أسواق وقضايا الطاقة

أمن الطاقة.. المفهوم والتحديات

تلعب الطاقة دورًا حيويًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ومقياسًا ومؤشرًا لنمو الدول، ويزداد استهلاك الطاقة مع تطور الدول، ويعد توافر وتنويع مصادر الطاقة شرطًا مهمًا وضروريًا من شروط النمو المستدام، ويجب على الجميع مواجهة التحديات في مجال الطاقة وليس العمل فقط العمل على تطوير مصادرها المختلفة بل وتنويع مصادرها ما بين الطاقة المتجددة والغير متجددة والحفاظ على مقدراتها وثرواتها الطبيعية والبيئية، والعمل على خفض الاعتماد الكلي على الواردات وخلق موارد جديدة للطاقة وتحسين كفاءة استخدامها والعمل على ضخ استثمارات جديدة من أجل إحداث طفرات هائلة في مجال الطاقة بصفة عامة، وتُعد موارد الطاقة من أهم الاسباب الرئيسية التي ساهمت في تطور الحياة الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والسياسية للدول منذ اكتشافها إلى يومنا هذا، وموارد الطاقة هي أساس نهوض اقتصاد الدول المتقدمة.

مدخل

في الخمسينيات من القرن الماضي وبالتحديد عام ١۹٥٦ استشرف الدكتور الأمريكي وعالم الجيولوجيا المعروف “ماريون كينج هوبرت” مستقبل النفط في العالم من منظوره الخاص ومن خلال نظرية ذروة الإنتاج التي تسمى نظرية قمة هوبرت، استنتج هوبرت بأن إنتاج النفط في الولايات المتحدة الأمريكية سيبلغ ذروته بحلول عام ١۹٦٥، وكحد أقصى عام ١۹٧٠، ولكن هذا لم يحدث على أرض الواقع بأي شكل من الأشكال حيث كان العقد الأخير استثنائيًا في صناعة النفط الأمريكية، بل وارتفع إنتاجها بما يقارب نسبة ١٤٤٪.

مما لا شك فيه، أن العالم كان وما زال وسيبقى متعطشًا طوال دورة الحياة المستمرة لجميع أنواع ومصادر الطاقة دون استثناء، فالعالم ينمو في شتى المجالات بشكل ملحوظ وسريع، والنمو السكاني والصناعي في الدول الناشئة خير شاهد على ذلك، وبصفة عامة فإن أي نمو سكاني واستهلاكي يقابله نمو واضح وسريع في الطلب على الطاقة والتي لها تطبيقات واستخدامات كثيرة جدًا، ولذلك فإن موضوع أمن الطاقة العالمي وموثوقية الإمدادات ليست قضية هامشية، بل قضية جوهرية وحيوية وترتقي لتصبح قضية وجودية.

من هنا البداية

في عام ١٩١١ دار نقاشًا طويلًا بين رجال البحرية الملكية البريطانية عن نوعية الوقود اللازمة لسفن الأسطول، وكان الفحم هو الوقود الأساسي للبحرية لوفرته بكثرة، بينما كان النفط من المصادر الشحيحة في ذلك الوقت وليست بقريبة إلى قواعد الأسطول الإنجليزي، لذا تركزت كل الآراء على الإبقاء على الفحم وعدم الاعتماد على مصادر أخرى، إلا أن السير ونستون تشرشل والذي كان يشغل قائد الأدميرالية وقتها كان له رأى مختلف عن الجميع، فهو ينظر لسيادة وتفوق الأسطول الإنجليزي وقوة بريطانيا ولضمان تحقيق ذلك كان من الضروري التحول نحو النفط.

قوبل قرار تشرشل بالتهكم وزادت حدة الانتقادات ووصف بالقائد المتهور وذلك لأن إيران كانت المصدر الوحيد لتزويد بريطانيا بالنفط في ذلك الوقت، ووقف تشرشل أمام البرلمان البريطاني مدافعًا عن قراره قائلًا لا يجب الاعتماد على نوع واحد ولا على طريق واحد وعلى بلد واحد لتأمين إمداداتنا وأن التنوع في مصادر الطاقة هو الضمان الوحيد لوصول النفط إلينا، وشكل خطاب تشرشل مبدأ أساسيًا في وضع استراتيجيات أمن الطاقة والذي لا يزال متبعًا حتى الآن في فنون الاقتصاد والسياسة. وبعد سلسلة طويلة ومتصلة من الاضطرابات والأزمات العالمية والسياسية والانقطاعات في سلاسل الأمداد والأزمة الروسية الأوكرانية والتلويح بسلاح النفط والعقوبات، عاد الحديث عن أمن الطاقة وبقوة ليتصدر المشهد ولم يعد من الممكن تجاهل مفهوم ومبدأ أمن الطاقة، 

وتعرف وكالة الطاقة العالمية مصطلح “أمن الطاقة” على أنه توافر مصادر الطاقة دون انقطاع وبأسعار يمكن تحملها، ولأمن الطاقة أسس وأوجه مختلفة فمن الممكن أن يكون طويل أو قصير الأجل أو يكون على المستوى الدولي أو الداخلي، وعادة يتسبب أي نسب نقص أو انقطاع في عمليات إمدادات الطاقة لمددة قصيرة في إحداث تقلبات قوية في أسعار الطاقة مما يتسبب في هزات عنيفة في عمليات العرض والطلب، وفى حالة استمرار تلك الحالة من ضعف الإمدادات لمدد طويلة تنعكس آثاره على معدلات النمو بالسلب، وللتغلب على قضية انقطاع أو نقص الإمدادات قصيرة الأجل يجب بناء الخزانات الاستراتيجية في الدول المستهلكة والمنتجة أيضًا والسحب منها وقت الأزمات، والوجه الآخر لأمن الطاقة هو طويل الأجل بهدف تأمين مصادر الطاقة بمعدلات كافية من أجل تلبية الطلب المستقبلي وخاصة وقت الأزمات. 

مفهوم أمن الطاقة

مفهوم أمن الطاقة في معناه التقليدي هو (أمن المعروض)، وذلك من خلال التركيز على سبل توفير الإنتاج الكافي من مصادر الإنتاج وبأسعار مناسبة في متناول الجميع، وأمن الطاقة لأي دولة يتحقق حال توافر لديها مورد مستدام للطاقة وبأسعار مناسبة، ولهذا السبب كان للدول الكبرى تدخلات عسكرية وسياسية في الدول المنتجة للطاقة لتحقيق هذه المطالب، وبالتالي يركز مفهوم أمن الطاقة على أمن المعروض من الطاقة، لأن انخفاض بند العرض في الأسواق الدولية سيؤدي بالضرورة إلى زيادة ملحوظة في أسعار الموارد المختلفة من الطاقة مثل البترول والغاز وبالتالي سينعكس على الأمن القومي الاقتصادي للدولة المستهلكة.

والمفهوم التقليدي لمصطلح أمن المعروض يثير الكثير من التساؤلات حول كيفية إيجاد آليات واضحة لسعر ملائم، ومن يحدد ويتحكم في هذا السعر، وكيفية الوصول إلى سعر ملائم يلبي رغبة كلًا من الدول المنتجة والدولة المستهلكة، فالسعر المناسب لدولة مستهلكة قد لا يناسب الدول المنتجة التي تطمح دائمًا إلى زيادة الأسعار، وخاصة لو أن الدول المنتجة بالفعل هي الدول النامية والتي عادة تكون معتمدة بشكل رئيسي على عائدات تصدير تلك الموارد في أمنها القومي الاقتصادي، في حين الدول المستهلكة ترغب بسعر منخفض لأن السعر المرتفع يثقل اعبائها الاقتصادية، فالسعران المنخفض والمرتفع لموارد الطاقة يشكلا عاملًا مهمًا لأمن الطاقة.

وبنظرة عامة، فإن حالات ارتفاع أسعار الموارد المختلفة من الطاقة على المدى الطويل لا يصب دائمًا في مصلحة الدول المنتجة، لما له من آثار سلبية على التكامل التجاري الدولي، وبالأخص فإن ارتفاع أسعار الموارد سوف يؤدي بالتبعية إلى ارتفاع تكاليف تصنيع السلع القابلة للتبادل التجاري الدولي، مما يؤثر على الدول المنتجة لموارد الطاقة المختلفة والتي تستورد تلك السلع من الأسواق العالمية، وهذا ما حدث في عام ٢٠٠٨ والأزمة المالية العالمية في الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي، وكشف عن تلك العلاقة التأثيرية التبادلية بين الدول المستهلكة والدول المنتجة. 

اختلاف مفهوم وتعريف أمن الطاقة

تتمحور كل مفاهيم أمن الطاقة حول لاعبين أساسيين وهما “مستهلكي ومنتجي الطاقة”، مستهلكي الطاقة من جميع الدول الصناعية الكبرى تدور حول أولوياتها لتجنب نقص أو انقطاع إمدادات الطاقة، بالإضافة إلى ضرورة تنويع مصادرها، والعمل على تأمين البنية التحتية للدول المنتجة للمساعدة في توصيل الطاقة إلى الأسواق العالمية، وفي حين يرى منتجي الطاقة بمصادرها المختلفة أن أمن الطاقة يكون من خلال الوصول إلى أسعار ملائمة للجميع في أسواق الطاقة العالمية، مع وجود أسواق مستهلكة، وتطوير البنى التحتية للمنشاة النفطية.

مفهوم الاتحاد الأوروبي:

حددت المفوضية الأوروبية أربع دعائم رئيسة يستند عليها أمن الطاقة الأوروبي وهي: 

  • العمل على التنويع في مصادر الطاقة، وهو الأمر الذي من شأنه التقليل من التبعية لمورد أو لدولة معينة.
  • إدارة بند الطلب، عن طريق طرح مفاهيم مختلفة تتعلق بمبدأ كفاءة استخدام الطاقة، بهدف خفض استهلاك الطاقة قدر الإمكان.
  • إدارة قوية والتحكم بالعرض الخارجي، عن طريق الدخول في شراكات قوية مع الدول الرئيسة التي يعتمد عليها الاتحاد الأوروبي في تأمين متطلباته من النفط والغاز.
  • العمل على تجنب الأزمات في سوق الطاقة، عن طريق قناعة مفادها، أن تحقيق أمن العرض يتطلب بالضرورة بأن تكون الأسواق منتظمة بصورة قوية مما لا يسمح بحدوث أزمات. 

المفهوم الروسي لأمن الطاقة:

يستند مفهوم أمن الطاقة الروسي على مبدأ تحقيق أمن الطلب، وأسعار مرتفعة، والتزامات وإمدادات طويلة الأجل وبشكل مستدام، والوصول الآمن إلى الأسواق العالمية وبالأخص القارة العجوز دون الإعاقة من دول العبور، والعمل على مد أنابيب الطاقة والغاز إلى قلب الاتحاد الأوربي، والعمل بقوة على خلق توازن في أسواق الطاقة الروسية لمنع تقييد الدب الروسي بسوق واحدة.

المفهوم الأمريكي لأمن الطاقة:

يتمثل المفهوم العام لأمن الطاقة الأمريكي في العمل على خفض الاعتماد على موارد الطاقة التي يتم استيرادها من خارج الولايات المتحدة الأمريكية، عن طريق عمليات الترويج لأنواع مختلفة من الوقود المنتج محليًا مثل الإيثانول، والعمل علي خفض المخاطر والصدمات السعرية عن طريق تنوع الموردين، وتهدف الولايات المتحدة الأمريكية الاعتماد على البدائل البيولوجية للطاقة البديلة للوقود الأحفوري أحد أهم مقومات الأمن القومي الأمريكي. 

المفهوم الصيني لأمن الطاقة:

يتبلور مفهوم أمن الطاقة الصيني على ضرورة تأمين واردات الطاقة بالتحرك على المسارين الداخلي والخارجي بهدف تنويع الامدادات وتحقيق أمن الطاقة.

ومن خلال تحليل وفهم تلك المفاهيم السابقة حول أمن الطاقة واختلاف مفهومها من دولة لأخرى، فمن الممكن صياغة تعريف مناسب لمفهوم أمن الطاقة وهو توافر الكميات المطلوبة في الأسواق العالمية بأسعار مناسبة ومستقرة ومستدامة، مع ضرورة العمل على تنمية مصادر الطاقة المتاحة من خلال التكنولوجيا، ومع البحث عن مصادر جديدة تلبي الحاجة المتزايدة للطاقة، إلى جانب ترشيد استخدام الطاقة، مع توافر الضمانات المناسبة للحفاظ على البيئة.

تحديات أمن الطاقة

أمن الطاقة بصفة عامة يرتبط بالعديد من التحديات التي لها آثارها الواضحة على استراتيجية أمن الطاقة العالمية والإقليمية، وهو الأمر الذي يدفع بالدول الكبرى إلى تبني سياسات العمل على امتلاك أدوات متنوعة تتفق مع الأوضاع الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي ومن أهم تلك التحديات:

  • حدوث تغيرات سياسية وأمنية جوهرية في الدول المنتجة للطاقة والبترول.
  • التحديات التي من الممكن أن تواجهها شركات البترول العالمية، وهذه التحديات يمكن تلخيصها في ثلاثة نقاط رئيسية والتي من الممكن أن تحد من قدرة وفاعلية تلك الشركات وبالتالي قدرتها على التصدير إلى السوق العالمية وهي:

– التهديدات الأمنية التي قد يتعرض لها موظفيها ومنشأتها.

– التهديدات التي قد تنتج عن مصالح سياسية، وذلك عن طريق تغير في قوانين عقود الاستثمار.

– الصورة السلبية عند الشعوب بحق الشركات العالمية والتي توصف بأنها شركات عدوة الشعوب وسارقة لخيراتها.

  • حدوث اختلال في توازن عمليتي العرض والطلب في أسواق الطاقة العالمية، بسبب التزايد المستمر في استهلاك موارد الطاقة وبالأخص البترول والغاز، وأيضًا مع تزايد النمو السكاني العالمي وخاصة في دول شرق القارة الآسيوية مثل دولتي الصين والهند، وبالتالي فإن موارد الطاقة المتاحة بكافة مصادرها مازالت غير كافية على تلبية الطلب العالمي المتزايد وبقوة الذي يشهد ارتفاعًا ملحوظًا سنويًا.
  • القيود المفروضة على امدادات الطاقة المختلفة، وتم تصنيفها إلى ثلاثة أنواع أساسية حسب تصنيف بول هورسنل Paul Horsnell وهي:

– إعاقة الحظر، وهي التي تنشأ من فرض دولة مستهلكة قيود على استيراد من دولة منتجة معينة.

– إعاقة من خلال فرض قيود على الصادرات، وتنشأ عندما ترغب دولة منتجة أو مجموعة من الدول المنتج في فرض قيود على صادراتها لأسباب سياسية أو استراتيجية. 

– إعاقة لأسباب قهرية، وتنشأ عندما لا يستطيع المنتج أو المورد تصدير إنتاجه من الطاقة وذلك نتيجة لظروف داخلية أو خارجية مثل الحرب والأوبئة العالمية.

– استهداف المنظمات الإرهابية لمصادر الطاقة وبناها التحتية وامداداتها الرئيسية.

ختامًا، تتعرض مصادر الطاقة عالميًا لتحديات ومخاطر عديدة، مما ينعكس على إمداداتها ولذلك يجب أن يتحد العالم كله من أجل حماية مصادر الطاقة وسلامة إمداداتها، عن طريق صياغة اتفاقيات ومواثيق دولية ووضع آليات وخطوط عريضة لتفعيلها مع الضوابط والعقوبات المناسبة لمخترقيها، ولا بد أن يتحمل الجميع مسؤولية حماية مصادر الطاقة وضمان سلامة نقلها، خاصة وأن هناك علاقة واضحة وتكاملية ذات طبيعة تأثيرية بين الأمن القومي وأمن الطاقة.

فأمن الطاقة أصبح مكون رئيسي وركن أساسي من مكونات الأمن القومي لأي دولة من دول العالم، وأصبح حماية أمن الطاقة لا يقل أهمية عن حماية أراضيها ضد أي عدوان خارجي، وهو الأمر الذي دفع الدول الكبرى إلى وضع استراتيجيات واضحة لتحقيق أمن الطاقة، وأيضًا دفع العديد من دول العالم إلى الصراع والتنافس من أجل السيطرة على الحصة الأكبر من موارد الطاقة والبترول والتحكم في منابعه والسيطرة على مراكز إمداداته. 

كاتب

د. أحمد سلطان

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى