
تنشيط الدبلوماسية العربية… لقاء العلمين الخماسي وإدارة الملفات الإقليمية المتشابكة
تستضيف مدينة العلمين الجديدة لقاءً عربيًا خماسيًا تترأسه مصر بمشاركة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والعاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة. ويأتي اللقاء امتدادًا للقاءات وقمم أخرى استضافتها مدينتا شرم الشيخ المصرية والعقبة الأردنية في 25 مارس بمشاركة قادة مصر والأردن والعراق والإمارات، و20 يونيو بحضور قادة مصر والأردن والبحرين.
وتندرج اللقاءات المتكررة ضمن هدف تنشيط الدبلوماسية العربية وتكثيف التفاهمات البينية وإعادة ترتيب الأوراق والأولويات للتعامل مع المعطيات التي فرضتها المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، وتنسيق الرؤى والجهود لمواجهة التحديات الأمنية والسياسية الجديدة المرتبطة بموضوعات مثل إعادة ضبط العلاقة بين الشرق الأوسط والقوى الكبرى المهيمنة على النظام الدولي، وتداعيات الحرب الأوكرانية على الملفات العربية المفتوحة وتأثيراتها الاقتصادية المتعلقة بقضايا الغذاء والطاقة، علاوة على المتغيرات المرتبطة بالترتيبات الإقليمية الجديدة بما في ذلك التطبيع بين إسرائيل وتركيا والحوار السعودي الإيراني، فضلًا عن تعزيز مسارات التعاون الثنائي في كافة المجالات والقطاعات.
السياق والدلالات
لعل السمة المميزة للعمل العربي المشترك خلال العام الجاري هو تلك المباحثات الثنائية ومتعددة الأطراف التي كانت مصر حاضرًا رئيسًا بها، سواء عبر استضافتها أو المشاركة بها. فرغم عدم انعقاد قمة جامعة الدول العربية منذ مارس 2019 (قمة تونس) إلا أن الحراك الدبلوماسي العربي رفيع المستوى اكتسب زخمًا كبيرًا لكن ضمن نطاقات أضيق تجمع بين الدول الأكثر احتكاكًا وتأثرًا وتأثيرًا بالقضايا الإقليمية محل التباحث والمناقشة، وفي كل الأحوال ينطوي هذا النمط التعاوني على عدة دلالات:
• أولها: إدراك الدول العربية أهمية بناء تحالفات إقليمية لمعالجة التحديات الرئيسية في ظل تشككها بشأن جدوى المظلة الأمنية الأمريكية وحاجتها إلى التعاون في الشؤون الأمنية والاقتصادية المشتركة، لاسيّما مع إدراكها للكلفة السياسية والاقتصادية الباهظة الناجمة عن حقبة الانقسامات، واستمرار المهددات الإقليمية، وتباين أولويات الإدارة الأمريكية الحالية عن المصالح العربية لبعض الدول التي تشعر بالقلق من تحركات إيران وبرنامجها النووي.
• ثانيها: استعادة الدول العربية زمام المبادرة بشأن تحديد أولويات ووجهات سياستها الخارجية، وتبني نهج أكثر استقلالية يراعي المصالح العربية ويرمي إلى بلوغ درجة معينة من التوازن في إدارة العلاقات مع القوى الكبرى، خاصة بعدما بيّنت الحرب الأوكرانية استمرار الأهمية الجيوسياسية للشرق الأوسط في تحديد الأوزان النسبية للدول خلال مراحل إعادة تشكيل النظام الدولي، بحيث تظل ساحاته العديدة المشتعلة محددًا أساسيًا للدولة المهيمنة التي تكون قادرة على حسم تلك الصراعات لصالحها. وهنا لا يُمكن إغفال دور المعطيات الجديدة التي فرضتها الحرب كعامل إضافي كان له الفضل في تسريع عملية إعادة الاصطفافات الإقليمية، إلى جانب تراجع مركزية الشرق الأوسط بالنسبة لأولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن.
• ثالثها: التطلع إلى إيجاد آليه للاتفاق على حلول مشتركة لأزمات المنطقة تراعي المصالح والأمن القومي العربي، وهو ما يخلق صوتًا عربيًا مسموعًا في القضايا الإقليمية يقف في وجه اللاعبين غير العرب، ويضع حدًا للمشاريع التوسعية التي تستغل حالة الانفلات والضعف وانهيار المنظومة الأمنية العربية لخلق واقع جديد في المنطقة. وهنا تبرز الأزمات السورية والعراقية والليبية بتعقيداتها كنماذج واضحة لما آلت إليه القضايا العربية في لحظات التراجع والتشتت المرتبطة بإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية للمنطقة في أعقاب ما سُمي بالربيع العربي، حيث باتوا ساحات للمشاريع الإقليمية والدولية المتنافسة وانهارت معها الدولة الوطنية وسقطت في حلقة مفرغة من الأزمات.
• رابعها: تحرك مصر من منطلق تحمل مسؤوليتها الإقليمية وإدراكها الواضح لخطورة استمرار تمزقات الجسد العربي على انهيار منظومة الأمن القومي الإقليمي، وما يستتبعه من فتح المجال أمام المشروعات غير الوطنية، الأمر الذي يتوجب معه تقريب وجهات النظر وتجاوز الخلافات البينية نحو بناء رؤية عربية مشتركة للتعاطي مع مشكلات وقضايا الإقليم؛ بما يسهم في دعم الأمن والاستقرار، ويهيئ الطريق لتبني أجندة تنموية مشتركة يُمكن معها استغلال الفرص الاقتصادية التي أوجدتها تداعيات الحرب الأوكرانية. بما في ذلك ارتفاع أسعار النفط وفتح آفاق استثمارية مشتركة لتخفيف الهزات الاقتصادية العنيفة التي ضربت اقتصادات دول المنطقة كجزء من الأزمة العالمية لاسيّما المتعلقة بتدهور الأمن الغذائي وارتفاع أسعار الطاقة وارتفاع معدلات التضخم.
ولعل مبادرة الشراكة الصناعية التكاملية لتنمية اقتصادية مستدامة بين مصر والأردن والإمارات والبحرين، وتأسيس صندوق استثماري بقيمة 10 مليارات دولار بين مصر والإمارات والأردن، وصندوق استثماري آخر مشترك بين الأردن والإمارات بقيمة 100 مليون دولار للاستثمار في مجال المشاريع الريادية، وتوقيع 14 اتفاقية اقتصادية بقيمة 8 مليارات دولار، وضخ استثمارات بقيمة 30 مليار دولار خلال زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى مصر، وتوقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي في مجالات الطاقة والنقل والعقارات والتكنولوجيا خلال زيارة أمير قطر تميم بن حمد؛ خير دليل على آفاق التعاون الاقتصادي الممكنة والتي تجعل الدول العربية تنحي خلافاتها السياسية ولو مرحليًا.
علاوة على ذلك، يأتي اللقاء الخماسي في ضوء بعض المعطيات الجديدة التي ألمت بالمشهد الإقليمي عقب القمم الثنائية والثلاثية والرباعية المشار إليها سلفًا، منها:
• مخرجات قمتي طهران وسوتشي: قادت اجتماعات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيريه الروسي فلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي في طهران وسوتشي خلال يوليو وأغسطس، إلى إدراك أن الآلة العسكرية لم تعد قادرة وحدها على تأمين المصالح التركية داخل الساحة السورية بعدما فشل في إقناع شريكيه ضمن مسار أستانا بتنفيذ عملية عسكرية في مناطق الشمال السوري (منبج وتل رفعت) للقضاء على الوجود الكردي، وباتت التفاهمات السياسية مع النظام السوري مسارًا ضروريًا لمعالجة مخاوف أنقرة الأمنية، وبالفعل أشار مسؤولون كبار في التحالف الحاكم إلى إمكانية عقد محادثات بين الرئيس رجب طيب أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد.
• تعقد الأزمة السياسية العراقية: وصلت أزمة تشكيل الحكومة العراقية لمرحلة من الجمود والانسداد السياسي بات من الصعب معه توقع انفراجة قريبة في ظل عدم وجود قواعد ومنهج واضح للحوار الوطني الذي يقوده الكاظمي وغياب التيار الصدري عنه وتوجيهه الاتهامات للمشاركين فيه مع الإصرار على اعتماد آلية الحشد الجماهيري لتحريك الشارع، وسط توقعات بالدخول في حلقة مفرغة مع تمسك كل طرف بمطالبه، الأمر الذي يجعل أحد أقطاب المعادلة العربية مرهونًا لأحد المشروعات الإقليمية، ويشي بفشل محاولات إعادة تشكيل المعادلة السياسية التي ترسخت منذ عام 2003 والقائمة على نظام المحاصصة الطائفية.
• تعزيز الاتجاه التصالحي: يأتي اللقاء بينما تأكد الاتجاه التصالحي في المنطقة ورغبة الدول العربية تعديل أدوات إدارة الخلافات مع إيران وتركيا بالانتقال إلى نهج التفاهمات الدبلوماسية بديلًا عن المواجهات العسكرية أو القطيعة، وهو ما تجلى في إنجاز المصالحة الإماراتية والسعودية وحتى الإسرائيلية مع تركيا، فيما كانت أحدث مشاهدها اتخاذ العلاقات الخليجية الإيرانية مسارًا أكثر تقاربًا وأقل توترًا جسده قرار الكويت والإمارات رفع التمثيل الدبلوماسي في إيران إلى مستوى السفراء بعدما خفضتاه قبل ست سنوات، بالتوازي مع الحديث عن الارتقاء بالعملية التفاوضية بين الرياض وطهران برعاية بغداد من المستوى الأمني الاستخباراتي الذي ميّز جولاتها الخمس الفائتة إلى المستوى السياسي اللازم لاستعادة الشكل الطبيعي للعلاقات.
ملفات متعددة ومتشابكة
تتعدد الملفات المتشابكة والمتداخلة التي يناقشها القادة المجتمعون في العلمين، سواء خلال اللقاء الخماسي أو على مستوى المباحثات الثنائية أو الثلاثية المرتبطة بدول تحالف المشرق العربي، والتي يُمكن توضحها تاليًا:
• مواجهة التهديدات الإقليمية الخاصة بإيران: رغم الاتجاه التصالحي المشار إليه سلفًا، لاتزال الأدوار الإقليمية الإيرانية المزعزعة للاستقرار محط قلق الدول المشاركة باللقاء لا سيّما كلما تصاعد الحديث بشأن قرب انجاز الاتفاق النووي الذي سيعني قبول إيران عضوًا طبيعيًا في المجتمع الدولي وإطلاق يدها لإرسال المزيد من التدفقات المالية واللوجيستية لأذرعها الإقليمية؛ الأمر الذي سيضيف أعباءً أمنية وعسكرية على دول الجوار يتطلب معها مستوى تنسيقي أمني ومعلوماتي أعلى لرصد التحركات التخريبية مبكرًا وإحباطها، خاصة أن أذرعها نجحت خلال الأشهر الأخيرة في توجيه ضربات للعمق السعودي والإماراتي، مشكلة بذلك تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الخليجي.
هذا بجانب أن إعادة التموضع الإيراني في مناطق الجنوب السوري وتخفيض الحضور الروسي على طول الحدود الأردنية الشمالية وما يرتبط به من تزايد نشاط تهريب السلاح والمخدرات يشكل مصدر إزعاج لعمَّان التي اضطرت إلى تغيير قواعد الاشتباك مع شبكات التهريب خلال الأشهر الأخيرة موقعة عددًا كبيرًا منهم.
كذلك، ربما تنظر الدول الخليجية بريبة إلى رفع العقوبات عن قطاع النفط الإيراني؛ خشية أن يشكل تهديدًا مستقبلًا على مشاريع الطاقة العربية ومع ذلك يظل تهديدًا طويل الأجل نظرًا للمحدودية التقنية لتطوير حقول النفط والغاز وارتفاع الاستهلاك المحلي واعتماد إيران حاليًا أساليب تهريبية لتصدير النفط، وبالتالي فإن رفع العقوبات لن يخلق واقعًا جديد بالكلية. يضاف إلى ذلك المخاوف بشأن تداعيات العودة للاتفاق النووي من عدمه على توازنات القوة في المنطقة ومعادلة الاشتباك مع إسرائيل.
• الإعداد للقمة العربية المقبلة: تأتي الدورة الاعتيادية المقرر عقدها خلال نوفمبر المقبل في الجزائر على رأس الأولويات بعد توقف دام ثلاث سنوات متتالية شهدت خلالها الساحتين العالمية والإقليمية تطورات عديدة فرضت تحديات أمنية واقتصادية وسياسية على المنطقة بما في ذلك تراجع الأمن الغذائي، وإنهاك ميزانيات الدول نتيجة ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، واستمرار الاضطرابات في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وتطورات القضية الفلسطينية، وتداعيات الملء الثالث لسد النهضة.
وبالتالي ربما تحظى ترتيبات القمة العربية المقبلة بمساحة على أجندة اللقاء الخماسي الذي يُمكن عدّه مرحلة تمهيدية وتنسيقية للإعداد والتجهيز لقمة نوفمبر؛ لضمان نجاحها والخروج برؤى مشتركة تستجيب بفاعلية للمتغيرات والتحديات الجديدة. ويشمل ذلك بحث السياسات التكاملية لمعالجة قضيتي الغذاء والطاقة، وبحث التنسيق بشأن الملف الليبي لا سيّما في أعقاب التقارب الإماراتي التركي واحتمالات الوصول لنتيجة مماثلة مع مصر خلال المرحلة المقبلة، فضلًا عن استغلال تحولات الموقف التركي من المسألة السورية وإعادة دمشق إلى الحضن العربي عبر استعادة موقعها داخل الجامعة العربية وهو هدف مصري إماراتي مشترك.
• استئناف اجتماعات تحالف المشرق الجديد: يشكل حضور الأردن والعراق امتدادًا لآلية التعاون الثلاثي التي انطلقت بالقاهرة في مارس 2019، وشهدت أربعة اجتماعات سابقة، لكنه يكتسب أهمية إضافية هذه المرة بالنظر إلى اشتعال الأوضاع السياسية العراقية واستمرار التدخلات الخارجية في القرار السياسي العراقي، لا سيّما أن أحد الأهداف الرئيسة للآلية الثلاثية هو إخراج العراق من فلك المشاريع الإقليمية وإعادة دمجه ضمن محيطة العربي. ويساعد الحفاظ على دورية الانعقاد رغم التحديات والمعوقات الكثيرة التي تعترض طريق تنفيذ مشاريع الشراكة الاقتصادية الثلاثية على ضمان بقائها حية ومطروحة، وإحراز بعض التقدم بشأنها لا سيّما الخاصة بمشاريع الربط الكهربائي ومشروع خط النفط البصرة-العقبة–السويس، وإنشاء منطقة جمركية خالصة بين العراق والأردن.
• تعزيز مشاريع التكامل الاقتصادي: يحل الموضوع الاقتصادي على رأس المباحثات؛ ارتباطًا بتداعيات الحرب الأوكرانية على ملفي اضطرابات سلاسل الإمدادات وارتفاع أسعار السلع الأساسية، لتكتسب معها مبادرة الشراكة الصناعية التكاملية بين مصر والأردن والعراق والبحرين والإمارات أهمية قصوى لبحث تحقيق شراكة تكاملية فيما يخص ملفات: الطاقة والغذاء، وتوطين الصناعات، وزيادة الاستثمارات ومعدلات التبادل التجاري، واستكمال مشروعات الربط الكهربائي لتخفيف الاضطرابات الاقتصادية.
ويتفق هذا الهدف مع تبني السياسة الخارجية المصرية مقاربة جديدة نحو محيطها العربي يُمكن تسميتها بـدبلوماسية التنمية، جوهرها تطوير نمط من العلاقات الإقليمية قائم على الانخراط في مشروعات تنموية اقتصادية وتجارية تحقق المنفعة المشتركة لكافة أطرافهاـ وتمهد الطريق لتجاوز وحلحلة أي خلافات سياسية.
ختامًا، يمثل اللقاء الخماسي الأخوي في العلمين بين قادة مصر والإمارات والبحرين والعراق والأردن خطوة جديدة نحو تعزيز العمل العربي المشترك على مختلف المستويات، بوصفه ركيزة أساسية للأمن والاستقرار في المنطقة.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية