أسواق وقضايا الطاقة

من يمتلك مفاتيح الطاقة النووية عالميًا؟

كانت نظرة العالم للطاقة النووية نظرة سوداء حتى وقت قريب، وخاصة بعد حادثة فوكوشيما والتي جعلت العالم يأخذ موقفًا معاديًا من الطاقة النووية، وكان وقوع حادثة فوكوشيما أمرًا جعل طوكيو تتحرك بسرعة وبحزم ضد الطاقة النووية حين أوقفت تقريبًا جميع مفاعلاتها النووية التي وصل عددها إلي حوالي ٥٥ مفاعلًا، ومنذ ذلك الوقت لم تستأنف سوى ٩ مفاعلات عملياتها، بعد اليابان، وتحركت العديد من الدول نحو التخلي عن خيار الطاقة النووية، وأبرز هذه الدول هي ألمانيا التي قررت التخلص التدريجي من الطاقة النووية، وجدير بالذكر بأن الاستخدام السلمى للطاقة النووية بدأ منذ خمسينيات القرن الماضى، بعد أن أنشأ الاتحاد السوفيتي أول مفاعل نووي على مستوى العالم وذلك لإنتاج الكهرباء فى عام ١٩٥٤، والمعروف باسم مفاعل أوبنينسك، وخرج من الخدمة فى عام ٢٠٠٢، وذلك بعد أكثر من حوالي ٤٨ عامًا في إنتاج الكهرباء وهو الآن مفتوح كمتحف أمام الجمهور، ولكن الآن وبعد سنوات طويلة هل تغيرت تلك النظرة القاتمة للطاقة النووية فى وقت يعاني فيه الجميع من أزمة فى الطاقة؟

هل المفاعلات النووية طاقة المستقبل؟

بلغ إجمالي سعة الطاقة النووية المركبة علي مستوى العالم ما يقرب من حوالي ٤٠٠ جيجاوات وذلك فى عام ٢٠٢١، لتُمثل نحو حوالي ١٠٪ من قدرة توليد الكهرباء في العالم، مع توقعات استقرار السعة في العامين المقبلين، ووفقًا لإحصائيات عام ٢٠٢١ بلغت أعداد المفاعلات النووية في العالم نحو حوالي ٤٣٩ مفاعلًا في أكثر من ٣٢ دولة، بطاقة إجمالية تزيد عن حوالي ٣٩٠ جيجاوات، ويوجد حاليًا أكثر من ٥٢ مفاعلًا قيد الإنشاء في حوالي ١٩ دولة على مستوى العالم، ومن المرجح أن تشهد سعة الطاقة النووية المركبة إضافة حوالي أكثر من ٥٤ جيجاوات، بمجرد اكتمال البنية التحتية لهذه المفاعلات الجديدة، وتحتل الولايات المتحدة الأمريكية ترتيب الدول الأكثر إنتاجًا للطاقة النووية بحوالي ٧٩٠ جيجاوات/ساعة بعدد مفاعلات ٩٦ مفاعلًا وبنسبة حوالي ٣٠٬٩٪ من إجمالي الإنتاج العالمي كما يوضح الشكل التالي. 

حيث يستغرق بناء محطة نووية جديدة ما لا يقل عن ٥ سنوات؛ ولذلك من غير المتوقع زيادة السعة على المدى القريب؛ مما يعني أن قطاع الطاقة النووية سيشهد انخفاضًا في السعة الإجمالية؛ وذلك بسبب عمليات الإغلاق الأخيرة بالإضافة إلي مشكلات الصيانة المتكررة، ولكن الاستثمارات المتزايدة مع تفاقم الوضع العام فى إمدادات الطاقة تشير إلى زيادة القدرة على المدى الطويل، وبصفة عامة قد يحتاج العالم إلي بناء حوالي أكثر من ١٠٠ محطة نووية جديدة وذلك بحلول عام ٢٠٣٠، أي بعد ثماني سنوات من الآن، وبشكل عام القيمة الاقتصادية لمحطة الطاقة النووية تعتمد بشكل أساسي على بعض العوامل:

  • خصائص المحطة. 
  • تكاليف البناء ومدة البناء والعمر. 
  • تكاليف التشغيل والصيانة، وتكاليف الوقود. 
  • تكاليف مناولة وتخزين النفايات، وتكاليف إيقاف التشغيل.
  • درجة الاستخدام أو عامل السعة.
  • سعر الالتقاط وهو متوسط سعر الكهرباء الذي تحصل عليه المحطة.
  • المساهمة في تقليل انبعاثات الكربون.
C:\Users\dell\Downloads\France-Blue-6.png

ومن جهة أخرى، تقود باريس تحالفًا يشمل دول أوروبا الشرقية وهي المنطقة التي تُعد المنطقة الأكثر اعتمادًا على الفحم في أوروبا لتصنيف الغاز الطبيعي والطاقة النووية بصفتها استثمارات آمنة ومستدامة،  حيث تهيمن فرنسا على حوالي نسبة أكبر من ٧٠٪ من حصتها فى إنتاج الكهرباء وهي النسبة الأكبر على مستوى العالم، إذ تسعى المجر وبولندا ورومانيا وبلغاريا لجذب المزيد من الاستثمار في المحطات النووية وذلك من أجل الابتعاد عن الوقود الأحفوري، بالإضافة إلي الإبتعاد عن الوقود الروسي، ولكن قد تحتاج دول الاتحاد الأووربي إلى إنفاق أكثر من ٥٧٠ مليار دولار على الطاقة النووية الجديدة والحالية بحلول منتصف القرن، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى انقسامات بين دول الاتحاد بشأن الدور الذي يجب أن تؤديه المحطات النووية في السعي لتحقيق أهداف الطاقة البديلة في أوروبا.

حيث إن الاتحاد الأوروبي يعتمد على الطاقة النووية لإنتاج ربع احتياجه من الطاقة الكهربائية، حيث توفر المحطات النووية نصف الكهرباء منخفضة الكربون لدول الاتحاد الأوروبي، ولكن على الجانب الآخر، تعرب برلين، إلى جانب النمسا ولوكسمبورج والبرتغال والدنمارك، عن مخاوفها بشأن محطات الطاقة النووية والنفايات المشعة التي تنتجها، حيث هناك العديد من السياسات المختلفة فيما يتعلق بمسألة الطاقة في جميع دول القارة الأوروبية، ولكن يجري الآن الاهتمام بأمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي وذلك ضمن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، إذ يُعد الاتحاد الأوروبي أكبر مستورد للطاقة علي مستوى العالم، كونه يستورد حوالي أكثر من ٦٠٪ من طاقته، بتكلفة سنوية تقدر بحوالي أكثر من ٤٠٠ مليار دولار.

هيمنة موسكو على صناعة الطاقة النووية

قد يظن البعض بأن روسيا تلعب دورًا حيويًا فقط فى سوق الغاز العالمي، ولكن الحقيقة بإنها تؤثر أيضًا فى سوق الطاقة النووية بل يمكننا القول بإنها اللاعب الرئيس فى تلك الصناعة الاستراتيجية، حيث بلغ حجم الطلبات الخارجية لدي ذراع موسكو القوي روس أتوم الروسية بحوالي أكثر من ١٣٨ مليار دولار بين عامي ٢٠١٠ و٢٠٢١، وبصفة عامة نستطيع القول إن صناعة الطاقة النووية العالمية وأسواقها تقع في قبضة موسكو ومما يعني أن كل الطرق تؤدي وبشكل كبير إلى روسيا وذلك للأسباب التالية: 

  • لما تمتلكه من تكنولوجيا متطورة. 
  • توفر المفاعلات النووية بأقل تكلفة وأكثر فاعلية مع توافر شروط السلامة الكاملة.
  • هيمنة موسكو على سوق تصدير محطات الطاقة النووية وبنائها، وبالأخص في الاقتصادات الناشئة. 
  • موسكو تسيطر على الصناعة النووية في العالم عبر ذراعها الأقوى في القطاع شركة روس أتوم أكبر مُصدر للوقود النووي والمفاعلات في العالم.
  • تمتلك روسيا نحو نصف القدرة العالمية في تخصيب اليورانيوم المستخدم في صنع الوقود النووي.
  • تتمتع موسكو بخبرة كبيرة وطويلة في كيفية بناء المحطات النووية وصيانتها الشاملة، بالإضافة إلى تقديمها سوقًا شاملة للعناصر اللازمة لإنشائها، وذلك على غرار المفاعلات، والوقود، والتمويل، وحتى تدريب العمال. 
  • وقعت روسيا اتفاقيات تعاون نووي ثنائية مع أكثر من ٤٧ دولة وذلك منذ عام ٢٠٠٠، ولديها محطات طاقة كبيرة قيد الإنشاء في تركيا وبيلاروس وبنجلاديش، إضافة إلى ذلك، تشارك موسكو في مشاريع نووية عبر أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية.
  • معظم الدول التي تمتلك المفاعلات النووية والتي تستخدم الطاقة النووية عالميًا تعتمد على موسكو في جزء من سلسلة توريد الوقود النووي الخاصة بها.
  • يعتمد حوالي ٤٠٪ من الطاقة النووية المنتجة في القارة الأوروبية على اليورانيوم من روسيا أو كازاخستان وأوزبكستان، وهما حليفان مقربان من موسكو.
  • يعمل نحو نصف محطات الطاقة النووية الأمريكية بكاملها (أي ما يوازي ١٦٪ تقريبًا من إجمالي توليد الكهرباء في الولايات المتحدة الأمريكية) وذلك بالاعتماد على الواردات من تلك البلدان الثلاثة وهو ما يُفسر سبب الضغط الذي مارسه صُناع القرار داخل الشأن الأمريكي وذلك من أجل استبعاد اليورانيوم من العقوبات المفروضة على واردات الطاقة الروسية.
  • تمتلك موسكو محطات لتوليد الطاقة النووية من أصل عدد ١٠٣ في الاتحاد الأوروبي (أي تُشكل حوالي ١٠٪ من إجمالي طاقة الكهرباء النووية في الاتحاد الأوروبي) تعتمد على إمدادات الوقود النووي الروسي.

بكين تتوسع في الطاقة النووية وتخطط لمنافسة أمريكا

وفى اتجاه مغاير تمامًا لما تتخذه بعض دول العالم تجاه خفض الاعتماد علي الطاقة النووية، تأتي الصين على رأس أكبر دول العالم والتي تتوسع في إنشاء المحطات النووية، حيث تخطط بكين لإنشاء حوالي أكثر من ٣٠ مفاعلا نوويا خلال السنوات المقبلة، بالإضافة إلى أنها تمتلك فعليًا ٤٨ مفاعلًا، ضمن خطة التشغيل الفعلية، ولديها حوالي ١١ مفاعلًا تحت الإنشاء، بما يشير إلي أن بكين تتوسع بشكل كبير في برنامج الطاقة النووية وبصورة غير مسبوقة، مما يؤهلها إلي أن تصبح لاعبًا رئيسًا في معادلة الطاقة العالمية، وسوف يتضاعف نصيب المفاعلات النووية من إجمالي إنتاج الكهرباء، خاصة أن حصة إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية في الصين مازالت حوالي ٥٪.

ويجب الإشارة إلي أن الدولة المصرية بدأت خطواتها الفعلية نحو الدخول إلى الصناعة النووية العالمية بوذلك بعد أن أثمرت الجهود المصرية فى الاتفاق على إنشاء محطة الضبعة النووية، والتي من المخطط أن يتم بناء أربع وحدات روسية من نوعية مفاعلات الماء المضغوط بقدرة حوالي ١٢٠٠ ميجا وات للمفاعل الواحد، تنتمى إلى نوعية مفاعلات الجيل الثالث المطور، والتى تُعد حاليًا أكثر المفاعلات انتشارًا على مستوى العالم، وأعلنت هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء عن قيام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإدراج جمهورية مصر العربية رسميًا ضمن الدول التي لديها مفاعلات قيد الانشاء، حيث تم البدء فى أعمال الصبة الخرسانية الأولى للوحدة الأولى بمحطة الضبعة للطاقة النووية فى نهاية يونيو الماضي، حيث صرح أليكسي ليخاتشوف المدير العام لشركة روس أتوم  إن البدء في بناء الوحدة الأولى بمحطة الضبعة النووية يعني انضمام مصر للدول المنتجة للطاقة النووية.

هل من الممكن أن تلعب الطاقة النووية دورًا حيويًا؟

في الوقت الذي تعاني فيه دول العالم من أزمة حادة فى إمدادات الطاقة، يمكن للطاقة النووية أن تُسهم في خفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، بالإضافة إلى خفض معدلات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مع تمكين أنظمة الطاقة الشمسية والرياح بحصص أعلى، حيث يمكنها أن تؤدي دورًا مهمًا في مساعدة دول العالم نحو الانتقال الآمن إلى الطاقة البديلة والنظيفة، وساهمت الطاقة النووية بحصة قدرها نحو حوالي ٤٬٣٪ وذلك فى عام ٢٠٢١، حيث ساهمت ١٥ دولة فقط بأكثرمن حوالي ٩٢٪ من الطاقة النووية المنتجة عالميًا في ذلك العام، حيث إنه وسط مصادر الطاقة منخفضة الكربون كافة، تُمثل الطاقة الصفراء الوحيدة التي تشهد انقسامًا واضحًا في سياسات الدول بين رفض لمخاوف منها: 

  • تتعلق بالسلامة. 
  • تأييد بصفتها مصدرًا يحتاجه العالم لتحقيق أهدافه المناخية.

ومع تزايد الضغوط كنتيجة لتداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية بالإضافة إلي سعي العالم إلي مواجهة تغير المناخ، بدأت الطاقة النووية تطل من جديد وذلك بصفتها مصدر طاقة منخفض الكربون وبأسعار معقولة وموثوق به.

وهناك العديد من النقاط الرئيسة والتي تجعل الطاقة النووية قادرة على لعب دور حيوي نحو مستقبل آمن ونظيف ومستدام للطاقة العالمية ومنها:

  • أمن الطاقة، بصفة عامة لن تستطيع مصادر الطاقة البديلة وحدها تحقيق مبدأ وهدف أمن الطاقة، إذ يتطلب الأمر مزيجًا من مصادر الطاقة المختلفة، وبالأخص الطاقة النووية.
  • ضرورة الإدراك العلمي والسياسي بأهمية الطاقة النووية، حيث يُعد الاستخدام الأمثل لمصادر الطاقة البديلة والطاقة النووية هو الطريق الصحيح للمضي قدمًا في تحقيق أهداف المناخ.
  • عاملي الابتكار والمرونة، حيث يمكن للطاقة النووية أن تتجاوز دورها طويل الأمد في توليد الكهرباء، وتستخدم أيضًا في إنتاج الهيدروجين الأصفر والذي أصبح خيارًا للوقود النظيف في قطاع النقل وأحد أشكال تخزين الطاقة.
  • مزايا تنافسية عن المصادر الأخرى، للطاقة النووية مميزات عديدة عن المصادر الأخرى، فهى ليست فقط مصدر طاقة منخفض الكربون، ولكنها واحدة من أكثر الطرق موثوقية وفاعلية من حيث التكلفة وذلك لإنتاج الكهرباء.

مجمل القول، الطاقة النووية هي ثاني أكبر مصدر للطاقة الخالية من الكربون في العالم اليوم وذلك بعد الطاقة الكهرومائية، وسيتضاعف توليد الطاقة النووية على مستوى العالم وذلك ضمن خارطة الطريق لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام ٢٠٥٠، وفي الأخير هل يستطيع العالم كسر هيمنة موسكو على مفاتيح صناعة الطاقة النووية؟

+ posts

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

د. أحمد سلطان

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى