ليبيا

رمال وأخطار متحركة.. هل يعود تنظيم داعش إلى جنوب ليبيا؟

مع سقوط نظام العقيد معمر القذافي في عام 2011 وتحول ليبيا تدريجيًا لكبرى ساحات الفوضى والانكشاف الأمني والمؤسساتي في القارة الأفريقية استطاع العشرات من التنظيمات المسلحة المنضوية تحت لواء “الإسلام السياسي” -رغم التناحر فيما بينها- التمركز بطول مدن الساحل الليبي من الشرق إلى الغرب.

وعلى عكس المتوقع، ونظرًا لدعم محور “أنقرة – الدوحة” السخي للتنظيمات المسلحة في الغرب الليبي منذ العام 2011، كانت مدن الشرق الليبي هي أول من احتضن التنظيمات المسلحة التي أعلنت مبايعتها لتنظيمي “داعش – القاعدة”، لتتحول مدينة “درنة” المعروفة بمعقل القاعدة في شرق ليبيا؛ لمركز عملياتي يضم بين أحيائه السكنية تنظيمات تابعة لـ “داعش – القاعدة”، منذ منتصف العام 2014.

ففي أكتوبر من ذات العام انضم “مجلس شورى شباب الإسلام”، في مدينة “درنة” إلى تنظيم داعش الإرهابي، وفي 10 نوفمبر 2014، نظم التنظيم الإرهابي أول عرض عسكري له في المدينة. لكن سرعان ما اندلعت المواجهات بين “داعش”، ومجلس شورى مجاهدي درنة “القاعدة”، نجم عن هذه المعارك طرد تنظيم “داعش” من درنة في العام 2015، وتوجهه إلى مدينة سرت، حيث أحكم سيطرته على المدينة التي تعتبر بوابة نفط ليبيا للعالم الخارجي، علاوة على سيطرته على مطار القرضابية.

من الشرق، للوسط الساحل الليبي، الغني بالمنشآت النفطية، كان ذلك عنوان انتقال تنظيم داعش في الجغرافيا الليبية منذ العام 2014 حتى العام 2016. إذ ترافق ذلك الانتقال مع مؤشرات مهمة:

  1. سعي التنظيم الإرهابي لإحكام السيطرة على منطقة الهلال النفطي، وتأمين مورد نفطي بديل عن النفط السوري والعراقي، وخاصة بعدما تناقصت الرقعة الجغرافية التي بات يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق. وذلك للحفاظ على رأس مال التنظيم لتمويل عملياته في أنحاء الإقليم والعالم. حيث أصبح تنظيم “داعش” بفضل النفط وتجارة الآثار أغنى تنظيم إرهابي في التاريخ، بإجمالي رأس مال وصل لـ 2 مليار دولار في فترة من الفترات.
  1. تخفيف الضغط الواقع على التنظيم، ولاسيما بعد تحرير كل من مدينتي الرمادي وتدمر العراقية والسورية صيف العام 2016. واستمرار الولايات المتحدة في تصفية قادته في ليبيا تحديدًا، ولعل أبرزهم “أبو نبيل العراقي” قائد تنظيم داعش في ليبيا.

من هذين السياقين، خاض تنظيم داعش معركته الكبرى الأخيرة في الميدان الليبي داخل مدينة سرت، حين واجه التنظيم عملية أطلقتها حكومة الوفاق الليبية وأطلقت عليها “البنيان المرصوص”، استمرت لمدة 8 أشهر حتى تمكنت ميليشيات الوفاق من طرد التنظيم من مدينة سرت، وكان لافتًا الغارات الأمريكية المكثفة التي استهدفت التنظيم الإرهابي في سرت، وفي خلال عملية “البنيان المرصوص”. حيث كشفت قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” عن شن 455 هجومًا جويًا استهدف مواقع عناصر تنظيم داعش منذ أغسطس 2015 وحتى نوفمبر 2016.

هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي لم تنه وجوده تمامًا من الجغرافيا الليبية الشاسعة، وإن قضت على وجوده داخل المدن والبلدات الكبرى، ولكنها تسببت في تسرب عناصره من الوسط الليبي باتجاه أخطر مواضع الجغرافيا الليبية.. الحوض الجنوبي.

الجيش الوطني الليبي يعود للوسط والجنوب

منذ بدء معركة “الكرامة” للجيش الليبي في 2014، تركزت الأهداف الرئيسية للعمليات في دحر التنظيمات الإرهابية من مدن الشرق أولًا، وتأمين منطقة الهلال النفطي والسيطرة عليها، ثانيًا. فنجح في غضون أربعة أعوام من تاريخ انطلاق معارك “الكرامة”، في:

  1. تحرير وتأمين الشرق الليبي وتصفية الخلايا الإرهابية في مدينة درنة.
  2. تأمين منطقة الهلال النفطي بالكامل. 

بيد أن تأمين منطقة الهلال النفطي جاء بعد معارك طاحنة صيف العام 2017، حول السيطرة على منطقة الجفرة ومطارها من قبضة ميليشيات الوفاق، وميليشيات المعارضة التشادية على حد سواء. حيث اتخذت الأخيرة من مناطق الجنوب الليبي نقاط تمترس للقيام بعمليات تستهدف الحكومة التشادية، ومعاونة التنظيمات الإرهابية في عمليات التهريب وتجارة السلاح والمخدرات.

وفي العام 2018، شن التنظيم 14 هجومًا مسلحًا تركزت الغالبية من هذه الهجمات في مدن وبلدات الحوض الجنوبي، من “تازربو” شرقا، وصولًا لـ “مرزق” غربًا، ومناطق في محيط سبها.

استطاع التنظيم بعد هزيمته في سرت إعادة التمركز في المنطقة الجنوبية الليبية الرخوة الممتدة – كقاعدة للسهم – وكون التنظيم “جيش الصحراء” بقيادة ” شاب في منتصف الثلاثينات من عمره “المهدي سالم دنفو”، الذي تشير إليه العديد من التقارير الإعلامية والاستخباراتية كونه شارك في عملية ذبح الأقباط المصريين في فبراير من العام 2015.

قائد داعشي محلي بتجربة دولية. فقد عمل بمحكمة الشريعة بالموصل لفترة زمنية قصيرة، ولم يعرف عنه قيادة كتيبة أو مجموعة «داعشية» داخل العراق؛ غير أنه عاد إلى ليبيا ضمن خطة البغدادي لتقوية فروع تنظيمه بشمال أفريقيا. وتشير المعطيات المتوفرة عن أبو بركات، إلى أنه شخصية متواضعة من الناحية التعليمية؛ لذلك فهو لا يعتبر مرجعًا في الإفتاء والشؤون الدينية، إلا أن تجربته في العراق قبل 2015، مكّنته من قيادة التنظيم واعتلائه القيادة العسكرية لجيش الصحراء.

ويقول رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام الليبي، الصديق الصور، عن هذا التنظيم الإرهابي: “هذا الجيش تم تأسيسه بعد تحرير مدينة سرت، وهو يضم ثلاث كتائب”.

على الرغم من تشكيله بثلاثة ألوية، إلا أن جيش الصحراء فعّل استراتيجية “الكمون” في المنطقة الرخوة، وذلك تحت وطأة غارات الطائرات المسيرة لسلاح الجو الأمريكي التابع لـ “أفريكوم”، حيث حصدت الغارات العديد من عناصر التنظيم وعربات الدفع الرباعي.

الجيش الليبي يتوجه جنوبا

في يناير من العام 2019، أطلق الجيش الليبي عملية لتحرير وتأمين الجنوب والجنوب الغربي الليبي. فتمكن في شهر ونصف من بدء انطلاق العملية من تحرير مناطق الجنوب – الجنوب الغربي، من العناصر الإرهابية والمرتزقة من المعارضة التشادية، وأحكم سيطرته على البنى التحتية العسكرية في “سبها – مرزق – أوباري” من مطارات وقواعد. 

وتمكنت قوات الجيش الليبي في الشهر الأول من العملية وتحديدًا في 18 يناير 2019، من تصفية قائد “جيش الصحراء الداعشي”، المهدي سالم دنقو، موجهةً ضربة موجعة للتنظيم في تلك المنطقة الرخوة.

اللافت في توجه الجيش الليبي للجنوب، هو استباق ذلك التحرك بدء الجيش الليبي إعلانه بداية عمليات تحرير العاصمة “طرابلس” من قبضة ميليشيات حكومة الوفاق التي تورطت في العديد من الارتباطات الواضحة مع التنظيمات الإرهابية، ولاسيما تلك التي ارتكبت مجزرة براك الشاطئ في مايو من العام 2017، والتي راح ضحيتها 148 شخصًا غالبيتهم من ضباط وجنود الجيش الوطني الليبي. 

تكمن أهمية الجنوب الليبي في كونه ينتج نحو نصف النفط الليبي بواقع 500 ألف برميل نفط يوميًا، فضلا عن نشاط قبائل التبو والطوارق في ذلك الحوض، واشتغال قطاع كبير منهم في عمليات التهريب والهجرة غير الشرعية، ما جعلهم يقيمون علاقات وطيدة مع كافة الكيانات المسلحة على اختلافها لتأمين مصالحها، من المعارضة التشادية ووصولًا لتنظيم داعش بحلته الجديدة “جيش الصحراء”.

حرص الجيش الليبي قبل أن ينطلق في عملياته لتحرير العاصمة طرابلس في إبريل من العام 2019، على “تسكين” جبهة الجنوب، وتأمينها لئلا يتم تطويق الوحدات المشاركة في معارك تحرير الغرب الليبي من قبضة ميليشيات الوفاق.

وعلى الرغم من الهدوء النسبي الذي حظيت به منطقة الجنوب، إلا أن شبح “جيش الصحراء” طل برأسه من جديد من خلال عمليات محدودة، بدأت منذ ديسمبر 2019 حين عاد بإصدار مرئي مروع عن هجمات متفرقة بالحوض الجنوبي منها بلدة “الفقهاء”. حيث قام بذبح 9 من عناصر الجيش الليبي.

ولم تمضِ ستة أشهر على واقعة “الفقهاء”، حتى عاد التنظيم من جديد وشن 3 عمليات قصف مدفعي ضد أهداف تابعة للجيش الليبي في بلدة “تراغن” جنوب البلاد.

مخاطر عودة جيش الصحراء

يعتبر جيش الصحراء “الداعشي” وبالرغم من مقتل قائده الأول “المهدي سالم”، مجموعة من العناصر الراجلة خفيفة الحركة متوسطة التسليح، لكنها قادرة على تسديد ضربات موجعة ضد أهداف الجيش الليبي في الخاصرة الجنوبية للبلاد. وما عزا ذلك، استعادة هذه العناصر الراجلة لنشاطها مجددًا؛ إذ أعلن الجيش الليبي في منتصف أغسطس الماضي عن تصفيته لخلية من التنظيم كانت تخطط لشن عمليات إرهابية ضد أهداف نفطية مهمة في جنوب البلاد، كما تم القضاء على تلك الخلية في بلدة “غدوة”. وعليه يمكن عد مخاطر احتمالات العودة “الداعشية” في الجنوب كالآتي:

  • يعتبر الجنوب الليبي لا يشكل فقط المنطقة الرخوة لـ “داعش” نظرًا لندرة السكان، وتضاريسه الصعبة؛ وإنما يشكل موردًا مركزيًا للتزود بالسلاح، واستقبال المجندين الأجانب، وكذا خلْق تواصل مع الجماعات الإرهابية في الساحل والصحراء، وصولًا لمناطق وسط أفريقيا.
  • حاليًا يتمترس الجيش الليبي بخط “سرت – الجفرة”، ويكابد تداعيات استمرار الجسر الجوي والبحري لتركيا في الغرب الليبي، بالسلاح وعناصر المرتزقة الذي تجاوزت أعدادهم الـ 16 ألف مرتزق، ومن شأن تهديد جبهة الجنوب إرباك الجيش الليبي، ومنح محور الدوحة – أنقرة فرصة لمحاولة تأليب الوضع الميداني لصالحهما بعدما وصلت الأطراف الليبية المتصارعة لعتبة التسوية السياسية.
  • إزكاء التدخلات الدولية ولاسيما الأمريكية والفرنسية بالميدان الليبي، حيث تتمركز الولايات المتحدة قبالة الحدود الجنوبية الليبية في النيجر، من خلال قاعدة للطيران المسير تقوم بتوجيه الضربات الدقيقة لعناصر التنظيم. ما قد يعرقل جهود التسوية السياسية ولاسيما بعدما تداخلت مصالح الأطراف الميدانية دوليًا، وتسرب ثنائية “تركيا – روسيا” للصراع الليبي، ما قد يمد من فترات تسويات الحد الأدنى التي تبقي على جذور الصراعات قائمة دون معالجتها كليًا.
  • صعوبة مواجهة “جيش الصحراء” الداعشي، بالموجات التصادمية التقليدية لتشكيلات المشاة الميكانيكي، تلك الموجات التي شهدتها الصحراء الليبية من حقبة روميل – مونتجومري، وصولًا لمعارك الجيش الوطني الليبي مع ميليشيات الوفاق. حيث يعتمد جيش الصحراء بالأساس على عناصر أقرب في تشكيلها لعناصر النخبة، تختص بمهام الإغارة، والعودة مجددًا للاختباء في الدروب الصحراوية القاحلة.
  • استمرار عمليات التهريب والاتجار بالبشر التي تقتات عليها الكيانات المسلحة في منطقة رخوة لها تاريخ طويل من الاقتصاد الإقليمي القائم على التداخل بين الإرهاب والجريمة العالمية الخاصة بتهريب السلاح والبشر والمخدرات.
  • استمرار الخلافات القبلية، حيث لا تقتصر ممارسة العنف على أنصار التنظيمات الإرهابية في الجنوب الليبي، بل إن المنطقة تعرف المواجهات القبلية منذ وقت ليس بالقريب، مواجهات يختلط فيها السياسي بالعرقي، والوطني بالإقليمي، ويتم توظيفها لصالح بعض الفواعل الإقليمية. فقبائل هذه المنطقة لها امتداد في كل دول الجوار؛ مما يجعل المنطقة عرضة للتدخلات الخارجية، في غياب مؤسسات الدولة وجيش وطني في ليبيا. وليست النزاعات المحلية وحدها من يساعد على نشاط “داعش” بالمنطقة، بل الخلافات بين القبائل العربية والطوارق والتبو، تأخذ في كثير من الأحيان طابعًا اقتصاديًا؛ نظرًا للصراع على الموارد بالمنطقة.
+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى