
آمال معلقة: إلى أين يتجه السودان في 2023؟
من المتوقع أن يكون توقيع الاتفاق الإطاري بين القوى السودانية في الخامس من ديسمبر 2022، بداية لمرحلة جديدة من الانتقال السياسي المتعثر للبلاد، بعد مرور عام من الجمود السياسي والانقسامات والتجاذبات بين مختلف القوى السياسية على خلفية فض الشراكة بين المكون العسكري والمكون المدني بموجب قرارات (25 أكتوبر 2021)، وشهدت البلاد عقبها حالة من الانقسامات المتصاعدة، والفوضى السياسية، المفترض لها أن تنقضي بتوقيع الاتفاق الإطاري، الذي يؤسس لإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية حتى عقد الانتخابات بعد عامين من تشكيل الحكومة المقبلة.
وعلى هذه الخلفية، لا تزال الآمال عالقة حول الاتفاق الإطاري وما سيفضي إليه خلال الأيام المقبلة، وما إذا كانت القوى السياسية ستصل إلى مرحلة التوقيع النهائي على الاتفاق ومن ثمّ تشكيل الحكومة المدنية، على نحوٍ يسهم في حالة الاستقرار السياسي في البلاد.
واقع مأزوم
يشهد السودان على وقع الصراعات السياسية استمرار حالة التدهور الاقتصادي، فضلًا عن الصراعات المجتمعية التي اتضحت بشكل جلي في عودة الصراعات القبلية في مناطق الهامش، ما أدى إلى اتساع نطاق الاضطرابات الأمنية في بلد يعاني من ضعف إحكام قبضته الأمنية على كافة مفاصل الدولة، في الوقت الذي فتحت فيه الصراعات الاجتماعية الباب أمام احتمالات تصاعد نبرات تقرير المصير، فضلًا عن الاحتمال الأكثر خطورة وهو تجدد الحرب الأهلية التي عانى منها السودان على مدار تاريخه الحديث.
- انقسام سياسي
كان عام 2022 الأكثر استقطابًا بين القوى السياسية منذ بدء المرحلة الانتقالية التي أعقبت انهيار نظام البشير. ورغم الخلافات والجدل المستمر منذ بدء الانتقال السياسي، فإن العام الماضي كان مخيبًا لآمال الكثير من القوى السياسية والدولية؛ بعد فضّ الشراكة المؤسسة لتقاسم السلطة بين المكونين المدني والعسكري على خلفية قرارات 25 أكتوبر 2021 التي حل بموجبها رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان الحكومة الانتقالية، وعطّل العمل بالكثير من بنود الوثيقة الدستورية التي وقعت بين القوى الانتقالية في أغسطس 2019.
وأسهم انقسام القوى المدنية، خاصة قوى الحرية والتغيير، بعد انشقاق المكونات التي انضوت فيما بعد تحت “قوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية” التي شكلت ظهيرًا للمكون العسكري في مواجهة ” قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي”؛ في مزيد من الاستقطاب والتباين الحاد في الرؤى والمواقف حول كيفية استكمال المرحلة الانتقالية حتى الوصول إلى الانتخابات.
ومثلت التجاذبات بين كافة المكونات السياسية السمة الأبرز لعام 2022؛ إذ ساندت الكتلة الديمقراطية التي تعد الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام المكون الأبرز فيها، مواقف المجلس السيادي، فيما تمسكت الحرية والتغيير بموقفها المتشدد إزاء إشراك العسكريين في إدارة المرحلة الانتقالية، ووقفت القوى الشبابية ولجان المقاومة في موقف أبعد عن الطرفين، متخذة من ضغط الشارع والاحتجاجات آلية ومدخلًا للحل.
وبالتوازي، كانت المبادرات السياسية المختلفة التي تحمل مداخل للحل الملمح الحاكم للأشهر الماضية؛ إذ طرح كل طرف رؤيته للحل. وبجانب مبادرة “نداء أهل السودان” التي لاقت زخمًا في الساحة السياسية ودعمها الفريق البرهان وعدد كبير من القوى السياسية، كان “مشروع الدستور الانتقالي” الذي طرحته تيسيرية نقابة المحامين، المبادرة الأكثر دعمًا خاصة من القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الأزمة.
وبالفعل، مثّل مشروع الدستور الانتقالي الأساس الذي دعمته الآلية الثلاثية والرباعية، والذي كان الأساس الذي وفقًا له تم توقيع الاتفاق الإطاري بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير المجلس المركزي في الخامس من ديسمبر الماضي، كخطوة أولى نحو توقيع الاتفاق النهائي ومن ثمّ تشكيل الحكومة الانتقالية.
- اضطراب أمني
تلقي الأزمة السياسية بظلالها كذلك على الوضع الأمني؛ من خلال التوظيف السياسي المزعزع للاستقرار، وقد بدا ذلك جليًا في مواقف المجلس الأعلى لنظارات البجا الذي تتناقض مواقفه السياسية مع التسويات القائمة، بما يدفعه إلى التصعيد والتهديد بحق تقرير المصير. وتعزز هذا الاتجاه مع إعلان مجموعة من العسكريين المتقاعدين في إقليم الوسط عن تشكيل تنظيم عسكري تحت مسمى “قوات كيان الوطن” الذين زعموا حينها قبل أن يتم القبض عليهم أنه يهدف إلى خلق حالة من التوزان داخل القوى المسلحة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. أضف إلى ذلك انتشار وارتفاع معدل الجريمة في مناطق ومدن مختلفة بما في ذلك في قلب العاصمة الخرطوم.
وقد تسببت المواقف السياسية في تأجيج العنف القبلي جنبًا إلى جنب مع المحركات التقليدية للصراع بين القبائل على الموارد والأرض. وأسهم في ذلك حالة التسييس للمكونات الاجتماعية والإدارات الأهلية على مدار العقود الثلاثة الماضية. وعلى خلاف المأمول من اتفاق جوبا للسلام الذي من شأنه معالجة مظالم الماضي وتحقيق التنمية للأقاليم الهامشية، تصاعدت وتيرة العنف القبلي في مناطق وولايات سودانية متفرقة، كان إقليم دارفور في صدارة تلك الأقاليم التي شهدت أكبر عدد من المواجهات القبلية على مدار العامين الماضيين.
ووفق أحدث تقارير للأمم المتحدة حول السودان، تسببت النزاعات القبلية في مقتل أكثر من 900 شخص وإصابة وتشريد نحو 300 ألف آخرين. ورغم الأسباب التاريخية المتجددة للنزاعات بين القبائل على الموارد والأراضي فإن استقطابات سياسية كانت عاملًا مضافًا أسهم فيه اتفاق جوبا للسلام في مناطق دارفور والنيل الأزرق وشرق السودان، فضلًا عن الفراغ الأمني بعد انسحاب قوة حفظ السلام.
وحتى الآن لا يزال اتفاق جوبا للسلام محلًا للجدال، مع فتح الاتفاق الإطاري الجديد الباب لمراجعة بعض بنود الاتفاق، ولا تزال الترتيبات الأمنية وبرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج ونشر قوات مشتركة لحماية المدنيين في دارفور واحدة من التحديات التي تعوق تحقيق السلام في دارفور.
- مأزق اقتصادي
يمر السودان بأوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة، فاقم منها الوضع السياسي والأمني شديد الاضطراب. فما يعاني منه الاقتصاد السوداني من تضخم وانخفاض سعر العملة وشح في توافر الوقود والخبز، والتي كانت أحد محركات ثورة الخبز على نظام البشير، تفاقم بشكل مضاعف، مع تفاقم أزمات الاقتصاد العالمي وسوء الأداء الاقتصادي للحكومة الانتقالية، وفشل برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبنته حكومة حمدوك في علاج المشكلات الاقتصاد الهيكلية.
فوفقًا للإصلاحات الهيكلية التي اتخذتها حكومة حمدوك، وافق المجلسان التنفيذيان للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في 29 يونيو2021 على أهلية السودان لتخفيف عبء الديون في إطار البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، في إطار الالتزام المستمر بالإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية، إذ كان السودان بهذا الإنجاز البلد الثامن والثلاثين المستفيد من مبادرة تخفيف الديون. وبموجب هذا القرار، تمّ تخفيف عبء الديون من 56 مليار دولار إلى 28 مليار دولار.
وكان هذا الدعم الدولي مستندًا إلى الإصلاحات التي استهدفت: تحقيق السلام الداخلي على أساس الإنصاف والشمول والعدالة، وإزالة التشوهات الاقتصادية واستقرار الاقتصاد، وبناء أساس للنمو الشامل والمستدام والتنمية، والحد من الفقر. ووفقًا لهذه المستهدفات تم تخفيض دعم التجزئة للبنزين والديزل والانتقال إلى سعر الصرف الذي يحدده السوق، فضلًا عن تدابير تعزيز الحوكمة، وكان لهذه القرارات تأثيراتها الاجتماعية القاسية، رغم استهدافها تخفيض ديون السودان لصندوق النقد إلى 6 مليارات دولار بحلول 2024.
وقد عطلت الأوضاع السياسية الدعم الدولي للاقتصاد السوداني، بعدما علّقت الولايات المتحدة دعمها المقدم إلى السودان، وحثت كلًا من البنك وصندوق النقد الدوليين على وقف الدعم المقدم للحكومة السودانية؛ لدعم عملية التحول الديمقراطي حتى يتم استئناف الحكم المدني.
انفراجة مشروطة
مثّل توقيع الاتفاق الإطاري الانفراجة التي من شأنها إعادة تموضع السودان دوليًا، فضلًا عن فك الجمود السياسي الذي أحاط بالعملية الانتقالية على امتداد عام، مما هدد بانزلاق البلاد نحو الفوضى، مع تصاعد الاستقطاب السياسي والاضطراب الأمني، وتباين المصالح والمواقف على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية.
وشمل الاتفاق الإطاري المستند إلى الدستور الانتقالي مجموعة من المبادئ العامة، فضلًا عن قضايا الهياكل الانتقالية والأجهزة النظامية وأخيرًا الاتفاق النهائي. وجاءت أبرز بنود الاتفاق الإطاري كالتالي:
- تكوين جيش وطني مهني موحد، مما يقتضي توحيد قوات الدعم السريع والميليشيات المسلحة.
- نأي الجيش بنفسه عن العملية السياسية مع ضرورة إصلاح الأجهزة النظامية وتحديد مهامها ووضعها تحت رئاسة رئيس مجلس الوزراء.
- إقامة سلطة مدنية كاملة دون مشاركة القوات النظامية فيها.
- تحديد فترة انتقالية مدتها 24 شهرًا من تاريخ تعيين رئيس وزراء مدني يترأس الحكومة الانتقالية.
- يتم اختيار رئيس الوزراء من قبل قوى الثورة الموقعة على الاتفاق الإطاري.
- أن يكون رئيس الدولة المدني هو القائد العام للقوات المسلحة.
- توسيع صلاحيات رئيس الوزراء في الفترة الانتقالية.
- إطلاق عملية شاملة لصياغة دستور جديد تحت إشراف مفوضية صناعة الدستور.
- تنظيم عملية انتخابية شاملة في نهاية الفترة الانتقالية.
- تفكيك نظام الرئيس السابق عمر البشير في كافة مؤسسات الدولة.
- استرداد الأموال والأصول المتحصل عليها بطرق غير شرعية.
- مراجعة القرارات التي تم بموجبها إلغاء لجنة إزالة التمكين.
تفاؤل حذر
بهذا الاتفاق الذي لاقى الدعم الدولي والإقليمي، من المفترض أن يشكل بداية لحل الأزمة واستكمال ما تبقى من المرحلة الانتقالية، شريطة التوصل إلى الاتفاق النهائي وتشكيل الحكومة المدنية في الأجل القريب. لكن هذا التفاؤل يظل رهن جملة من التفاعلات في المرحلة المقبلة، منها: استمرار دعم المجتمع الدولي للاتفاق، وتعزيز الثقة بين المكون المدني والعسكري لتنفيذ بنود الاتفاق، والأهم إقناع بقية الأطراق بالالتحاق بالاتفاق؛ إذ أكد البرهان في هذا الصدد على أن الاتفاق يمثل أساسًا للاتفاق النهائي والترتيبات الدستورية، بعد مشاركة الأطراف الأخرى.
هذا فضلًا عن أهمية استمرار الأطراف الموقعة على الاتفاق على الالتزام به، والشروع في حسم القضايا العالقة التي تمثل حجر الزاوية في نجاح البلاد في عبور المرحلة الانتقالية، خاصة مع الصعوبات المحيطة بقضايا العدالة الانتقالية وملف الترتيبات الأمنية والإصلاح الأمني والعسكري. هذا فضلًا عن مأزق الوصول إلى الحدّ الأدنى من التوافق الوطني في ظل استمرار قطاع عريض من القوى المدنية والسياسية معترضة على الاتفاق، والتي لا تزال محاولات الحقاها بالاتفاق مستمرة.
في الختام، يظل أمام القوى السياسية تحديات قائمة تعترض سبيل التوصل لاتفاق نهائي، فضلًا عن التحديات التي تنتظر أداء الحكومة المقبلة، والمرجح لها أن تعاني من نفس الصعوبات التي واجهت الحكومة السابقة برئاسة حمدوك.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية