ليبيا.. من اقتتال تاجوراء إلى تحركات غدامس
تعيش ليبيا في هذا التوقيت أياماً صعبة، السلاح مشهر في كل مكان، وعملية إعادة الانتشار العسكري لا تتوقف. ويخلط البعض بين ما جرى من اقتتال ميليشياوي في تاجوراء، شرق العاصمة طرابلس، بتحركات الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر في الجنوب الغربي وصولاً إلى منطقة غدامس.
بالنسبة لمشكلة تاجوراء، توجد فيها ميليشيات رئيسية، منها ميليشيا رحبة تاجوراء، بقيادة بشير خلف الله (البقرة)، وميليشيا أسود تاجوراء، برئاسة بن سالم، وميليشيا شهداء صبرية، بزعامة معطي بن رمضان. قوات بن رمضان محسوبة على ميليشيا دعم الاستقرار، ذات الامتداد المصراتي الكبير، والتي يعتمد عليها عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة في طرابلس، وبدأ الاقتتال بعد محاولة اغتيال قيادي في رحبة الدروع، وتمركز قوات من شهداء صبرية في مؤسسات بطرابلس. هذا أغضب بعض خصوم الدبيبة!.
في نهار الجمعة 9 أغسطس 2024، وأثناء صلاة الظهر، اجتاحت ميليشيات البقرة، مقار ميليشيات بن رمضان، للانتقام، وفي الوقت الراهن توالي ميليشيات البقرة ميليشيات الردع، بقيادة عبد الرؤوف كارا، المجاورة لها في قاعدة إمعيتيقة.
كما أصبحت ميليشيات البقرة تمد خيوط الغزل مع قوات المفتي المعزول من البرلمان، الصادق الغرياني، خاصة وأن هذا الأخير يحاول كسب ود محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، على حساب الدبيبة.
أما ميليشيات شهداء صبرية، أو بن رمضان، فهي محسوبة على قوات الدبيبة، التي منها أيضاً ميليشيات في مصراتة، وميليشيا عبد الغني الككلي في العاصمة، لذا يمكن، إذا دققت النظر، أن ترى حالياً ملامح خلافات بين الغرياني، والكبير من جانب، ورئيس الحكومة في طرابلس من جانب آخر، وعلى كل حال تعد كل هذه التحالفات مؤقتة، ومتغيرة.
تدخلت قوة من مصراتة لدعم قوات شهداء صبرية، والعمل كذلك على تهدئة الأوضاع. وأسفرت المواجهات التي اشتعلت منذ يوم الخميس الماضي، واستمرت لنحو يومين عن مصرع 9 وإصابة 16 آخرين. أمكن لعقلاء من مصراتة ومن طرابلس، فك الاشتباك، ومنع التصعيد، والدخول في مفاوضات للصلح بين قائد ميليشيات رحبة تاجوراء، وقائد ميليشيات شهداء صبرية.
أثناء ذلك تمكنت قوات من مصراتة – تزعم أنها غير موالية لأي طرف، رغم أن هناك من يرى أنها توالي الدبيبة – من إبعاد قوات البقرة، والفصل بين الطرفين المتقاتلين، والتمركز قرب مقرات ميليشيا شهداء صبرية، للدفاع عنها، وإظهار العين الحمراء لقوات كارا وقوات المفتي، حتى لا تتدخل لمؤازرة البقرة، أو إشعال الخلافات.
تتحصل كل هذه الميليشيات على الأموال من المصرف المركزي، بعد توقيع الدبيبة على ذلك، فبعض الميليشيات محسوبة ورقياً على ميزانية وزارة الدفاع، والبعض الآخر على ميزانية وزارة الداخلية.
يشهد شمال غرب ليبيا حالة من عدم الاستقرار منذ وقت طويل، إذ تنتشر الولاءات المتغيرة، والاقتتال، لأسباب متفرقة، منها الصراع على النفوذ، والتنافس على جمع الأموال، وعلى التهريب، تقوم بذلك ميليشيات كثيرة، بمعاونة مرتزقة، وبمعلومات من أجهزة أمن غربية، ويستغل عدد من السياسيين والاقتصاديين، في شمال غرب ليبيا، حالة الانفلات تلك، لتحقيق مكاسب من أجل البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة.
فقد وقعت مواجهات بين ميليشيات في الزاوية، وفي زوارة، وعند المعبر الحدودي بين ليبيا وتونس، وفي داخل طرابلس نفسها، ويعتبر المجلس الرئاسي، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويوجد في حكومة شمال غرب ليبيا وزير دفاع، هو الدبيبة نفسه، ووزير داخلية، وهو عماد الطرابلسي. لكن يبدو أن سلطة قادة الميليشيات هي الأقوى. أو على الأقل هي من في يدها قرار الحرب والسلم، وفقاً لمصلحتها.
المجلس الرئاسي، برئاسة محمد المنفي، لم يلتزم الصمت حيال مواجهات يوم الجمعة الماضي في تاجوراء، إذ كان عليه أن ينبه الميليشيات إلى خطورة القيام بأي تحركات عسكرية دون إذن مسبق منه.
قرار المجلس الرئاسي هذا تزامن مع تحركات للجيش بقيادة حفتر في الجنوب الغربي، وهو ما تسبب في خروج تفسيرات لبيان المنفي، على غير الحقيقة، بأنه يرفض توجيه أي قوات من طرابلس لمنع قوات حفتر من الانتشار في منطقة حوض غدامس.
أما بخصوص انتشار الجيش في جنوب غرب ليبيا، ومحاولة لي ذراع الموضوع، والعمل على ربطه بالنزاع في شرق العاصمة، فسببه الرئيسي هو تزامن هذين الحدثين الكبيرين، ووقوع إعادة الانتشار هنا وهناك، في وقت متقارب.
هناك من يعتقد أن توجه الجيش إلى الجنوب الغربي، يهدف بشكل أساسي إلى خنق الدبيبة اقتصادياً، هذا – إذا صح – يبدو منطقياً من وجهة نظر البعض في شرق ليبيا، في ظل حالة الانسداد السياسي في البلاد.
معلوم أنه يوجد في ليبيا ثلاثة أحواض نفطية فيها بترول وغاز، وتعتمد عليها أوروبا ودول أخرى. الأول حوض سرت في الشمال الأوسط، والثاني حوض مرزق في الجنوب. وكل منهما تحت سيطرة الجيش. أما الثالث فحوض غدامس، ويقع في الجنوب الغربي. هذا الأخير هو الذي توجه إليه الجيش، انطلاقاً من الشرق، الأسبوع الماضي.
بهذا يمكن للجيش وضع يده على ما تبقى من أحواض النفط والغاز، من أجل إرسال رسالة للعالم بأنه هو المتحكم في عموم البلاد، وليس الدبيبة.. وحوض غدامس يبعد حوالي 500 كلم جنوب غرب طرابلس. ويوجد فيه حقل الوفاء الذي ينتج يومياً نحو 37 ألف برميل بترول، و23 ألف برميل من الغاز المسال، ويصدر معظمها لأوروبا عبر إيطاليا، عن طريق ميناء مليتة البحري، الواقع قرب مدينة الزاوية في غرب العاصمة.
بالنظر إلى الاقتتال في طرابلس، وما حولها، بين وقت وآخر، يبدو الجيش بقيادة حفتر الأكثر تماسكاً، وبتحركه الجديد في جنوب غرب ليبيا، يسعي لكي يقول للعالم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إنه الوحيد القادر على تأمين صادرات النفط والغاز، وعلى الدول الغربية أن تنظر إليه، وإلى قيادته، بعين الاعتبار.