
التحول من الدول الأكثر انتشارًا إلى صفر إصابات: كيف نجحت مصر في القضاء على فيروس سي؟
على هامش انعقاد القمة العالمية للحكومات في الإمارات العربية المتحدة، أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أن مصر كانت على قائمة الدول الأكثر تسجيلًا للإصابات بفيروس سي، إلا أن الدولة المصرية نجحت في القضاء على فيروس سي من خلال مبادرة “100 مليون صحة”، والتي تم إطلاقها بمبادرة رئاسية في عام 2018 تحت عنوان “القضاء على فيروس سي والكشف المبكر عن الأمراض غير السارية”، في وقت قد وصل فيه عدد المصابين إلى 7% من السكان البالغين، لتأتي المبادرة بأكبر مسحًا صحيًا شاملًا للكشف عن فيروس “سي” لأكثر من 60 مليون مواطن بالمجان، فكيف وصلت مصر من أعلى معدلات الانتشار لفيروس سي في العالم إلى صفر إصابات؟
مصر من أعلى معدلات انتشار فيروس “سي” في العالم
تعد عدوى فيروس التهاب الكبد الوبائي “سي” مشكلة صحية عالمية رئيسية تؤثر على 1% من سكان العالم، وقد حددت جمعية الصحة العالمية هدفًا للقضاء على التهاب الكبد الفيروسي، للوصول إلى 90٪ من التشخيص و80٪ من التغطية العلاجية، وخفض معدلات الوفاة إلى نسبة 65٪ بحلول عام 2030.
وقد سجلت مصر أعلى معدلات للإصابة بالالتهاب الكبدي الوبائي “سي” في العالم، حيث يعاني ما يقرب من 7% من السكان البالغين في مصر من المرض أي نحو 4.5 ملايين شخص، وقد حدث الكثير من الإصابات خلال العقود الماضية، نتيجة ارتفاع معدلات الإصابة بمرض البلهارسيا، واستخدام الإبر سيئة التعقيم المستخدمة في إطار الحملة القومية لعلاج مرض البلهارسيا.
وتشير الدلائل إلى أن السبب الرئيس لانتشار العدوى خلال السنوات العشر الماضية، كانت تتمثل في عدم سلامة وأمان عمليات نقل الدم، وسوء إجراءات مكافحة العدوى بالمرض في منشآت الرعاية الصحية، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الوفاة إلى 40 ألف مواطن كل عام، وهو ما جعله ثالث أكبر أسباب الوفيات بعد أمراض القلب والأمراض الدماغية الوعائية.
فضلًا عن ذلك، ونتيجة عن سوء إجراءات السلامة الطبية والنظافة العامة وعمليات نقل الدم، وصل عدد الإصابات إلى 150 ألف إصابة جديدة سنويًا، وكان عدد الإصابات أعلى بكثير بين البالغين فوق سن الأربعين ومن يعيشون في المناطق الريفية، كل ذلك أدى إلى ارتفاع تكاليف العلاج لتصل إلى أكثر من 400 مليون دولار أمريكي سنويًا، وكان من المتوقع طبقًا لتقارير البنك الدولي أن تصل إلى 4 مليارات دولار بحلول عام 2030.
ومن هنا، قررت الحكومة المصرية التوجه نحو تحديد وعلاج جميع الأشخاص المصابين بفيروس التهاب الكبد الوبائي، للوصول إلى تحقيق هدف القضاء على المرض في أقصر فترة زمنية ممكنة، والتي بدأت من خلال اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية، بوضع استراتيجية وطنية لإتاحة العلاج الذي تتحمل تكلفته الحكومة المصرية للجميع، وانخفاض تكلفة الأدوية المضادة للفيروسات ذات المفعول المباشر (من 1650 دولارًا أمريكيًا لمدة 12 أسبوعًا لعقار سوفوسبوفير وعقار داكلاتاسفير في عام 2015 إلى 85 دولارًا للأدوية المحلية في عام 2018)، وقد تم خلالها علاج أكثر من مليوني مريض بحلول عام 2018.
مبادرة رئاسية للقضاء على فيروس “سي”
في سبتمبر 2018، أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي المبادرة الرئاسية للقضاء على “فيروس سي”، للتوسع في علاج المصابين بفيروس التهاب الكبد الوبائي من خلال مبادرة وطنية لفحص أكثر من 60 مليون مواطن.
وقد حددت وزارة الصحة أهدافًا لفحص كل شخص في مصر يبلغ من العمر 18 عامًا أو أكثر، باستهداف عدد السكان 62.5 مليونًا، خلال غضون عام واحد وتقديم العلاج على نفقة الدولة لجميع المصابين بالمرض، وكان قد تم العمل على التخطيط للبدء في المبادرة من مايو 2018، من خلال تقسيم الدولة إلى ثلاث مراحل فرز، يتم فحص كل منها على مدى شهرين أو ثلاثة أشهر، وتتضمن كل مرحلة من 7 إلى 11 محافظة، ومجموعة سكانية مستهدفة من 17.9 مليونًا إلى 23.3 مليونًا.
وتم تقسيم المبادرة على ثلاث مراحل متتالية لمدة استمرت 7 أشهر حتى أبريل 2019، من خلال ثلاث مراحل لكافة محافظات الجمهورية بتكلفة إجمالية ٢,٥١١ مليار جنيه، وتتضمن المراحل الثلاثة التالي:
- محافظات المرحلة الأولى: (الإسكندرية – البحيرة – مرسى مطروح – بورسعيد – دمياط – القليوبية – جنوب سيناء – الفيوم – أسيوط).
- محافظات المرحلة الثانية: (شمال سيناء – البحر الأحمر – القاهرة – الإسماعيلية – السويس – كفر الشيخ – المنوفية – بني سويف – سوهاج – الأقصر – أسوان).
- محافظات المرحلة الثالثة: (الوادي الجديد – الجيزة – الغربية – الدقهلية – الشرقية – المنيا – قنا).
وكان إجراء الفحص يتم من خلال جميع مستشفيات وزارة الصحة؛ والوحدات الصحية الأولية والريفية، والهيئة المصرية للتأمين الصحي، والمستشفيات الجامعية، وجميع مراكز الشباب في جميع المحافظات، كما تم تعزيز المبادرة بالقوافل الطبية.
علاوة على أن فحص المواطنين كان يتم في أي مرحلة وأي مكان بغض النظر عن مكان إقامتهم، مع العلم أن المشاركة كانت طوعية، مع عدم وجود حوافز مالية أو عينية للمشاركة، لكن تم تشجيع المشاركة في الفحص من خلال الحملات الإعلانية، ومن خلال تشجيع المواطنين على التوجه للفحص عبر البرامج التلفزيونية والإذاعية بشكل مكثف، وكذلك التعاون بين المبادرة واللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية، من خلال التحقق من بيانات الأشخاص الذين تم معالجتهم سابقًا.
وكان يتم الاختبار باستخدام اختبار التشخيص السريع بوخز الإصبع، وكانت النتائج متاحة في غضون 20 دقيقة، وإذا تبينت الإصابة يتم تحديد مواعيد مجدولة إلكترونيًا على الفور في خلال 15 يومًا بحد أقصى، وتوجيه المريض إلى أقرب مركز مخصص للتقييم والعلاج، وقد تمكنت المبادرة من المسح الطبي لأكثر من 50 مليون مواطن مصري، منهم ٤٩ مليونًا و٩٠٠ ألف مواطن فوق 18 عامًا، و٣ ملايين و٢٩ ألف طالب وطالبة بالمرحلة الإعدادية والثانوية، ونجحت الدولة في علاج ما يقرب من 4 ملايين مواطن من فيروس “سي” مجانًا، مما جعل هناك إشادة من منظمة الصحة العالمية بالجهود التي بذلتها الدولة في مواجهة فيروس التهاب الكبد الوبائي.
وفي إطار دور مصر في الخدمات الإنسانية، تم إطلاق مرحلـة جديـدة “مسح وعلاج الأجانب واللاجئين”، فـي الفترة من 1 مايـو 2019 وحتـى 30 سـبتمبر 2019 ضمـن مبـادرة 100 مليـون صحـة، وتهـدف إلـى مسـح وعـلاج الأجانـب واللاجئيـن من فيروس سي، من خلال عمل مسـح للوافديـن مـن الأطفـال مـن سـن 12 إلى 18عامًا، والبالغين مـن عمـر 18عامًا دون حـد أقصى، وقـد تـم فحـص 67 ألفا و 498 مقيمًا مـن اللاجئيـن والأجانـب المقيميـن، وتقديـم العــلاج لهــم بالمجــان لمــن ثبتــت إصابتــه، وقد أشـادت المفوضيـة السـامية للأمـم المتحـدة لشـؤون اللاجئيـن ومنظمـة الصحـة العالميـة، بهذه الخطوة التي قامت بها الدولة المصرية.
إجمالا، يمكن القول إن هذه المبادرة من أكبر المبادرات الصحية في فحص الأمراض، فبعد أن كانت مصر تحتل قائمة أعلى معدلات الانتشار لفيروس التهاب الكبد الوبائي في العالم، إلا أن النتائج الحالية أظهرت انخفاضًا شديدًا في أعداد المصابين مقارنة بين عامي 2015 و2019. خاصة وأن أغلب الإصابات كانت في المناطق الريفية، بمناطق دلتا النيل والجزء العلوي من وادي النيل، حيث داء البلهارسيا، إلى جانب إنه بالنظر إلى العلاقة بين الإصابة بفيروس التهاب الكبد الوبائي ودخل الأسرة، فإن العديد من المرضى في المناطق منخفضة الدخل، حيث ينتشر المرض بشكل أكبر وبالتالي يجدون صعوبة في الحصول على العلاج اللازم، وهذا يعتبر أحد العوامل التي ساهمت في نجاح المبادرة بشكل كبير.
علاوة على ذلك، يرجع ارتفاع معدلات الشفاء إلى أن الاكتشاف المبكر للإصابة بالتهاب الكبد الوبائي، كان أحد العوامل التي ساهمت في ارتفاع معدلات الشفاء في عام 2019، لأنه قلل بشكل كبير من تطور الإصابة إلى تليف الكبد وسرطان الخلايا الكبدية، وبالتبعية انخفاض الوفيات المرتبطة بفيروس التهاب الكبد الوبائي.
أما فيما يتعلق بالعبء الاقتصادي للدولة، فقد قدر سابقًا أن التكلفة الطبية المباشرة مدى الحياة والتكلفة غير المباشرة للإعاقة والوفاة المبكرة للمصاب بفيروس “سي” بأكثر من 100.000 دولار، إلا أنها بلغت خلال المبادرة 131 دولارًا، مما يظهر بوضوح حجم التوفير في التكلفة من خلال فحص السكان.
وأخيرًا، أظهرت المبادرة إنه على الرغم من أن مصر قد عالجت في عام 2014، ما يقرب من مليوني مريض، إلا أن الإصابة بفيروس التهاب الكبد الوبائي “سي” كانت لا تزال تمثل مشكلة كبيرة تواجه ما يقرب من 7% من السكان البالغين، مما وضع مصر بين الدول الأكثر انتشارا لفيروس سي، علاوة على العبء الاقتصادي والصحي، إلا أن المبادرة جعلت مصر تمتلك القدرة على أن تكون الدولة الأولى التي تتخلص من عبء “فيروس سي” والتحول من المرتبة المتقدمة في قائمة الأعلى انتشارًا للمرض إلى تسجيل صفر إصابات خلال سنوات قليلة.
باحثة بالمرصد المصري