبية، لارتفاع تكاليف المعاملات مما قد يحرم صغار المستثمرين من الدخول إلى السوق.

ومن الأمور محل التقدير من المستثمرين أيضًا السياسة الجمركية للدولة المضيفة للاستثمار ونوعية الاستثمار الأجنبي المباشر، فالشركات الأجنبية التي تنتج لخدمة السوق المحلي وكذلك الشركات الأجنبية الأكثر اعتمادًا على مدخلات الإنتاج المحلية تفضل الحماية الجمركية والتجارية لضمان عدم دخول السلع المناظرة إلا بسعر مرتفع وبحصص محددة، مما يقلل من فرص منافستها داخل السوق المحلي، وعلى العكس فإن الشركات الأجنبية التي تنتج للتصدير وأكثر اعتمادًا على مدخلات الإنتاج المستوردة تفضل الانفتاح التجاري وإزالة القيود التجارية.

لذا يُعتبر تبني سياسة انتقائية فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية والقيود الجمركية والتجارية تجاه القطاعات الاقتصادية والسلع المختلفة بما يدعم المنتجين المحليين هو الخيار الأفضل لتعزيز قدرات صناعات بعينها. خاصة أن الصناعة المصرية قد تواجه تحديات في التصدير بسبب المنافسة الشديدة والمعايير العالمية الصارمة والحواجز التجارية، خاصة مع انخفاض الاستثمار في البحث والتطوير والابتكار ما يحد من قدرة الصناعات على التنافس والنمو.

كذلك تعتبر قوانين حماية الملكية الفكرية أحد العقبات التي قد تثني المستثمرين عن الاستثمار في التكنولوجيا والابتكارات الجديدة، بالرغم من أنه أحد القطاعات الواعدة في الاقتصاد المصري. لذا من الضروري إقرار قوانين حماية الملكية الفكرية على أن يكون لها طبيعة خاصة بحيث يمكن مراجعتها بصورة دورية بما يتماشى مع تطورات العصر المضطردة، وأن تراعي التوازن المناسب بين حماية حقوق الملكية الفكرية وتشجيع المنافسة، وتشجيع الشركات الكبرى على مشاركة حقوق الملكية الفكرية أو منح تراخيص للاستخدام مقابل تعويض عادل، مع تبسيط إجراءات الحصول على حقوق الملكية الفكرية وتقليل التكاليف المرتبطة بها، بما يخلق بيئة استثمارية ديناميكية تعزز من الابتكار وتدفع عجلة النمو الاقتصادي، خاصة وأن البنية الصناعية بمصر مازالت هشة، فالقطاعان العام والخاص لا يستطيعان توفير مدخلات الإنتاج للشركات الجديدة العاملة في القطاع الصناعي.

على الجانب الآخر، تُعتبر البنية التحتية عصب التنمية الاقتصادية ومن أهم العوامل الجاذبة للاستثمار ودعم العمليات الصناعية في أي دولة، وخلال الأعوام القليلة الماضية حرصت الدولة المصرية على تحسين البنية التحتية الأساسية، من خلال بناء شبكة طرق وكبارٍ عملاقة تربط كافة ربوع الدولة، إلى جانب دورها في ربط كافة الموانئ البحرية والجافة والمطارات المنتشرة في معظم محافظات مصر. وذلك بخلاف إقامة عدة مشروعات قومية لتعزيز وضمان استدامة المرافق الأساسية (الكهرباء، المياه، الصرف الصحي، الغاز الطبيعي، الاتصالات). وبالرغم من التحسن الملحوظ في بعض المجالات، لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من تحسين البنية التحتية الأساسية وتعزيز تكاملها خاصة في المناطق النائية وغير المخططة. وذلك نظرًا للتقدم الكبير الذي حققته الدول المنافسة لجذب الاستثمار الأجنبي. فمصر تواجه منافسة شديدة في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من عدة دول في المنطقة وخارجها، تتميز أغلبها ببيئة أعمال مواتية، وبنية تحتية متطورة، وانتهاج سياسات وحوافز استثمارية مشجعة، وارتباط الدول المنافسة باتفاقيات تجارة حرة مع العديد من الدول ما يجعلها سوقًا محليًا جاذبًا وبوابة للعديد من الأسواق في دول الجوار.

وعلى رأس هذه العناصر، يحتل العنصر البشري الدور الأبرز والفاعل في دعم الاستثمار والصناعة الوطنية، فتتطلب الصناعة المتقدمة وجود كوادر بشرية مؤهلة ومدربة. ومع ذلك، تعاني العديد من الدول من نقص في القوى العاملة الماهرة والمدربة بشكل جيد، ومن بينها مصر فعلى مر العقود القليلة الماضية اضمحلت عدد من الصناعات الحرفية واليدوية والتراثية نتيجة لجوء أصحابها للعمل بمهن سهلة وسريعة الثراء.

خطوات نحو الإصلاح

لكن بوجه عام، كان مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر يحافظ على اتجاه تصاعدي خلال العقدين الأخيرين، رغم ضعف حجم تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي. إلا أن الحكومة المصرية أكدت مؤخرًا في مناسبات مختلفة على حرصها على تبني سياسات من شأنها إعادة إحياء القطاع الصناعي مرة أخرى وجذب المزيد من الاستثمارات لتحقيق الاكتفاء الذاتي للسوق المحلي وتقليل الفاتورة الاستيرادية، والعمل على زيادة حصة مصر من الصادرات العالمية؛ باعتبارها العامل الرئيس الذي تعول عليه لرفع النمو الاقتصادي في البلاد، والذي سيؤدي إلى رفع مستوى المعيشة للمواطنين عن طريق رفعه لمستويات التشغيل والتقدم التقني.

فمصر لديها مقومات متميزة لتحقيق أهداف النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة وتحسين معدلات الاستثمار والتصدير. حيث تتمتع بأهم شروط النجاح الاقتصادي وهو الاستقرار السياسي والاقتصاد القادر على الصمود رغم التحديات التي تفرضها الحروب والصراعات الإقليمية المحيطة بها، والأزمات الدولية التي تؤثر بالسلب على الاقتصاد العالمي ككل.

وفي هذا الصدد، من المرجح خلال الفترة القليلة المقبلة إطلاق الاستراتيجية الوطنية للصناعة، التي أُعدت بالتعاون مع عدد من المؤسسات الدولية. كذلك وضع ملف الاستثمار ضمن أولوية الجهود الحكومية المبذولة، والتركيز على جهود الترويج الجماعي للاستثمارات والفرص الاستثمارية مع التكتلات الدولية والمجموعات الجغرافية المختلفة.

تعمل وزارة الصناعة على زيادة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من 16% إلى 20%، وذلك وفقًا لسبعة محاور رئيسية ضمن رؤيتها خلال الفترة (2024/2025-2026/2027) للنهوض بالصناعة المصرية وتحويل مصر إلى مركز للتصنيع المستدام، وتشمل هذه المحاور:

  • ترشيد الواردات والحد من الاستيراد وتوفير احتياجات السوق المحلية ومستلزمات الإنتاج.
  • زيادة القاعدة الصناعية بغرض الصادرات وخاصة الصناعات الخضراء والإلكترونية.
  • الاهتمام بتحسين المواصفات الفنية للصناعة المصرية عن طريق التحديث المستمر لها طبقًا للاشتراطات العالمية الخضراء والإلكترونية.
  • التصديق الفوري لإعادة التشغيل ومساعدة المصانع المتعثرة وزيادة حجم النشاط وزيادة الطاقة الإنتاجية.
  • الدعم الفني للمصانع من خلال مساعدتها في الحصول على شهادات المطابقة الدولية والتوافق مع الاشتراطات العالمية والبيئية والتحول الرقمي لتمكينها من زيادة الصادرات.
  • تشغيل العمالة بما يساهم في خفض معدلات البطالة.
  • الاهتمام بتدريب وتأهيل القوى البشرية والعمالة الفنية.

يرجح أن تخرج الاستراتيجية الوطنية للصناعة إلى النور خلال الفترة القليلة القادمة، لترسم خارطة الطريق نحو تعزيز القطاع الصناعي خلال الفترة القادمة، ويرجح أن تتبنى آليات تنفيذية من شأنها تقليل الدور الحكومي في الاقتصاد المصري وتعزيز مشاركة القطاع الخاص من خلال تحسين بيئة الأعمال، وتبسيط الإجراءات، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة لجذب الاستثمارات الأجنبية، وإنشاء صناديق دعم متخصصة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتعديل السياسات الجمركية والضريبية بما يخدم المصلحة المصرية ويسهم في زيادة واستدامة المنتج المحلي في السوق المصري، إلى جانب التركيز على استراتيجيات التصنيع من أجل التصدير، و تبنى قطاع صناعي محدد ودعمه والتفوق فيه لتكون مصر مركزًا رائدًا لهذه الصناعة؛ وهي نفسها الاستراتيجية التي تبنتها الصين والهند على التوالي. فقد استفادت الصين من الزيادة السكانية والعمالة الصينية الرخيصة نسبيًا لتصنيع كل ما يحتاجه العالم لتحتل مركزًا رائدًا في حجم التجارة العالمية، كذلك وجهت الهند جزءًا كبيرًا من استثماراتها لقطاع التكنولوجيا والمعلومات، مع دعم الشركات الناشئة والمبتكرين من خلال سياسات حكومية مشجعة وبرامج تمويلية، مما جعلها مركزًا عالميًا لتكنولوجيا المعلومات وخدمات البرمجيات.

أخيرًا، فإن تنمية الاستثمار ودعم القطاع الصناعي يحتاج إلى الاستثمار فيما تم تنفيذه من مشروعات البنية التحتية في مختلف المجالات وبكافة ربوع الدولة، وتهيئة المناخ الاستثماري بكافة مناحيه وتذليل كافة تحدياته، وإصلاح مواطن الخلل بهيكل الاقتصاد المصري، كذلك تشجيع ريادة الأعمال، وبذل جهود مشتركة وعمل دائم بين القطاع الحكومي والخاص والمدني لتحسين تصنيف مصر في المؤشرات الدولية المعنية بمراقبة حركة الاستثمار وتحسين بيئة الأعمال، وتطوير برامج التعليم والتعليم الفني والتدريب المهني لتوفير كوادر بشرية مؤهلة تلبي احتياجات الصناعة.

هبة زين

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى