توقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تركيا يوم الجمعة 7 يوليو 2023، ضمن جولة لعواصم الناتو شملت: بلغاريا، والتشيك، وسلوفاكيا؛ لإجراء محادثات مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان في إسطنبول عشية اليوم الـ500 منذ بدء الحرب. وقد راقب الكرملين عن كثب نتائج هذه المحادثات التي جاءت قبل حوالي شهر من زيارة متوقعة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا أيضًا، والتي لاتزال حتى اللحظة تُفضل سياسة التوازن والحياد النشط التي تكسبها أهمية استراتيجية أكبر في مسار الحرب الأوروبية الأوسع منذ الحرب العالمية الثانية.
ملفات مطروحة
بصفة عامة، تهدف تحركات الرئيس الأوكراني الخارجية إلى اكتساب التأييد الدولي وحشد الدعم للمجهود العسكري الأوكراني، وفي هذا السياق يُمكن الوقوف على أهداف زيارته لتركيا كالتالي:
• دفع محاولة أوكرانيا الانضمام إلى الناتو: بعدما كان الهدف الرئيس لجولات “زيلينسكي” الخارجية السابقة طلب المساعدات العسكرية، خيّم على أجندة جولته الأوروبية الأخيرة حشد الدعم لهدف بلاده العسكري والسياسي المتمثل في الانضمام إلى حلف الناتو. فأراد الرئيس الأوكراني تأمين تأييد تركي للحصول على عضوية الناتو، وكذلك الدفع باتجاه إعطاء “أردوغان” الضوء الأخضر لانضمام السويد في إطار حرصه على تعزيز الجناح الشرقي للناتو أمام الطموحات التوسعية الروسية. وقد حصل زيلينسكي بالفعل على التصريح الدبلوماسي المطلوب على لسان أردوغان خلال المؤتمر الصحفي المشترك بقوله: “أوكرانيا تستحق عضوية الناتو”، بغض النظر عن مدى جديته أو واقعيته.
ورغم أن الناتو يتبع سياسة الباب المفتوح، مما يعني أنه يمكن دعوة أي دولة للانضمام إذا أعربت عن اهتمامها، طالما أنها قادرة على الالتزام بمبادئ المعاهدة التأسيسية للحلف وراغبة في ذلك؛ فإن طرح مسألة عضوية أوكرانيا في الحلف يشكل استفزازًا كبيرًا لموسكو حتى إذا ما أُرجئت الخطوة إلى ما بعد أن تضع الحرب أوزراها؛ فهذا القرار يرقى إلى كونه مقامرة غير محسوبة العواقب.
وربما لا يتجاوز التصريح الرئاسي التركي كونه شكلًا من الدبلوماسية، لاسيمَّا في ظل إدراك لاستحالة إتمام خطوة كتلك خلال المرحلة الراهنة؛ نظرًا لعدم وفاء كييف بالمتطلبات الأمنية والسياسية والاقتصادية المطلوبة للعضوية، ووجودها في حالة حرب، وعدم موافقة الولايات المتحدة على المضي قدمًا في تلك العملية. بجانب أن اتخاذ تركيا موقف كهذا كفيل بالإخلال بمعادلة التوازن الحرج مع روسيا ويهدد بفقدان مصالحها الاستراتيجية معها.
• تمديد اتفاقية الحبوب: تنتهي اتفاقية الحبوب المبرمة بين الأمم المتحدة وروسيا وتركيا، التي أكسبت الأخيرة أهمية استراتيجية دولية كحامي للأمن الغذائي العالمي، في 17 يوليو الجاري. ويخشى البلدان عدم موافقة روسيا على تجديدها بعد أن هددت موسكو بعدم تمديد الاتفاق ما لم يخفف الغرب قيوده على صادرات الحبوب والأسمدة الروسية، بما يشكل ضغطًا على الاقتصاد الأوكراني لاسيمَّا مع بدء موسم الحصاد الجديد للحبوب، ويُنذر بارتفاع أسعار السلع التي ستؤثر حتمًا على البلدان الأكثر اعتمادًا على واردات الحبوب، بما يخلق أزمة غذائية عالمية.
ومع ذلك، يُمكن لروسيا إبداء درجة من المرونة بشأن تمديد الاتفاقية؛ استجابة لمطالب شركائها وحلفائها سواء الأتراك أو العرب أو الأفارقة، ولعدم إعطاء ذريعة للمجتمع الدولي باتهامها بتهديد الأمن الغذائي العالمي، لاسيمَّا مع إبداء الأمم المتحدة تفهمًا للمخاوف الروسية، حيث صرح فرحان حق نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة إن “روسيا قدمت بعض الطلبات المعقولة حول ما يجب أن يحدث حتى تتمكن من تصدير صادراتها إلى الأسواق العالمية، وهذه الصادرات ليست خاضعة للعقوبات ويجب السماح لها بالوصول إلى الأسواق العالمية”.
• جهود الوساطة التركية: تطرح أنقرة نفسها بوصفها وسيطًا محايدًا بين طرفي الأزمة الأوكرانية لإبراز مكانتها على الساحة العالمية كوسيط فاعل في النزاعات الدولية، وهو ما يرفع من قيمة أنقرة الاستراتيجية بالنسبة لموسكو والغرب على السواء. ولعل اختيار “أردوغان” للرئيسين الروسي والأوكراني ليكونا أول طرفين خارجيين يتواصل معهما هاتفيًا عقب فوزه في الانتخابات كاشفًا لما يوليه الرئيس التركي من أولوية لدور بلاده في الحرب الأوكرانية. ومن الواضح أن “السياسة المتوازنة” الحالية بين روسيا والغرب ستظل أحد علامات السياسة الخارجية لتركيا.
وفي هذا الإطار، كانت التطلعات الأوكرانية لنجاح وساطة تركية بشأن صفقة جديدة لتبادل الأسرى مع روسيا إحدى القضايا الرئيسة التي طُرحت على أجندة المحادثات، حيث قال “زيلينسكي” إنه ناقش مع أردوغان تفاصيل حول إعادة جميع الأسرى بما في ذلك الأطفال الذين تم ترحيلهم إلى روسيا والسجناء السياسيين وتتار القرم ومجموعات أخرى، وهي إحدى القضايا التي ستطرح على طاولة المناقشات مع الجانب الروسي خلال زيارة بوتين المقررة أغسطس المقبل.
• مناقشة أمن البحر الأسود: سلطت الحرب الأوكرانية الضوء على أهمية إقليم البحر الأسود للأمن العالمي كأحد أهم المساحات الاستراتيجية في العالم التي لم تكن تحظى إلا باهتمام محدود من قبل الدول الأعضاء الرئيسة في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو الذين لم يلتفتوا لصياغة استراتيجية متماسكة بشأن المنطقة. لكن الحرب الأوكرانية غيرت نظرة القوى العالمية لمنطقة البحر الأسود وأعادت تشكيل الوضع الأمني في الإقليم، بما يخل بمعادلة التوازن القائمة في إقليم البحر الأسود التي رسختها تركيا وروسيا منذ انتهاء الحرب الباردة، والتي اعتبرا بموجبها البحر الأسود منطقة مصالح مميزة تهيمن عليها الدولتان مع عدم الرغبة في وجود جهات خارجية بها.
وبينما تريد أوكرانيا ومن ورائها الغرب قلب معادلة التوازن القائمة وكسر الهيمنة الروسية في البحر الأسود مقابل تعزيز النفوذ العسكري للناتو والاتحاد الأوروبي على حساب روسيا، ويقترحون في سبيل ذلك إجراء تعديلات على اتفاقية مونترو التي تمنح تركيا هيمنة مطلقة على مضيقي البوسفور والدردنيل البحريين، لإعطاء مساحة حركة أكبر للقطع البحرية الغربية للدخول والبقاء في مياه البحر الأسود؛ تظل أولوية أنقرة الحفاظ على التوازن القائم حاليًا بالإقليم والحد من الوجود العسكري للأطراف الغربية.
وربما هذا ما يجعل مصلحة تركيا بقاء الحرب الأوكرانية عند حالة اللا حسم الحالية؛ إذ إن انتصار روسيا ربما يغير ميزان القوة لصالحها في مياه البحر الأسود، بما يشكل تهديدًا طويل المدى لتركيا ويقلل من مساحة مناورتها في المنطقة، في حين يهدد انتصار الغرب بمساعي لتمديد الهيمنة العسكرية داخل إقليم البحر الأسود. ومع ذلك، لا تزال أوكرانيا والناتو –من وجهة نظر أنقرة للنظام الأمني الإقليمي– يمثلان موقفًا احتياطيًا مهمًا لتركيا لاحتواء مساعي الهيمنة الروسية في حالة تدهور العلاقات مع موسكو.
• تعزيز التعاون الدفاعي: شهدت الزيارة توقيع تركيا وأوكرانيا مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في الصناعات والتقنيات الاستراتيجية، وتنص المذكرة على زيادة إنتاج أنواع مختلفة من الطائرات بدون طيار، والبحث والتطوير في مجال الأنظمة المستقلة، وأبحاث المحركات وتطويرها، والإنتاج والصيانة، وكذلك التعاون في مجالات الفضاء والقطاعات التكنولوجية الأخرى للصناعات الاستراتيجية في البلدين.
ويُعد هذا التعاون التقني ضروريًا لتطوير الصناعات الدفاعية الاستراتيجية لكلا البلدين؛ فمن جهة، تريد كييف تأمين غطاء عسكري لمجهودها العسكري بعدما أظهرت الدرونز التركية قدرة على إلحاق أضرار بالمعدات العسكرية وتنفيذ هجمات ضد المصالح الحيوية الروسية، ولعبت دورًا في غرق سفينة البحرية الروسية Moskva خلال أبريل 2022 وهجوم الطائرات بدون طيار الأوكراني في نوفمبر 2022 على ميناء سيباستوبول، موطن القاعدة البحرية الروسية. ومن جهة ثانية، تتفق هذه المذكرات التعاونية مع خطط الحكومة التركية لتطوير قطاع الصناعات الدفاعية لتعزيز “الاستقلال الاستراتيجي” للدولة. بجانب أن الدعم العسكري التركي لأوكرانيا يأتي انطلاقًا من رؤيتها للأخيرة كحليف مهم في ميزان القوى بالبحر الأسود –مثلما أشرنا سابقًا– ومن المرجح أن تواصل إمدادها بالمعدات العسكرية طالما استمرت الحرب، والأمر أيضًا يتعلق بمواءمة المواقف مع حلف الناتو.ختامًا، أتت زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى تركيا قبل أيام من قمة الناتو بهدف حشد الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا، وإعطاء فرصة للجانب الأوكراني للتعبير عن وجهة نظره بشأن بعض القضايا التي سيعاد طرحها مجددًا على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته المقررة لتركيا في أغسطس المقبل.