
في سياق الدبلوماسية الرئاسية النشطة منذ إعادة انتخابه رئيسًا لولاية ثالثة والتي شملت دولًا عربية وآسيوية، يتوقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العراق خلال الأيام المقبلة لعقد لقاءات مع الرئاسات الثلاثة؛ بغرض إعطاء دفعة للعلاقات الثنائية، ومناقشة القضايا الإشكالية بين البلدين. ورغم تشابك وتقعد ملفات النقاش المحتملة، فإن أهمية الزيارة تنبع من السياق الإقليمي المصاحب لها الذي يخيم عليه المناخ التصالحي والتعاوني والرغبة في تنحية القضايا السياسية الخلافية وإيجاد حلول توافقية بشأنها مقابل إعطاء الأولوية للتعاون والتكامل الاقتصادي، وهو ما يثير تفاؤلًا بشأن إمكانية تحريك بعض الملفات العالقة بين البلدين. وهي كذلك تخدم مستهدفات العراق في تحقيق سياسة خارجية متوازنة بين الفاعلين الإقليميين والعالميين، وتحسين الأوضاع الاقتصادية.
ملفات عالقة
تحل جملة ملفات أمنية وسياسية واقتصادية الطابع على أجندة الزيارة، يُمكننا تفنيدها على النحو التالي:
• إدارة قضية المياه المشتركة: تحولت إدارة تدفقات المياه المشتركة من فرصة تعاونية إلى عامل ضاغط ومصدر توتر بين العراق وتركيا؛ في ظل الإنكار التركي للطبيعة الدولية لنهري دجلة والفرات واستمرار احتجاز مياههما بواسطة المشروعات المائية المشيدة على جسم النهر داخل الأراضي التركية دون مراعاة الحقوق العراقية، وعلى رأسها مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يضم 22 سدًا بهدف توليد الطاقة الكهرومائية والأغراض الزراعية ومنع الفيضانات، في ظل رفض أنقرة الالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية المعنية بآليات اقتسام المياه المشتركة.
وفي هذا السياق، باتت قضية تقاسم المياه في قلب العلاقات العراقية التركية، وأضحت موضوعًا متجددًا على أجندة اللقاءات الرسمية بين مسؤولي البلدين، وأحدثها لقاء “أردوغان” و”السوداني” في بغداد، حيث يرزح العراق تحت وطأة الجفاف والتغيرات المناخية وانخفاض منسوب المياه العذبة، بما أسهم في: تدهور المسطحات الزراعية، وإثارة التوترات السياسية، ومفاقمة الأزمات الاقتصادية، وتصاعد المخاطر الأمنية، وانتشار الأمراض المتعلقة بالتلوث المائي وندرة المياه، وغيرها من مظاهر التدهور البيئي والاقتصادي.
وبينما يسعى العراق إلى إيجاد مرجع قانوني ملزم لإدارة وتقسيم موارد نهري دجلة والفرات، فإن خياراته للتأثير على تغيير سلوك تركيا فيما يتعلق بالمياه محدودة للغاية؛ فهناك صعوبة للجوء للعراق إلى التحكيم الدولي كون تركيا لم توقع على اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، وهي المعاهدة الوحيدة التي تنظم استخدام المجاري المائية الدولية.
وتريد أنقرة تسليح ورقة المياه واستخدامها للضغط على الطبقة السياسية الحاكمة، لاسيمَّا أن التأثيرات الأكبر لانخفاض تدفقات الأنهار تطال المحافظات الجنوبية التي تشكل موطنًا للمكون الشيعي والميليشيات المدعومة من إيران. ومع ذلك، يتوقع أن يدفع العراق باتجاه استغلال الأطر التعاونية القائمة، ومنها اللجنة التركية العراقية المشتركة لحل مشكلة المياه، ومذكرة التفاهم الموقعة بين البلدين والمصدق عليها من البرلمان التركي عام 2021؛ لاستمرار المطالبة بحصته العادلة من المياه، وإجراء المفاوضات مع دول الجوار الإقليمي المعنية (تركيا – إيران – سوريا) والجهات الدولية ذات الصلة لضمان حقوقه المائية.
فيما لا يتوقع أن تقدم تركيا تنازلات كبيرة أو التوقيع على اتفاقيات تمثل انتقاصًا من مكتسباتها المائية، وإنما سيقتصر الأمر على بعض الإطلاقات المائية المرهونة بحدوث تقدم على صعيد الملفات الخلافية الأخرى، مثل مواجهة حزب العمال الكردستاني وتصدير النفط.
• عودة الصادرات النفطية إلى تركيا: منذ حكمت غرفة التجارة الدولية بباريس في مارس 2023 بتغريم تركيا حوالي 1.47 مليار دولار نتيجة حصولها على نفط إقليم كردستان العراق خلال الفترة بين 2014 و2018 دون موافقة الحكومة الفيدرالية العراقية، توقفت صادرات نفط الإقليم إلى ميناء جيهان التركي. وعليه، يحل ملف استئناف الصادرات النفطية كقضية أساسية على جدول مباحثات البلدان.
ورغم اتخاذ بغداد وأربيل خطوات تفاهمية لاستئناف الصادرات البالغة حوالي 450 ألف برميل يوميًا –10% من إجمالي النفط العراقي المصدر– تضمنت الاتفاق على إيداع الإيرادات الكلية للنفط ومشتقاته في حساب مصرفي واحد يخضع لرقابة الحكومة الاتحادية وإغلاق الحسابات المماثلة الأخرى كافة؛ فإن الجانب التركي يرغب انتزاع تنازلات قبل الموافقة على استئناف الصادرات.
تتضمن هذه التنازلات الحصول على تفضيلات سعرية بالنظر للميزة التفضيلية التي تضمنها اتفاق 2014 المنفرد بين الإقليم وأنقرة الذي يمنح الأخيرة النفط بأقل من أسعاره العالمية بخصم يتراوح بين 10 و20 دولار للبرميل، وكذا الضغط على الحكومة العراقية لسحب دعوى تحكيمية ثانية تتعلق بالصادرات النفطية فيما بعد عام 2018 وحتى أبريل 2023، وإقناع بغداد بتقسيط مبلغ التعويض على عدة دفعات، وتحميل العراق تكلفة صيانة خط الأنابيب البالغ طولة 350 كيلو مترًا، وأخيرًا الضغط على بغداد وأربيل لتسوية نزاعهما النفطي لتجنب أي نزاعات مستقبلية تضطر أنقرة لتحمل نتائجها.
• مواجهة حزب العمال الكردستاني: يمثل انتشار عناصر حزب العمال الكردستاني في المناطق الشمالية، وتشكيل لواء جديد تابع للحشد الشعبي في مدينة سنجار الواقعة ضمن محافظة نينوى يضم وحدات مقاومة سنجار اليزيدية الموالية لحزب العمال؛ مصدرًا للقلق الأمني لأنقرة وأحد عناصر توتر علاقاتها مع العراق. وبالمقابل، تترك قضية حزب العمال الحكومة الفيدرالية أمام معضلة أمنية وسياسية تضعها في حرج أمام خصومها السياسيين تارةً ومرجعيتها السياسية تارةً أخرى؛ إذ تشكل مناطق انتشار عناصر الحزب في الشمال بوابة للنفوذ التركي، ومسرحًا للتنافس الجيوسياسي الإيراني التركي، وساحة للتوغلات العسكرية التركية غير القانونية وغير المنسقة مع حكومة بغداد بدرجة تنتقص من مفهوم سيادة الدولة ويُظهرها عاجزة عن حماية حدودها وأراضيها من التدخلات الأجنبية غير المشروعة.
وبينما تطالب أنقرة بغداد بخطوات لتضييق الخناق على حزب العمال، فإن الثانية تريد وضع حدًا للتوغلات العسكرية التركية؛ لتخفيف الحرج السياسي على حكومة “السوداني” التي وضعت السيادة واستعادة الدولة عنوانًا لها، وأيضًا لتجنب التصعيد بين القوات التركية والميليشيات المسلحة المدعومة من إيران التي تتخذ – ومن خلفها حكومة طهران – من الرد على الوجود التركي ذريعة لتوسيع نطاق عملها العسكري.
• إعطاء دفعة للعلاقات الاقتصادية: إلى جانب التقدم المحرز على صعيد التبادل التجاري بين البلدين والذي عكسته أرقام العام 2022 حيث تجاوز نحو 24 مليار دولار، فإن مجالات استثمارية يُمكن أن تتاح أمام الشركات التركية تتعلق بمشروع “طريق التنمية” وبصرف النظر عن إمكانية تنفيذه كاملًا بالنظر للمعوقات السياسية والأمنية العديدة، فإن بعض أجزائه لاسيمَّا المتعلقة بتطوير ميناء الفاو الكبير وطرح بعض المشروعات الصناعية ومشروعات البنية التحتية يمكن أن تجذب الاستثمارات التركية، خاصة وأنها تسهم في تعزيز وصولها إلى الأسواق الخليجية. وعليه من المتوقع أن تتسع المناقشات لتتجاوز القضايا الأمنية إلى مناقشة تعزيز التجارة والاستثمار بين البلدين، وتنشيط اللجان المشتركة لمتابعة مذكرات التفاهم والاتفاقيات الثنائية الموقعة.
ختامًا، تكمن المعضلة الأساسية التي تعوق إحراز تقدم ملموس على صعيد الملفات الخلافية في طابعها التفاوضي الاعتمادي؛ بحيث لا يتم معالجة كل قضية على حدة، وإنما استغلال كل قضية للمساومة والضغط بشأن الملفات الأخرى، وهو ما يعرقل تسويتها. وربما يلجأ البلدان خلال الفترة المقبلة إلى فصل الملفات وإيجاد مسارات منفصلة لتسوية بعض أجزائها. ومع ذلك، سيظل مستوى التقدم المحرز على صعيد التعاون السياسي والأمني والاقتصادي بين العراق وتركيا مرهونًا بأدوار ومصالح القوى الدولية والإقليمية الممسكة بزمام المشهد السياسي والأمني العراقي وعلى رأسها الولايات المتحدة وإيران، ومدى تأثير صراعهما على حجم الدور التركي، وكذلك مدى أهمية الأخير بالنسبة لمعادلة موازين القوى التي تسعى واشنطن وطهران إلى ترسيخها داخل العراق. كذلك فإن الأزمات الاقتصادية الهيكلية العراقية واستمرار حالة السيولة الأمنية داخل بعض المناطق تحول دون إطلاق تكامل اقتصادي رغم التقارب الجغرافي.