
العلمانيون في مواجهة الإسلاميين.. معركة هوية الدولة في السودان
بالاستناد إلى التاريخ فإن السودان لم يشهد على مدى تاريخه حكمًا مدنيًا تم تأسيسه على غير المرجعية الدينية. وحتى الأحزاب السياسية التي تم تشكيلها خلال فترة الاحتلال الإنجليزي استمدت شرعيتها من الدين، بل حتى أن حركات المقاومة ضد اللورد المستعمر لم تستمد شرعيتها وأرضيتها من قيمة الوطن والحرية، وإنما استمدتها من قيم الجهاد والشهادة.
ومنذ أن تقدمت قوى الحرية والتغيير بالوثيقة الدستورية في أعقاب الإطاحة بحكم البشير لم يخفت الحديث عن هوية الدولة السودانية، إذ نصت الوثيقة الدستورية على أن السودان جمهورية مستقلة ذات سيادة مدنية ديمقراطية تعددية لا مركزية تقوم فيها الحقوق على أساس المواطنة دون تمييز على خلفية الدين والعرق والنوع والوضع الاجتماعي.
وعلى مدار عقود من الزمن شكلت أحادية الهوية معضلة للدولة السودانية المعاصرة، في تلك العقود كانت الهوية الإسلامية قبل العربية محركًا أساسيًا لكل ما هو سوداني، وظلت الأنظمة المتعاقبة تتمادى في فرض قوانين عنصرية لا تراعي مدنية فضلًا عن الإنسانية. أفضت في نهاية المطاف إلى انفصال الجنوب برمته للخلاص من نير العنصرية، وقادت مجازر لا قبل للإنسانية بها في دارفور.
ضبط للمفاهيم
انطلاقًا من تلك الأحداث المؤسفة فقد تم تخليق تيار رافض تمامًا لأي نقاشات أو مفًاوضات لا تعتبر العلمانية جزءًا أصيلًا فيها وحسب التيارات المناهضة للإسلام السياسي في السودان فإن اللبنة الأولى بناء دولة قابلة للاستمرار هي المدنية التي تضمن حقوق وواجبات لا تلتفت لعرق أو جنس أو لون أو دين. وعلى العكس من المفهوم الخاطئ السائد، فإن العلمانية لا تلغي ممارسة الشعائر الدينية، وإنما فقط تخرج الممارسة الدينية من الحيز الاجتماعي والسياسي والعكس بالعكس.
أما الأفكار التي روج لها نظام الإنقاذ الانقلابي قد جعلت الكثيرين يعتقدون أن العلمانية هي كفر بالضرورة، الأمر الي يجافي الحقيقة بكل صورها، وإذا نظرنا إلى تطبيقات العلمانية في دول مختلفة سنجد أن كل دولة تقوم بتطبيقها بما يتفق مع عاداتها وموروثاتها ولذلك فإن العلمانية كمنهج ليست على صورة واحدة.
الحاكمية مرادف لثيوقراطية القرون الوسطى
حول ذلك، يناظر البعض فيقول إن العلمانية وجدت بالأساس لمواجهة الثيوقراطية والتي كانت على أوجها في الغرب المسيحي الذي صور للمواطنين أن طبقة الكهنة تحمل لهم صكوك الغفران، ولمّا كان الإسلام يرفض الكهنوت ولا يعهد بثواب أو عقاب إلا لله فإن تيار الإسلام السياسي يجد أن العلمانية نوع من المغالاة في الدول الإسلامية.
إلا أنه وفي حالة السودان فإن الدساتير المتعاقبة على مدى ما يقرب من خمسين عامًا من الزمان أقرت مبدأ حاكمية الشريعة الإسلامية، وهو ما تغير في الوثيقة الدستورية التي صاغتها قوى الحرية والتغيير وقدمتها للمجلس العسكري؛ إذ اكتفت بأن الشريعة الإسلامية تعد مصدرًا للتشريع على المستوى القومي.
ومنذ ذلك الوقت استمرت الأمور في الانفراج حتى الوصول إلى توقيع اتفاق السلام الشامل مع حركات المعارضة التي ذهب إليها رئيس الوزراء السوداني “حمدوك” برسالة واضحة في يناير الماضي، وهي الرسالة التي حملت عنوان “نعم للدولة العلمانية”. وذلك لدى زيارته “كاودا”، معقل الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، في ولاية جنوب كردفان.
الحركة الشعبية بقيادة الحلو ظلت متمسكة بمبدأ حاكم أساسي وهو فصل الدين عن الدولة أو حق تقرير المصير، وقد أصرت الحركة بقيادة الحلو على أن يكون هذا المبدأ “فوق دستوري” خوفًا من تلاعب الأنظمة به.
وشهد مطلع هذا العام توقف المفاوضات بين الحركة والحكومة السودانية بسبب عرقلة مبدأ الدولة المدنية من قبل بعض التيارات، إلا أنه تم استئنافها لاحقًا، مع الوضع بالاعتبار أن الحركات المسلحة والحكومة تعاملوا بقدر كبير من المرونة مع مسألة المفاوضات التي تخللها تفشي جائحة كورونا ووفاة وزير الدفاع السابق، وبعد أن كان من المقرر إقرار اتفاق السلام في الست شهور الأولى من الفترة الانتقالية، فإنه قد تم إقراره في الأيام القليلة الماضية بعد تحقيق مكاسب كبرى. ولكن هل إرساء العلمانية في السودان أمر بهذه السهولة؟
الدين والسياسة.. جدلية أزلية في السودان
بالقطع إن الحديث على هوية أي دولة أمر شائك، خصوصًا في السودان التي وقعت تحت حكم الإسلام السياسي منذ انقلاب 89 وحتى بعد أن سقط نظام البشير ظلت هناك خلافات بين الحركات المسلحة، وبعضها حول طرح العلمانية كقضية للتفاوض من عدمه.
الاختلاف حول مفهوم العلمانية بين الحركات المسلحة يقابله اختلاف آخر بين الأحزاب السياسية المكونة لتحالف قوى الحرية والتغيير والتي تحتضن الحكومة الانتقالية. ويعد الجدل حول هوية الدولة في السودان مرافق لها منذ ستينيات القرن الماضي، متسببًا في الكثير من الأزمات، بل والانقلابات. والمفارقة أن أعدادًا كبيرة من أبناء الإسلاميين طالبت بالعلمانية بعد أن عانى الشعب في مجمله من عقود الفاشية الدينية.
وبعد أن كانت العلمانية مطلبًا جنوبيًا غدت مطلبًا للشعب السوداني، وذلك لأن الشريعة الإسلامية تفترض في جوهرها أنه إذا وجد التنوع والاختلاف فإنه لا يصح فرض شريعة واحدة، وإن كانت الأغلبية من المسلمين.
ولذلك فإنه في أعقاب انفصال الجنوب في عام 2013 أصدرت الجبهة الثورية إعلانًا اعتبرت فيه أن الكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة لإسقاط النظام والمطالبة بحق تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة بلفظ آخر فإن انفصال الجنوب كان محركًا أساسيًا باتجاه التحرر من الفاشية الدينية في السودان.
وفي أغسطس من العام التالي أعلنت الجبهة الثورية بعد حوارات مطولة مع حزب الأمة بحضور عبد العزيز الحلو عن بنود إعلان باريس والذي تضمن العمل على إسقاط النظام بالوسائل السلمية والاستعاضة عن حق تقرير المصير بالتوصل إلى صيغة توافقية حول العلمانية. ولذلك يرى البعض أن المطالبة بحق تقرير المصير الآن يخالف ما تم الاستقرار عليه في إعلان باريس كما توصف الأصوات المطالبة بالمشبوهة.
التيار الرافض لعلمنة الدولة
على الجانب الآخر فإن التيار المعارض للعلمانية يجد أن القوى التي حرصت على فرضها على مائدة المفاوضات قوى سعت للحصول على مكاسب شخصية، متناسية الأزمات الحقيقية التي أدت إلى انفصال الجنوب وعرقلة السلام ومنها:
- غض الطرف عن وقف العدائيات، والعفو العام، وكفالة الإغاثات الإنسانية، وإزالة الألغام، وإطلاق سراح الأسرى والمساجين، وتحقيق الدمج والتسريح في القوات النظامية.
- ابتعدت القوى المتبنية للعلمانية عن تحديد الأسباب التي أدت للاقتتال وهي سبعة إذا شئنا الإجمال “سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، مشاركة في الخدمة المدنية، ومشاركة في المؤسسات النظامية، والتوازن في العلاقات الخارجية”.
- الإحجام عن تحديد آثار الاقتتال لإزالتها وهي معسكرات النازحين ومعسكرات اللاجئين، وما أصاب القرى من تدمير وإحلال سكاني، والحاجة للتعويضات الجماعية والفردية.
كما يرى التيار المناهض أنه كان من الأولى بالتيارات التي تنادي بالعلمانية أن تعرض ذلك ضمن برامجها الانتخابية، متهمين الحركة الشعبية بأنها تناقض جوهر العلمانية نفسها بفرضها إياها فرضًا على مائدة المفاوضات، والأدهى من ذلك تعليق عملية السلام برمتها وكان من الواجب عليها بعد انتهاء الفترة الانتقالية أن تقوم باستفتاء الشعب بين الدولة العلمانية والدينية، وكأنه أمر يمكن الاستفتاء عليه! كأن تخير أحدهم بين العدل والظلم.
علمانية فوق دستورية
إذا وضعنا جانبًا ما تدعيه بقايا تيارات الإسلام السياسي فسنجد أن كتيب المبادئ فوق الدستورية والذي أصدرته الحركة الشعبية لم يدع لبسا حول المقصود من علمانية الدولة في السودان، والمنعكس في الحياد تجاه الدين دون الاعتداء على مظاهره وممارساته، وبذلك فإن الحركة الشعبية ترفض بداهة النموذج الأعنف للعلمانية في الجمهورية الفرنسية مثلَا.
وهذا المعنى يتفق مع النقاشات التاريخية التي دارت حول العلمانية في السودان، كما أنه يشجع الشعب السوداني على طرح الأفكار الخيالية حول العلمانية جانبًا مفترضًا فقط أن يكون المواطنون سواسية أمام القانون السوداني، فلا يمنع أحدهم من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية لأنه مسيحي، وهو ما قاله حسن الترابي صراحة في حوار سابق له عندما سأله صحفي حول هذا الشأن.
وعلى أي حال فإن مبدأ علمانية الدولة في السودان أعمق بكثير من البعد الفلسفي على عمقه، ذلك أن حقوق المواطنة غير المتساوية هناك، والتي سارت بالتوازي مع انعدام العدالة في التنمية شكلت نواة لكل الحروب السودانية، وذلك وفقًا لسرد الحركات المسلحة عن أسباب النزاعات، مما يعني أن العلمانية في السودان مطلب رئيس لاستقرار الدولة وإقرار السلام بعيدًا عن العداء مع الدين والتدين.
نظرة تاريخية
وتاريخيًا فإن تمرد الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور “جون قرنق” على حكومة “جعفر النميري” كان بسبب نقض الحكومة لاتفاقية أديس أبابا عندما أعلنت قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983.
وكذلك فإن اتفاق السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية قد تضمن قدرًا من الفصل بين الدين والدولة خصوصًا في إقليم جنوب السودان.
وبالنظر إلى أن السودان يضم أكثر من عرقية وطائفة دينية تعيش في مناطق متفرقة فإنه يمكن أن يتم صياغة قوانين مدنية تلائم كل منطقة بحيث تكون القوانين التي تنظم الحياة في منطقة جبال النوبة مختلفة عن تلك في منطقة البحر الأحمر، مع التأكيد بأن كل هذه القوانين تنبثق من مبدأ أساسي وهو المواطنة.
وفي تلك الأثناء يتبين أن تيار الإسلام السياسي أو بقاياه في السودان أمام معضلة البقاء التي تتطلب تغييرًا في أفكارهم، وإذا كان تيار الإسلام السياسي هو البديل الذي خطف كراسي الحكم من الأنظمة السابقة في فوضى ما سمي بالربيع العربي، فإن الصوفية تنافس بقوة للاستحواذ على كرسي الإسلام السياسي في السودان وربما في غيرها.
ويعزى ذلك إلى أنها الممارسات الدينية الأكثر قبولًا بين تيارات شعبية عريضة في السودان باعتبارها تعلي قيم الاتصال الروحي دون مزج للدين بممارسات السياسة، الشعب السوداني الذي عانى طويلًا من التفرقة العلانية بسبب الدين ربما يطمئن لما يحفظ له دينه وشعائره دون أن يضحي بجزء آخر من السودان.
باحث أول بالمرصد المصري