بين الشرق والغرب: مباحثات أمريكية مكثفة مع الفرقاء الليبيين للوصول إلى تسوية
أجرى قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) مايكل لانجلي جولة من الباحثات مع الفاعلين الرئيسين في المشهد الليبي، بدأها بزيارة مهمة واستثنائية إلى شرق ليبيا، التقى خلالها بقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، مرورًا بلقائه في طرابلس مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية -منتهية الولاية- عبد الحميد الدبيبة. وقد ارتبطت أهمية هذه التحركات الأمريكية بالسياق الذي تأتي فيه، خصوصًا في أعقاب الكارثة الإنسانية التي خلفتها العاصفة “دانيال”، فضلًا عن “نوعية” الملفات التي تم التباحث حولها بين الطرفين، بالإضافة إلى ما حملته من دلالات ومؤشرات على وجود حراك أمريكي يستهدف من جانب حلحلة بعض الملفات العالقة، ومن جانب آخر التأكيد على مركزية الدور الأمريكي في ليبيا.
تقارب أمريكي مع قائد الجيش الوطني الليبي
استقبل قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، في مدينة بنغازي، وفدًا أمريكيًا بقيادة الجنرال مايكل لانجلي، قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، بحضور السفير والمبعوث الأمريكي الخاص ريتشارد نورلاند، والقائم بالأعمال الأمريكي جيرمي برنت، فيما بدا أنه مؤشر على تقارب بشكل نسبي بين الجانب والأمريكي وقيادة الجيش الوطني الليبي، على قاعدة بناء تفاهمات تجاه بعض القضايا العالقة.
وقال المشير خليفة حفتر في بيان رسمي إن الوفد الأمريكي قدم تعازيه إلى الشعب الليبي وقيادته في ضحايا الفيضانات التي شهدتها مدن الجبل الأخضر والساحل الشرقي، مؤكدًا تقديم الولايات المتحدة الإسعافات الطبية ومواد الإغاثة المختلفة؟ ونقل “حفتر” عن الجنرال “مايكل” إشادته بجهوده في مكافحة الإرهاب، وعلى حالة الاستقرار الذي تشهدها المنطقتان الشرقية والجنوبية للبلاد، لافتًا إلى مناقشة أهمية تعزيز التعاون لمكافحة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة.
وبدورها، قالت السفارة الأمريكية إن الاجتماع بحث أهمية تشكيل حكومة وطنية منتخبة ديمقراطيًا، وإعادة توحيد الجيش الليبي، والحفاظ على السيادة الليبية عبر إخراج المرتزقة الأجانب، بالإضافة إلى جهود الإغاثة القائمة في المناطق المتضررة من الفيضانات، وكذا جهود السلطات الليبية والمجتمع الدولي لتقديم المساعدة إلى الذين هم في حاجة إليها.
إن الولايات المتحدة ومن خلال مثل هذه الزيارات تبعث بالعديد من الرسائل، وتؤكد أن تعاملها مع قائد الجيش الوطني الليبي يقوم على اعتبارات واقعية؛ فحتى وإن كانت واشنطن غير متحمسة للمشروع السياسي الخاص بالمشير خليفة حفتر، إلا أن توازنات القوة على الأرض تفرضه كطرف أساسي فاعل في المعادلة الليبية. وفي هذا السياق، يمكن القول إن هناك جملة من القضايا محل الاهتمام المشترك بين الطرفين في الفترة الراهنة، وذلك على النحو التالي:
1- ملف الإغاثة الإنسانية: فرضت الكارثة الإنسانية الناتجة عن العاصفة “دانيال” التي شهدتها الأراضي الليبية نفسها على كافة التحركات الخاصة بالقوى الدولية تجاه الشأن الليبي في هذه المرحلة، وفي هذا السياق قالت السفارة الأمريكية في ليبيا إن “لانجلي” و”نورلاند” “وصلا إلى بنغازي بصحبتهما 13 طنًا من المساعدات المقدمة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية؛ لدعم المتضررين من العاصفة”.
وأضافت أن “الجسر الجوي الذي وفرته “أفريكوم” لنقل الإمدادات الإنسانية من مخزن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بدبي يقدم مساعدات إغاثية عاجلة للمتضررين”، وأنها ستواصل “العمل مع الشركاء الليبيين والدوليين لتوفير التمويل والمستلزمات الحيوية والخبراء لمساعدة أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى المساعدة”.
الجدير بالذكر أن الإدارة الأمريكية تتحرك بشكل عام في إطار الأزمة الليبية في عدد من المسارات السياسية والدبلوماسية والعسكرية، هذا فضلًا عن المسار الإنساني الذي صاحب الكارثة الأخيرة. لكن امتداد المباحثات التي عُقدت بين الوفد الأمريكي من جانب والمشير خليفة حفتر من جانب آخر إلى قضايا وملفات تتجاوز الأزمة الإنسانية يعكس أن الولايات المتحدة تسعى إلى توظيف تقاربها في الفترة الراهنة مع بعض الأطراف الليبية من أجل تمرير رؤيتها الخاصة بأفق الحل السياسي في ليبيا.
2- مقترح تشكيل حكومة جديدة: أشارت السفارة الأمريكية في ليبيا في بيانها بخصوص اللقاء الأخير إلى أن الطرفين “استعرضا ملف تشكيل حكومة وطنية منتخبة ديمقراطيًا”. الجدير بالذكر أن مسألة تشكيل “حكومة جديدة موحدة وممثلة ومعترف بها دوليًا” يمثل هدفًا أساسيًا بالنسبة لواشنطن في تعاطيها مع الملف الليبي، وهو ما أكدته الولايات المتحدة في الاستراتيجية التي طرحتها وزارة الخارجية في مارس 2023، وحملت عنوان “استراتيجية الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار الخطة الاستراتيجية العشرية لليبيا”.
ويأتي الإصرار الأمريكي على إنجاز هذا الاستحقاق في ليبيا في ظل سياق غلب عليه التفاؤل في الأشهر الأخيرة بخصوص إمكانية تشكيل حكومة موحدة، خاصةً بعدما توصلت لجنة “6+6” المشتركة بين مجلسي النواب والدولة إلى التوافق حول بعض القوانين الانتخابية، بما في ذلك النص على تشكيل حكومة جديدة قبل إجراء الانتخابات، فضلًا عن إعلان قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، دعمه لذلك.
لكن وعلى الرغم مما تمثله هذه المتغيرات من تقدم واختراق على مستوى حل أزمة الحكومة الليبية، فإنها تصطدم بمعارضة عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية –منتهية الولاية–، فضلًا عن عدم الوصول إلى توافق كامل بخصوص القضايا الخلافية في الملف الانتخابي.
3- بحث بعض القضايا الأمنية: أحد المحددات الرئيسة التي تحكم التحركات الأمريكية تجاه الملف الليبي عمومًا يتمثل في القضايا الأمنية التي تولي لها الولايات المتحدة أهمية كبيرة، سواءً تلك المتعلقة بتكثيف جهود توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية والتي ترى الولايات المتحدة أنها تمثل ضرورة قصوى لإنجاز كافة الاستحقاقات الأخرى، فضلًا عن تلك القضايا المرتبطة بتصاعد التهديدات الأمنية في الداخل الليبي خصوصًا في مناطق الجنوب في ضوء تداعيات الانقلاب العسكري الأخير في النيجر.
4- موازنة الحضور الروسي في الشرق: كذلك ترتبط التحركات الأمريكية في الشرق الليبي بشكل كبير بالحضور الروسي في هذه المنطقة المهمة، خصوصًا مع الانتشار الكبير لمجموعة “فاجنر” في مناطق تمركز الجيش الوطني الليبي. وما يؤكد على هذه الفرضية أن زيارة المسؤول الأمريكي إلى الشرق الليبي جاءت بعد أيام من وصول نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف إلى بنغازي للاجتماع “بحفتر”، حيث أكد له سعي موسكو إلى دعم المناطق المتضررة من العاصفة “دانيال”.
وفي هذا السياق كانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد أشارت إلى أن كبار المسؤولين الروس، بمن فيهم نائب وزير الدفاع يونس بك يفكوروف، التقوا مع قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر في الأسابيع الأخيرة لمناقشة حقوق الرسو على المدى الطويل في شرق ليبيا، ولفتت الصحيفة إلى أن الروس طلبوا الوصول إلى موانئ في بنغازي أو طبرق، على بعد أقل من 400 ميل من اليونان وإيطاليا، ويبدو أن الزيارة الأخيرة للوفد الأمريكي ترتبط بما أُثير من أنباء بهذا الخصوص.
مباحثات حول الأوضاع في درنة مع “الدبيبة”
في إطار الحراك الأمريكي المكثف على مستوى الملف الليبي، التقى الوفد الأمريكي الذي قاده قائد قوات “أفريكوم” الجنرال مايكل لانجلي، والسفير ريتشارد نورلاند المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا، برئيس حكومة الوحدة الوطنية -منتهية الولاية- عبد الحميد الدبيبة، وأفاد المكتب الإعلامي لـ “الدبيبة” بأن اللقاء “ركز على تداعيات الأوضاع في درنة”، وجرى خلاله مناقشة “تنظيم آلية الدعم الأمريكي للمناطق المنكوبة شرق البلاد عبر حكومة الوحدة الوطنية وأجهزتها التنفيذية وفرقها الميدانية في المنطقة الشرقية، بالإضافة إلى استعراض ملفات تأمين الحدود ومكافحة الإرهاب، وتطورات الوضع السياسي بدول الجوار الأفريقي وتداعياتها على ليبيا” وفق نص البيان. ويمكن في هذا السياق إبداء مجموعة من الملاحظات الرئيسة إزاء هذا اللقاء، وإزاء الموقف الأمريكي عمومًا من الحكومة منتهية الولاية، وذلك على النحو التالي:
1– موقف ملتبس من حكومة “الدبيبة”: يجد المتابع للموقف الأمريكي من حكومة “عبد الحميد الدبيبة” أن هذا الموقف يغلب عليه “الالتباس” و”الغموض” وفي بعض الأوقات “التناقض”؛ ففي الوقت الذي أعربت فيه الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة عن تأييدها لحكومة الدبيبة، فإنها ترى في الوقت نفسه ضرورة تشكيل حكومة جديدة موحدة قبيل عقد الانتخابات، وهو الطرح الذي يرفضه “الدبيبة”. وفي هذا السياق، يبدو أن الولايات المتحدة تتعامل مع “الدبيبة” بمنطق سلطة الأمر الواقع، وتحاول في الوقت نفسه ممارسة الضغوط عليه للقبول بفكرة تشكيل حكومة جديدة تقود المسار الانتخابي.
2- طرح “دمج الحكومتين”: تذهب بعض التقديرات إلى أن الولايات المتحدة تقود توجهًا حاليًا بالتنسيق مع المبعوث الأممي لدى ليبيا عبد الله باتيلي ومجموعة الاتصال الدولية؛ لمطالبة الفرقاء الليبيين بتقديم تنازلات من أجل الوصول إلى تفاهمات لحل الأزمة الحكومية في البلاد، من خلال سيناريو دمج الحكومتين (حكومة الوحدة الوطنية والحكومة المشكلة من مجلس النواب) في حكومة واحدة، والمضي نحو الترتيبات اللاحقة لإجراء الانتخابات.
3- اختلاف الأولويات بين “حفتر” و”الدبيبة”: تأتي هذه التحركات الأمريكية في ظل وجود خلافات واضحة بين معسكري الشرق والغربي حول أولويات المرحلة الراهنة؛ ففي الوقت الذي دعم فيه المشير خليفة حفتر مقترح لجنة “6+6” لتشكيل حكومة جديدة، أعلن “الدبيبة”، في 17 يونيو 2023 ضرورة إجراء الانتخابات البرلمانية كأولوية في المرحلة الحالية، وذلك لتمهيد الطريق نحو إجراء الانتخابات الرئاسية. وجاءت هذه التصريحات في أعقاب إعلان “حفتر” ترحيبه بفكرة تشكيل حكومة جديدة. وفي هذا السياق، ربما يدفع الموقف المتشدد من “الدبيبة” تجاه مسألة تشكيل حكومة جديدة، المبعوث الأممي ومجموعة الاتصال الدولية والولايات المتحدة نفسها إلى تبني أنماط مختلفة من التعامل معه، كالتهديد بإدراج اسمه على قائمة الشخصيات والكيانات المعرقلة لمسار الانتخابات، ما قد يدفع باتجاه فرض عقوبات عليه.
تحديات متعددة
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الولايات المتحدة تتبنى مقاربة متوازنة تجاه الملف الليبي، تقوم على التواصل مع كافة الفاعلين في المشهد، والسعي إلى الضغط عليهم من أجل تمرير رؤيتها التي تتقاطع بشكل كبير مع رؤية المبعوث الأممي لليبيا. لكن تحقيق هذه الرؤية -التي تقوم على أولوية تشكيل حكومة جديدة تقود مسار الانتخابات وتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية- تصطدم بعدد من العراقيل الرئيسة، وذلك على النحو التالي:
1– رفض “الدبيبة” تشكيل حكومة جديدة: يبدو أن هناك توافقًا بين بعض الأجسام السياسية الرئيسة في ليبيا ومنها مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة والجيش الوطني الليبي بقيادة “حفتر”، وحتى المبعوث الأممي إلى ليبيا -الذي تراجع عن رؤيته السابقة التي كانت تقوم على ضرورة إجراء الانتخابات أولًا، وأقر في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن بأهمية تشكيل حكومة موحدة وأنها “ضرورة لقيادة البلاد إلى الانتخابات”- على تشكيل حكومة موحدة، لكن هذه المسار التوافقي يصطدم برفض رئيس الحكومة منتهية الولاية، والذي يرى أولوية عقد الانتخابات قبيل تشكيل حكومة جديدة.
2- الخلافات المستمرة حول قوانين الانتخابات: بالإضافة إلى الأزمة المرتبطة بأولوية تشكيل الحكومة الجديدة، وعلى الرغم من بناء مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة لتفاهمات نسبية بخصوص القوانين واللوائح المنظمة للعملية الانتخابية المقبلة، فإن الخلافات لا تزال مستمرة بخصوص بعض القضايا الجوهرية، حول شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، بالإضافة إلى البند الخاص بالتمسك بإجراء الاستحقاقات الرئاسية على جولتين حتى وإن حصل أحد المرشحين على الأغلبية في الجولة الأولى، وكذلك النص على إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية حال تعثر الانتخابات الرئاسية.
3- انقسام المؤسسة القضائية الليبية: كان المجلس الأعلى للقضاء الليبي هو المؤسسة الدستورية الوحيدة التي حافظت على وحدتها واستقلاليتها في السنوات الأخيرة، لكنه شهد ككل المؤسسات الليبية انقسامًا خطيرًا في يوليو الماضي بعد أن أصبح رسميًا منقسمًا وبرأسين، الرئيس الأول مفتاح القوي الذي عينه مجلس النواب مؤخرًا بعد تعديلات قانونية، والثاني عبدالله أبو رزيزة الذي قضت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بتثبيته وبعدم دستورية التعديلات البرلمانية، ويمثل هذا الانقسام أحد العراقيل التي تواجه أي محاولات لتثبيت مسار سياسي جديد بليبيا.
وفي الختام، يمكن القول إن الولايات المتحدة تحاول من خلال تحركاتها المكثفة تجاه الملف الليبي تحقيق مجموعة من الأهداف، وعلى رأسها توظيف المدخل الإنساني من أجل تعزيز النفوذ في الملف الليبي، وموازنة الحضور الروسي في ليبيا، وبناء تفاهمات تدفع باتجاه تطبيق الرؤية الأمريكية طويلة الأجل لتسوية الأوضاع في ليبيا. لكن هذه التحركات تصطدم بشكل رئيس بالانقسامات الكبيرة بين الفاعلين في المشهد الليبي إزاء أولويات المرحلة المقبلة في البلاد، فضلًا عن لعب الارتباطات الخارجية لبعض الفاعلين في المشهد دورًا كبيرًا في تحديد مقارباتهم الداخلية.