الاقتصاد المصري

ماذا تعني عودة شركة النصر لصناعة السيارات؟

في صباح يوم السبت، الموافق 16 نوفمبر 2024، شهد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، فعاليات الاحتفالية التي نظمتها شركة النصر لصناعة السيارات، بمناسبة إعادة تشغيل مصنع الحافلات التابع للشركة بعد توقف دام لمدة تزيد على 15 عامًا، إلى جانب متابعة الجهود المبذولة في تطوير وتحسين أداء الشركة.

تأسست شركة النصر لصناعة السيارات في ستينيات القرن العشرين تزامنًا مع سعي الحكومة المصرية نحو تعزيز صناعتها المحلية. ورغم القرار الصعب بتصفيتها في عام 2009، إلا أن عودتها اليوم تمثل نقلة نوعية في القطاع الصناعي المصري. تتضمن عمليات إعادة التأسيس والتشغيل لشركة النصر إنتاج مجموعة متنوعة من الحافلات بمختلف الأحجام، بما في ذلك الحافلات الكبيرة، المتوسطة والصغيرة، بالإضافة إلى تصنيع بطاريات الكهرباء الحديثة الضرورية لدعم وسائل النقل العامة المستدامة والكفاءة.

تعكس هذه الخطوة المهمة لشركة النصر حرص الحكومة المصرية في تعزيز ملف الصناعة المحلية، والتركيز على الاستدامة البيئية من خلال دعم وتطوير وسائل النقل العامة الكهربائية ذات الانبعاثات الكربونية المنخفضة.

شهدت الاحتفالية توقيع رئيس الوزراء عقد تأسيس شركة مساهمة بين شركة النصر للسيارات وشركتي “ترون تكنولوجي” و”يور ترانزيت” من الشركاء السنغافوريين والتايوانيين والإماراتيين. لكنها لم تكن الحدث الوحيد هذا الشهر فيما يتعلق بالشراكات المصرية لدعم التصنيع المحلي. فقد شهد الفريق مهندس كامل الوزير، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية ووزير الصناعة والنقل، إطلاق سيارات “إكسيد” المنتجة في مصانع الشركة المصرية الألمانية للسيارات (إجا). وأشار إلى أهمية الشراكات المصرية العالمية التي تؤدي لزيادة نسبة المكون المحلي عامًا بعد عام.

من الواضح من تلك الجهود توجه الحكومة لتفعيل هدفين أساسيين صوب تطوير قطاع النقل، هما: المزج بين خطوات توطين الصناعة، والتحول إلى النقل الأخضر والنظيف. بالفعل تستهدف شركة النصر مع شركائها تصنيع أول حافلة مصغرة كهربائية بسعة 24 راكبًا لنقل ركاب المدن والمناطق السياحية. ومن المخطط أن تصل الطاقة الإنتاجية إلى 300 حافلة في عام 2026. كما أنه من المستهدف في نفس العام إنشاء خطوط إنتاجية للبطاريات الكهربائية بسعة تصل إلى 600 بطارية. تبدأ العملية الإنتاجية في منتصف العام القادم 2025، مع استهداف مضاعفة الانتاجية بعام 2027. يذكر بأن هذه الخطوة لإعادة تفعيل دور الشركة تأتي تتويجًا لتاريخ حافل من المحطات لتطوير قطاع النقل.

منذ عام 2018، دشنت الحكومة المصرية العديد من المشروعات الخضراء لاستخدام الطاقة الجديدة والمتجددة والنظيفة في خدمات النقل والبنية التحتية والصناعة، فعلى سبيل المثال تم توظيف حوالي 14% من مجمل الاستثمارات العامة تجاه هذا النوع من المشروعات بموازنة الدولة 2020/2021، إذ قدرت التكلفة لتنفيذ 691 مشروعًا نظيفًا في خطة نفس العام المالي بنحو 447.3 مليار جنيه.

كذلك تم تخصيص مليار و900 مليون دولار كتكلفة للمشروعات البيئية المصرية حتى شهر سبتمبر من عام 2020، خمسها في قطاع النقل الصديق للبيئة وسدسها في قطاع الطاقة النظيفة التي تصب هي الأخرى في قطاعات النقل وقطاعات أخرى. وأعطت الحكومة ملف النقل اهتمامًا خاصًا، فقدر إجمالي الاستثمارات فى قطاع النقل بمبلغ 245 مليار جنيه فى عام 21/22. حتى أنه في مايو 2021 وحده، وقع بنك الاستثمار الأوروبي والدولة المصرية قرضًا بقيمة 1.1 مليار يورو لمشاريع المترو والترام في الإسكندرية والقاهرة. كما أعلنت الحكومة تخطيطها لجعل 40٪ من جميع الاستثمارات العامة خضراء بما يصل إلى 336 مليار جنيه في 22/23.

وأتت البداية الحقيقية عندما اقترحت وزارة البيئة المصرية تطوير قطاع وشبكة النقل العام المصري خلال عام 2018. استهدف التطوير عمليات واسعة المدة للتحول صوب استخدام الحافلات والقطارات والمركبات المختلفة المعتمدة على الكهرباء كوقود عوضًا عن الوقود الأحفوري؛ وذلك في محاولة لتقليص الانبعاثات الكربونية ومصادر التلوث الناتجة عن قطاعات المواصلات العامة المختلفة في مصر.

وأخذ الاقتراح في الحسبان الأرباح المادية المرجوّة من هذا النهج، وليس فقط الفوائد البيئية الخاصة به. نتج عن هذا الاقتراح العديد من المشروعات الناجحة في التحول للنقل الكهربي. أول تلك المشروعات تعلق بإدخال حافلات كهربائية إلى الخدمة في شبكة المواصلات العامة بمحافظة الإسكندرية، تلتها محافظة القاهرة. تعاونت الدولة المصرية مع شركة BYD الصينية في هذا المشروع مع وضع خدوات إضافية للتوسع في بقية الجمهورية بداية من سنة 2018.

في نفس الإطار، عقدت الحكومة المصرية عدة اجتماعات مع شركة “مرسيدس” الألمانية خلال عامي 2018 و2019 برعاية رئاسية. هدفت الاجتماعات إلى تسهيل عمليات إنتاج المركبات الشخصية للمواطنين المصريين والمعتمدة على الطاقة الكهربائية كوقود. جاءت هذه الاجتماعات متزامنة مع خطط جدية من أجل إنشاء محطات عدة للشحن الكهربائي للمركبات بصورة موسعة، إذ بحلول عام 2019 أصبح هناك أكثر من 130 منصة أو محطة للشحن تستقبل سيارات كهربائية في محافظات الجمهورية المصرية بما يتوافق مع المعايير الدولية المعتمدة من كافة شركات تصنيع السيارات الكهربائية.

أما عن شركة النصر للسيارات فإن الرحلة تسبقق ذلك بكثير. فقد تأسست عام 1960 بموجب القرار الجمهوري رقم 913 بتاريخ 23 مايو 1960، وتعد واحدة من الشركات الرائدة في مجال صناعة السيارات في مصر. يبلغ إجمالي مساحة المصنع حوالي 480 ألف متر مربع، وقد بلغ إجمالي إنتاجها 384،000 سيارة بنهاية عام 2009 قبل قرار التصفية.

منذ تأسيسها في عام 1960، قامت شركة النصر بتصنيع مجموعة متنوعة من السيارات بتراخيص من شركات عالمية مثل Fiat وTofaş. بدأت الشركة بإصدارات مرخصة من سيارات Fiat المختلفة، وتوسعت في تصنيع المركبات الخدمية والزراعية مثل الشاحنات خاصة بعد أن أصبحت تابعة للشركة القابضة للصناعات المعدنية وفقًا للقانون رقم 203 لسنة 1991 المتعلق بشركات قطاع الأعمال العام؛ وذلك بهدف تصنيع سيارات بأسعار معقولة وذات جودة عالية تناسب السوق المصرية.

مع تقدم الزمن، بدأت شركة النصر في تطوير مجموعة جديدة من المركبات مستندة إلى تصميمات وتراخيص شركات عالمية معروفة. يعكس ذلك استراتيجية الشركة في مواكبة التطورات العالمية وتلبية احتياجات السوق المتغيرة.

وعلى الرغم من نجاح الشركة في البداية، لكنها واجهت تحديات تنافسية شديدة في سوق السيارات المحلية، نظرًا لزيادة توافر العلامات التجارية الأجنبية بأسعار منافسة خلال أواخر القرن العشرين وأوائل الألفية الجديدة. وهو ما أفقد النجاح الجزئي للشركة. وفي ظل توجه الحكومة المصرية إلى تطوير القطاع الصناعي وتوطين التكنولوجيا، تم دراسة كيفية إعادة الشركة لتصبح من جديد رافدًا رئيسًا في صناعة السيارات في مصر. استلزم ذلك وضع حلول تواجه التحديات المتزايدة في ظل تطور السوق وزيادة المنافسة. وهو ما يتعين الاستمرار في التطوير والابتكار للحفاظ على مكانة الشركة ومنتجاتها في قطاع النقل.

كانت الحكومة المصرية قد أعلنت خلال السنوات الثلاث الأخيرة عن خططها لبدء وشيك لتجميع السيارات الكهربائية في شركة النصر لتصنيع السيارات. وذلك بأهداف أولية طموحة تتضمن إنتاج و تجميع السيارات الكهربائية ومستلزماتها. بدأت المفاوضات مع الشركاء التكنولوجيين خلال عامي 2020 و2021 بهدف إنتاج 25 ألف سيارة كهربائية سنويًا. على أن تكون المركبات الخارجة من محطة حلوان قادرة على السير لمسافة 400 كيلومتر بشحنة كهربائية واحدة.

كما عملت الشركة في عام 2021 على خطة لتسعير السيارة الكهربائية المنتجة في مصنع حلوان بصورة جذابة لسائقى سيارات الأجرة، مستهدفة بيع نصف الإنتاج السنوي لهم. ومن المقدر أن يكون استخدام سيارات الأجرة الكهربائية مفيدًا لمستخدمي وسائل النقل في المدن، خاصة وأنها لا تتطلب الصيانة بشكل مكثف.

كما أعلنت الحكومة في عام 2021 عن نتائج دراستها التي تهدف إلى إطلاق برنامج استبدال سيارات كهربائية بأكثر من عشرة آلاف سيارة أجرة عادية. وهو ما تطلب التوجه إلى إنشاء وتحضير بنية تحتية جديدة لخدمة هذه المركبات في محطات الشحن. بدأ بالفعل إنشاء هذه المحطات التي تعمل في محافظات عدة. ومن المتوقع خلال السنة القادة أن يصل العدد إلى 3000 محطة شحن سريع بقدرة 50 كيلو وات. كذلك شملت الخطط الحكومية استبدال السيارات الكهربائية بـ 5٪ من أسطول مركبات الوزارات والهيئات العامة؛ بهدف تعزيز التنقل الصديق للبيئة، مع تقديم دعم في الأسعار لأوائل المشترين من الجمهور.

إن حرص شركة النصر على إخضاع جميع عمليات الإنتاج وعمليات فحص الجودة والكفاءة وفقًا للمعايير العالمية هو العنصر الأساسي في تحسين القدرة التنافسية وتخطي العقبات التي واجهتها سابقًا. وهو ما يتوازى مع طموحات الشركة والوصول الحالي لقدرة إنتاجية تبلغ 300 حافلة سنويًا، ثم 1500 حافلة سنويًا بحلول عام 2027. علمًا بأن نسبة المكون المحلي تصل حاليًا إلى 50% في المرحلة الأولى، على أن تصل إلى 60-70% لاحقًا.

كما تم تسليم الدفعة الأولى من حافلات “نصر سكاي” الجديدة إلى شركات وزارة النقل. تتميز هذه الحافلات، التي تتسع لـ 49 راكبًا ويصل طولها إلى 12 مترًا، بأحدث التقنيات والكفاءة. وهو نفس الحال مع مشروع تطوير مصنع سيارات الملاكي، المتوقع الانتهاء من أعماله الإنشائية خلال شهر ديسمبر 2024، الذي تبلغ طاقته التصميمية 20 ألف سيارة سنويًا. ومن المقرر أن يبدأ الإنتاج التجريبي في منتصف عام 2025 بنسبة محلية تفوق 45% كمرحلة أولى.

وخلال الأعوام العشرة الأخيرة شهدت الدولة المصرية عددًا من الخطوات الجاهدة لتطوير لقطاع الصناعي الذي واجه التضرر والتباطؤ خلال القرن الماضي أثناء محطات مختلفة. وهو ما شمل مؤخرًا جهودًا ملحوظة في تطوير صناعة السيارات. بعض الخطوات والمبادرات التي اتخذتها مصر في هذا الصدد شملت تشجيع الاستثمارات وتوفير بيئة استثمارية ملائمة من خلال تقديم حوافز وتسهيلات للشركات العالمية للاستثمار في صناعة السيارات في مصر.

كما شملت الاستثمار في تحسين البنية التحتية لصناعة السيارات مثل تطوير الموانئ والطرق وتوفير خدمات لوجستية متكاملة. كذلك عززت التعاون الدولي وإقامة شراكات وتعاون مع شركات سيارات عالمية لنقل التكنولوجيا وتبادل الخبرات في مجال صناعة السيارات. وهو ما لم يكن ليتم لولا تطوير القوانين واللوائح وإصدارها بما يشجع على تطوير صناعة السيارات وتضمن نموًا مستدامًا للقطاع. وهي خطوة طال انتظارها، ولازالت تفي بمساحة من التطوير والتعديل.

اتجهت الحكومة أيضًا لدعم استخدام السيارات الكهربائية من خلال توفير بنية تحتية لمحطات الشحن وتشجيع الشركات على تصنيع وتسويق هذه الأنواع من السيارات. وهو ما استلزم تطوير مهارات العمالة المحلية بالقطاع وتوجيه جهود تطويرها لتلبية متطلبات صناعة السيارات المتطورة. هذه الخطوات وأكثر عكست توجه الدولة المصرية لبدء التنافس ربما لأول مرة منذ 60 عامًا في قطاع صناعة السيارات بالمنطقة وجعلها قطاعًا مهمًا في اقتصادها المحلي وزيادة تنافسيتها على المستوى العالمي.

د. عمر الحسيني

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى