الاقتصاد المصريأسواق وقضايا الطاقة

خطوة نحو مركز تعديني عالمي: تحويل هيئة الثروة المعدنية إلى هيئة اقتصادية

خطوات حثيثة وجادة اتخذتها مصر في سبيل تطوير قطاعها التعديني ورفع مساهمته في الاقتصاد القومي، بداية من تطوير التشريعات ذات الصلة لجذب الاستثمارات، وذلك ضمن استراتيجية شاملة لتطوير القطاع بمختلف أنشطته. حيث تأتي تلك الخطوات ضمن إطار استكمال الرؤية التنموية للدولة المصرية لبناء الجمهورية الجديدة في كافة قطاعات ومجالات الدولة، والتي تهدف إلى تحقيق أقصى استفادة ممكنة من ثروات مصر التعدينية، والعمل على زيادة القيمة المضافة منها وزيادة مساهمة النشاط التعديني في الناتج المحلي الإجمالي، ضمن خطة تحويل مصر إلى مركز عالمي للتعدين.

قطاع التعدين من القطاعات الحيوية الهامة في مصر، حيث تقوم عليه العديد من الصناعات ذات الصلة، وعلى الرغم من وفرة الدراسات الجيولوجية التي تؤكد على أن مصر غنية بثرواتها المعدنية من ذهب وحديد وفوسفات ونحاس وغيرها من المعادن الهامة، إلا أن معظم هذه الثروات لم تستغل بعد بالشكل الكامل. وعليه يجب الاهتمام بقطاع الثروة المعدنية من خلال صياغة رؤية استراتيجية شاملة لتطوير هذا القطاع، بما يُسهم في استكشاف أهم مناطق الثروات المعدنية الكامنة في ربوع مصر، وبما ينعكس في الوقت ذاته على زيادة نسبة مساهمته في الناتج القومي الإجمالي والتي تُقدر بحوالي 0.5% (نسبة ضئيلة).

القطاع التعديني قادر على النهوض بالدولة، حيث تمتلك مصر مقومات تعدينية تؤهلها للنجاح في هذا المجال، إذ تمتلك من الثروات المعدنية منذ آلاف السنين ما لم يتم استغلاله قبل عام 2014.

تتوفر في مصر ثروات هائلة من الخامات المحجرية، والتي تتضمن الحجر الجيري الذي يغطي نحو حوالي 60% من مساحة مصر باحتياطي يصل إلى نحو حوالي 15 مليار طن وهو منتج يدخل في أكثر من حوالي 30 صناعة، وأما الخامات المنجمية فيتصدرها الذهب ويتوفر في أكثر من حوالي 140 منطقة، أشهرها السكري والبرامية والفواخير ووادي العلاقي، وعليه، تتمتع مصر بثروات تعدينية غنية تضم أكثر من 375 موقعًا تعدينيًا للذهب جاهزة لبدء الإنتاج، بالإضافة إلى مناجم فوسفات تُصنف ضمن أفضل أنواع الفوسفات على مستوى العالم، كما يتوفر خام الفلسبار باحتياطي يصل إلى نحو حوالي 7 آلاف مليون طن، والفوسفات باحتياطيات تصل إلى نحو حوالي 3 آلاف مليون طن، وخام الألمنيت باحتياطي يصل إلى حوالي 80 مليون طن بمتوسط جودة يصل إلى حوالي 35%، فضلًا عن توفر مادة الكولين باحتياطي يزيد على حوالي 800 مليون طن، وكذا الكبريت باحتياطي حوالي 40 مليون طن. كما تمتلك مصر معادن استراتيجية مثل التنتالوم والليثيوم، ما يخلق فرصًا واسعة للتوسع والتطور في هذا القطاع الاستراتيجي.

مشكلة التعدين في مصر لا تكمن في ندرة الخامات ولا في استخراجها ولا في الترخيص، بل تكمن في توصيل الخامة بالشكل الذي يدخل عليه في إطار عملية التصنيع.

في ضوء ما تشهده مصر من تحول في نموذجها الاقتصادي، نرى أن قطاع التعدين يُشكل أهمية مزدوجة، فمن ناحية يُشكل رافدًا مهمًا لتنويع مصادر الدخل وزيادة الصادرات. أما الناحية الأخرى الأكثر أهمية فتتمثل في بناء سلسلة توريد قوية للصناعات المصرية المستقبلية، حيث تسعى مصر إلى التحول إلى مركز تعديني عالمي وبالأخص في الصناعات المتقدمة مثل السيارات الكهربائية وصناعة البطاريات والطاقة المتجددة، بالإضافة إلى الصناعات التكنولوجية مثل الرقائق الإلكترونية. وللتمكن من جذب الاستثمارات الأجنبية، يجب أن يكون لدى مصر سلسلة توريد شاملة تخدم تلك الصناعات، لا تقتصر على استخراج المعادن فقط، بل تصل إلى عملية المعالجة والمراحل المتقدمة الأخرى.

وفي السياق ذاته، بدأت مصر تجارب تشغيل الإنتاج التجاري لمعدن الذهب في يوم 21 مارس 2023، من موقع إيقات في جنوب مصر، وذلك ضمن خطة طموحة لبدء الإنتاج المبكر، حيث توصلت مصر إلى كشف تجاري للذهب في منطقة إيقات الواقعة في الصحراء الشرقية، في 30 يونيو عام 2020. حيث قُدِّر احتياطي منجم إيقات بنحو حوالي 1.2 مليون أوقية ذهب تقريبًا، بالإضافة إلى أنه يتميز بنسبة استخلاص حوالي 95%، والتي تُعد من أعلى النسب على مستوى العالم. ومن المتوقع أن تتجاوز حجم استثمارات كشف إيقات على مدار السنوات العشر المقبلة حاجز المليار دولار.

ونظرًا لأن الاستثمار في قطاع التعدين يرتبط بمخاطر عالية ويحتاج إلى استثمارات كبيرة وخبرة فنية متقدمة، فإن الاستثمار الأجنبي هو الحل الأنسب لتعظيم القيمة المضافة. لذلك من المهم تحديث بيئة الأعمال للقطاع التعديني مع إعطاء حوافز إضافية تمتد من الحوافز المالية والضريبية إلى المرتبطة باستقطاب الكفاءات والعاملين. إضافة إلى ضرورة توفير البنية التحتية المتقدمة التي تُسهم في تطوير القطاع، مثل الطرق والسكك الحديدية اللازمة لنقل المواد الخام من مواقع التعدين والمحاجر إلى منشآت المعالجة والمنتج النهائي.

إجمالاً لما سبق، من المتوقع أن يكون التحول نحو هيئة اقتصادية للتعدين دورًا مهمًا في تنمية القطاع التعديني، وذلك عبر عقد الشراكات مع أهم الفاعلين العالميين في مجالات التعدين، وحشد التمويل اللازم بالتعاون مع المؤسسات المالية العالمية لدعم تلك الشراكات. ونظرًا لأن مستقبل العالم أصبح مرتبطًا بالمعادن النادرة فيقترح أن تمنح مصر حوافز استثنائية لجذب الاستثمارات الأجنبية لعمليات استكشاف وإنتاج تلك العناصر.

تم إنشاء الهيئة عام 1996 وعمرها أكثر من 28 عامًا، وهي إحدى الكيانات الست الكبرى في وزارة البترول والثروة المعدنية، وتعاني من ضعف حاد في الموارد، وإجمالي عدد العاملين حوالي 1050، والكوادر الفنية حوالي 250 فقط، و29 موظفًا من كلية الهندسة، وذلك بسبب ضعف المرتبات، بالإضافة إلى ضعف الإمكانيات المتاحة وعدم توافر المعدات واللوجستيات ومعدات الحفر وقطع الغيار، ومحدودية ميزانية الهيئة، حيث لا تتعدى حوالي 200 مليون جنيه، وميزانية التدريب لا تتعدى حوالي 300 ألف جنيه، فضلًا عن صعوبة الترويج الخارجي لمزايدات الخامات، وصعوبة تنفيذ برامج الاستكشاف والحفر، وصعوبة إسناد الدراسات إلى بيوت الخبرة.

وفي إطار الجهود المستمرة من الحكومة والتي تهدف إلى تعزيز الأداء الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة، يبرز قطاع التعدين كأحد المحاور الرئيسية والاستراتيجية لتحقيق تلك الخطط الطموحة، ويأتي مشروع تحويل الهيئة المصرية العامة للثروة المعدنية إلى هيئة اقتصادية على قائمة تلك الخطط حيث أن المشروع يتقدم بخطى سريعة ومتقدمة، وذلك مع استكمال الخطوات التشريعية اللازمة لوضعه موضع التنفيذ. حيث يُشكل التداخل في الصلاحيات بين العديد من الجهات الحكومية، أحد التحديات الرئيسية التي تواجه قطاع التعدين في مصر، وهو الأمر الذي يعوق الفاعلية والكفاءة.

وافقت لجنة الصناعة بمجلس النواب، من حيث المبدأ على مشروع القانون، بشأن إصدار قانون تنظيم الهيئة المصرية العامة للثروة المعدنية، والذي يهدف إلى تحويلها إلى هيئة اقتصادية، وذلك بحضور وزير المجالس النيابية وحضور ممثلين لوزارات البترول والعدل والصناعة والتعليم العالي والري والتنمية المحلية والمالية.

استنادًا إلى ذلك، فإن تحويل هيئة الثروة المعدنية إلى هيئة اقتصادية مستقلة يُمثل خطوة هامة في تاريخ قطاع التعدين، يهدف إلى معالجة التحديات التي عانت منها صناعة التعدين المصرية، خطوة لها العديد من الإيجابيات والتداعيات الهامة على الاقتصاد المصري. ومن ضمنها أن التحول إلى هيئة اقتصادية مستقلة سوف يشجع على جذب العديد من الاستثمارات الخارجية وذلك لتوفير بيئة مناسبة وظهور شراكات جديدة مع كبرى الشركات العالمية، وجذب الاستثمارات التعدينية وزيادة رخص البحث. إن نتيجة تطوير قطاع التعدين المصري تبشر بزيادة عدد المناجم في المستقبل وهو ما يتطلب تكثيف عمليات المراقبة والتفتيش المطلوبة من هيئة الثروة المعدنية. وتنفيذ خطط مستقبلية لتعظيم القيمة المضافة من خلال ربط البيانات الجيولوجية المؤكدة من الاحتياطيات التعدينية بخطط الدولة الاستراتيجية من توطين الصناعة وتقليل الفجوة بين الصادرات والواردات.

يُضاف إلى ذلك تشجيع الابتكار وتطوير تقنيات وأساليب جديدة في عمليات البحث والاستكشاف واستخراج المعادن، مما ينعكس على المعدلات والكفاءة الإنتاجية، بالإضافة إلى إتاحة فرص متعددة الجوانب للتعاون مع المؤسسات الأكاديمية والبحثية لتطوير قطاع التعدين، ويسهم في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز التنمية المستدامة في مصر، بالإضافة إلى إنشاء نظام حوكمة فعال يتسم بالتحول الرقمي الشامل والشفافية مع نظم الميكنة الإلكترونية في إصدار التراخيص وأعمال المراقبة الفنية والمالية.

بالإضافة إلى ذلك، تُشكل تلك الخطوة فرصة واعدة لاستغلال الموارد الطبيعية والتعدينية الهائلة والضخمة في مصر، من خلال معالجة مشكلة التبعية غير الواضحة للهيئة وبالتالي تعزيز الكفاءة الإدارية، وتعزيز قدرات الموارد البشرية الضخمة والتي تتمتع بها صناعة التعدين في مصر، حيث تواجه هيئة الثروة المعدنية العديد من المعوقات تتراوح بين العقبات الإدارية والتنظيمية والتشريعية والاقتصادية فضلًا عن العقبات البيئية. وبشكل عام، تاريخيًا عانت هيئة الثروة المعدنية من ضعف واضح في نمو الاستثمارات في السنوات السابقة، وذلك بسبب ضعف مرونة الإجراءات في عرض الفرص الاستثمارية المطروحة على سبيل المثال نظام الترخيص الإلكتروني الشامل، وكذلك عدم وجود نموذج اقتصادي جاذب للاستثمار التعديني.

يؤدي هذا التحول إلى وضع مصر كلاعب رائد في صناعة التعدين العالمية، وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام والتنمية مع وضع سياسات للمعادن تراعي تعظيم القيمة المضافة.

إجمالًا لما سبق، من المتوقع أن يؤدي التحول نحو هيئة اقتصادية للثروة المعدنية إلى العديد من الانعكاسات الإيجابية والتي من ضمنها:

  • السعي لتنمية وتعزيز الاستثمار والنمو الاقتصادي في مصر.
  • تسهم في تشجيع الاستثمارات الوطنية والأجنبية وتطوير السياسات الاقتصادية لتحسين المناخ الاقتصادي.
  • تسهم في توفير فرص العمل وتنشيط الأنشطة الاقتصادية.
  • تعزز التعاون الدولي وتوقع اتفاقيات تجارية واقتصادية مع الدول الأخرى.
  • تركز على إنشاء بيئة استثمارية ملائمة، وتشجيع الابتكار وتطوير الصناعات التحويلية والتصنيعية المرتبطة بالثروة المعدنية.

مجمل القول، لعبت الثروات التعدينية دورًا مهمًا في تطور البشرية، وبالأخص الذهب، حيث يحتل في الظروف الراهنة مكانة مهمة في الاقتصاديات المحلية، وفي العلاقات الاقتصادية الدولية، حيث طرأت على وضعيته تغيرات أساسية، ويعيش الآن مرحلة مهمة من مراحل تحوله التاريخي. وعليه يمكن القول أن مصر تقوم في الآونة الأخيرة بزيادة تعظيم الاستفادة من مواردها الطبيعية، والاهتمام بملف التنمية في جميع ما تملكه مصر من هبات طبيعية لم تستخدم، وظلت مشروعاتها حبيسة الأدراج فترات طويلة دون اهتمام أو تخطيط، لتتسابق الآن مع الزمن، لتعويض تلك الملفات بما تستحقه من اهتمام، حيث يهدف ذلك إلى تعزيز مكانة مرموقة يكون عليها وضع الاقتصاد بشكل عام.

وفي الأخير، إن قطاع التعدين في مصر يملك إمكانات هائلة تمكنه من منافسة أهم المراكز التعدينية في العالم، بالإضافة إلى بيئة استثمارية مهيأة ومتطورة توفر حوافز كبيرة، وتمنح الضمانات للمستثمرين لتحقيق عوائد عالية. وسيمكن تطوير القطاع التعديني مصر من التحول إلى قطب مهم في سلسلة الإمداد والتوريد العالمية خاصةً للصناعات المتقدمة.

د. أحمد سلطان

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى