ليبيا

توسيع الثنائيات … المسار السياسي الليبي بين نقطتين فاصلتين

دخلت مؤخراً الاتجاهات المتعددة التي تسير في فواصل المسار السياسي الليبي، في خضم تفاعلات متتالية ومتتابعة، يمكن اعتبارها بمثابة نتائج طبيعية لمراوحة هذا المسار مكانه بشكل شبه كامل خلال السنوات الثلاث الماضية، من أهمها استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، في أبريل الماضي، والتي كانت مؤشر قوي على أن المعضلة السياسية الليبية، تزداد صعوبة شيئاً فشيئاً، بفعل التجاذبات الإقليمية والدولية الحالية، وسط مشهد أمني مقلق تشهده عدة مناطق ليبية.

ولعل من أهم المعضلات التي انطوت عليها التفاعلات السياسية الليبية حالياً، حقيقة أن الأجسام الأساسية التي تمثل بحكم الأمر الواقع، السلطة التشريعية والتنفيذية في البلاد، أصبحت تعاني ليس فقط من تنامي الخلافات بين بعضها البعض، بل باتت تعاني أيضاً من انقسامات داخلية حادة، وهو الوضع الذي يتسبب في مجمله، في تراشق هذه الأجسام مع بعضها بالقرارات والمواقف السياسية، وبالتالي يبتعد المشهد شيئاً فشيئاً عن الوصول للمحطة الأهم في المسار السياسي، ألا وهي الانتخابات التشريعية والرئاسية، ويبقى التركيز منصباً على كيفية “إدارة الأزمة”، بدلاً من التوصل لحلول جذرية لإنهاء الوضع الحالي، الذي يتضمن بين طياته شكوكاً جدية، بشأن مدى قانونية استمرار هذا الجسم السياسي او ذاك في ممارسة مهامه.

ملف الحكومة الموحدة … أساس الخلافات وموطن الحل

لا يخفى على أي متابع للملف الليبي، التأثيرات بالغة السوء لحالة الازدواج الحكومي التي ألقت بظلالها على العمل الإداري والبلدي والخدمي في ليبيا خلال السنوات الماضية، بين حكومة “الوحدة الوطنية” في غرب البلاد، برئاسة عبد الحميد الدبيبة – والتي ترى أطراف عديدة انها تعدت مدة ولايتها القانونية، خاصة بعد أن سحب مجلس النواب الثقة منها في – وبين حكومة تتخذ من شرق البلاد مقر لها، برئاسة أسامة حماد تلقى ثقة مجلس النواب الليبي. من حيث المبدأ لا تختلف الأطراف الليبية كافة على أن مفتاح الوصول إلى الانتخابات، يكمن في توحيد المؤسسات الليبية كافة، وعلى رأسها الحكومة، ورغم تحقيق بعض التقدم في مساعي التوحيد – خاصة فيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية الليبية – إلا أن الملف الحكومي ظل يراوح مكانه، في ظل رفض حكومة الدبيبة، تسليم السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات.

القاهرة من جانبها كانت قد أطلقت في مارس 2024، سلسلة من اللقاءات احتضنتها جامعة الدول العربية، كان أهمها لقاء جمع بين رؤساء مجالس النواب والأعلى للدولة والرئاسي، بهدف إيجاد حل نهائي لهذه المعضلة، وحينها تم الاتفاق في الاجتماع الذي جمع بين الرؤساء الثلاث، على توحيد المناصب السيادية، كمدخل للوصول إلى حكومة موحدة، وبدا ان هذه النتيجة ربما تكون مؤشر على وجود إمكانية لتحقيق اختراق في هذا الاتجاه، لكن حمل الاجتماع الذي تم بين أعضاء من مجلسي النواب والأعلى للدولة في القاهرة منتصف الشهر الماضي – رغم الاتفاق خلاله على بعض التوصيات المتعلقة بتشكيل حكومة موحدة – بعض المؤشرات السلبية حول وجود خلافات بين الجانبين بهذا الشأن، وهو ما ظهر بشكل أكبر من خلال مقاطعة رئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، لهذا الاجتماع.

مجلس النواب من جانبه، اتخذ انعطافة حادة في ملف توحيد الحكومة، مشابهة للانعطافة التي قام بموجبها في أكتوبر 2023، بإصدار القوانين الخاصة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حيث أعلن أواخر الشهر الماضي، عن فتح باب الترشح لرئاسة الحكومة الليبية الجديدة، وهي خطوة مثلت فصل جديد من فصول الخلاف بينه وبين المجلس الأعلى للدولة، الذي يعتبر بمثابة “الغرفة التشريعية السفلى”، تضاف إلى فصول أخرى من الخلافات بين الجانبين، سواء على خطوة إقرار مجلس النواب القوانين الانتخابية، أو إقرار المجلس أوائل الشهر الماضي، ميزانية عامة موحدة، وهي خطوات اعترض عليها المجلس الأعلى للدولة، كونها تمت دون التشاور معه، ودون التوافق بشكل أولي بين المجلسين حول ملف القوانين الانتخابية، والعودة لمخرجات اللجنة المشتركة بين الجانبين “6+6”.

المجلس الأعلى للدولة … انقسام حاد في توقيت حرج

بالتزامن مع هذه التطورات، شهدت ثنايا المجلس الأعلى للدولة، تطورات لافتة الشهر الجاري، بعد أن أظهرت الجلسة السنوية لانتخاب رئيس جديد للمجلس، حجم الاستقطاب الدائر بين أعضاء المجلس، حيث شهدت هذه الجلسة انقسام حاد بين كتلة الرئيس المنتهية ولايته، محمد تكالة، وكتلة مؤيدة للرئيس السابق للمجلس، خالد المشري، وهو انقسام يعود في جزء مهم منه إلى الرواسب التي شابت عملية فوز تكالة برئاسة المجلس منذ نحو عام، الذي يرتبط بعلاقات وثيقة بحكومة الوحدة الوطنية، على عكس العلاقة التي تجمع بين خالد المشري ورئيس هذه الحكومة، عبد الحميد الدبيبة.

كلا الكتلتين دخلتا في خلاف ظاهره قانوني، حول صحة الورقة الانتخابية التي رجحت فوز المشري برئاسة المجلس، حيث رفضت الكتلة المؤيدة لتكالة الاعتراف بفوز المشري، رغم أن اللجنة القانونية بالمجلس أقرت فوزه، وبالتبعية دخل المشري إلى المجلس فجر الثاني عشر من الشهر الجاري، ليعلن توليه مهام منصبه، برغم اعتراض قسم مهم من أعضاء المجلس على عملية انتخابه، وهو ما يحمل في طياته انقسام ربما ينعكس خلال المدى المنظور على أداء المجلس، الا في حالة ما إذا تم التوصل لحل وسطي ينزع فتيل هذا الانقسام.

عودة المشري إلى رئاسة المجلس الأعلى للدولة، بعد عام من خسارته الانتخابات أمام محمد تكالة، يحمل مؤشرات هامة ترتبط بالملف الحكومي والسياسي بشكل عام، خاصة أن هذا المجلس سيلعب دور أساسي مع مجلس النواب، في ملف توحيد الحكومة وملف الانتخابات، ويمكن القول إن فوز المشري، يعني بالضرورة عودة جانب منهم من التقارب السابق بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، لكن في نفس الوقت لا تبدو بوادر العلاقة بين الجانبين مبشرة، نظراً لعدة عوامل، من بينها حالة الانقسام الحالية في المجلس الأعلى للدولة، وكذا ردة الفعل التي أبداها المشري، على التحركات التي قام بها مجلس النواب خلال الأيام الأخيرة. لكن في جميع الأحوال يمكن النظر للتفاعلات التي صاحبت انتخاب المشري، كمؤشر على هشاشة الوضع السياسي الحالي في ليبيا.

تصعيد سياسي أم خطوة نحو توحيد الحكومة؟

ارتفع التوتر بشكل أكبر داخل الساحة السياسية الليبية، بعد إقرار مجلس النواب الليبي، عدة قرارات، أعلن بها “عملياً” انتهاء صلاحية اتفاق جنيف الموقع عام 2021، حيث أكد بموجبها قرار سحب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية في سبتمبر 2021، واعتبار أن حكومة أسامة حماد هي الحكومة الليبية الشرعية، إلى حين إجراء الانتخابات أو تشكيل حكومة جديدة. تضمنت هذه القرارات أيضاً قرار يقضي بتولي رئيس مجلس النواب، منصب القائد الأعلى للجيش الليبي، وهي الصفة التي كان يحملها المجلس الرئاسي، وبالتالي اعتبر مجلس النواب ان المجلس الرئاسي قد أنهي مدته، علماً أن مجلس النواب عملياً، لم يكن يعترف بالمجلس الرئاسي، وقد اعتبرت بعض التحليلات أن خطوة مجلس النواب هذه، قد جاءت كرد فعل على قرار المجلس الرئاسي في وقت سابق، بإنشاء هيئة استفتاء مستقلة للاستعلام الوطني، وهو ما اعتبره مجلس النواب، خروجاً من المجلس الرئاسي عن الصلاحيات التي نص عليها اتفاق جنيف.

هذه الخطوة من جانب مجلس النواب، تبعتها خطوة Hخرى موازية، ترتبط بملف محوري في هذه المرحلة، ألا وهو ملف المصرف المركزي، حيث بدا أن موقع محافظ المصرف أصبح جزءاً من حالة التجاذب التي نشأت مؤخراً بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب، فالأول كان يستهدف عزل المحافظ الحالي للمصرف، الصديق الكبير، من موقعه، في حين قام الثاني بإلغاء قرار صدر عام 2018، بتكليف محمد عبدالسلام الشكري، بمنصب محافظ المصرف المركزي – وهو القرار الذي لم ينفذ عملياً – وأصدر المجلس قراراً جديداً باستمرار تولي الصديق الكبير هذا المنصب، علماً أن رئيس مجلس النواب، المستشار عقيلة صالح، كان قد اجتمع بمحافظ المصرف المركزي، في القاهرة الشهر الماضي، وتناول هذا اللقاء عدة ملفات منها ما يخص الأموال المجمدة، ووسائل صرف الميزانية الحكومية التي أقرها مجلس النواب مؤخراً، وآلية إدارة العائدات النفطية.

على مستوى ردود الفعل الداخلية على الخطوات الأخيرة من جانب مجلس النواب الليبي، رحبت القيادة العامة للجيش الوطني، بمجمل هذه القرارات، في حين اتخذ كل من المشري وتكالة – رغم خلافاتهما الحالية حول رئاسة المجلس الأعلى للدولة – نفس الموقف الرافض لقرارات مجلس النواب الأخيرة، حيث انتقد المشري في رسالة لرئيس مجلس النواب، القرار المتعلق بمنصب القائد الأعلى للجيش الليبي، في حين انتقد تكالة القرار الخاص بمحافظ مصرف ليبيا المركزي. كان لافتاً قيام عضوا المجلس الرئاسي، عبد الله اللافي وموسى الكوني، بعقد اجتماع عسكري بصفة “القائد الأعلى للجيش”، مع كل من عبد الغني الككلي، رئيس “جهاز دعم الاستقرار”، ولطفي الحراري، رئيس “جهاز الأمن الداخلي”، وعبد السلام الزوبي، وكيل وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية – منتهية الولاية -، وصلاح النمروش، معاون رئيس الأركان التابعة لحكومة الدبيبة، فيما يعد بمثابة “رد غير مباشر”، على قرار مجلس النواب، سحب صفة – القائد الأعلى للجيش الليبي – من المجلس الرئاسي.

 أما على مستوى حكومة الوحدة الوطنية – منتهية الولاية – فقد اعتبر رئيسها عبد الحميد الدبيبة، خلال لقاء مع المبعوثة الأممية إلى ليبيا، ستيفاني خوري، أن قرارات مجلس النواب لا تعد سوى “رأي سياسي”. يجدر بالذكر في هذا الصدد، أن المبعوثة الأممية التقت خلال الأيام الماضية، بجانب عبد الحميد الدبيبة، مع كل من المشري وتكالة – كل على حدة – لكن كان اللقاء الأبرز الذي أجرته، هو مع محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، الذي التقى أيضاً في لقاء منفصل، المبعوث الأمريكي إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، الذي حمل رسالة دعم للمحافظ، أكد فيها على رفض أية إجراءات تتخذ ضده أو ضد المصرف المركزي، الذي بات يعتبر في المرحلة الحالية، نقطة ارتكاز أساسية تهتم بها كافة الأطراف ذات الصلة بالملف الليبي.

تأتي كافة هذه التطورات، وسط استنفار عسكري بات واضحاً في عدة اتجاهات ليبية، بين اشتباكات شهدتها عدة مناطق في الغرب الليبي – على رأسها مدينة تاجوراء – وسط تنامي عدم الثقة بين الفصائل المسلحة في هذا النطاق، وهو ما امتد أثره ليشمل نظرة هذه الفصائل ورئاسة الأركان التابعة لحكومة الدبيبة، للعملية العسكرية الموسعة التي بدأها الجيش الوطني الليبي، في اتجاه المناطق الجنوبي الغربية من البلاد، والتي تستهدف ثلاثة محاور رئيسية، المحور الأول هو محور “حوض غدامس”، والذي يضم بجانب غدامس، محيط معبر “الدبداب” الحدودي مع الجزائر، ومنطقة المثلث الحدودي بين ليبيا وتونس والجزائر “الحطابة – غدامس – رأس الغول”، والمحور الثاني هو محور “حوض غات”، وصولا ً إلى معبر “أيسين” مع الجزائر، أما المحور الثالث فيضم مناطق “حوض فزان”، بما في ذلك نطاق مدينة “قصر مسعود” ومعبر “التوم” مع النيجر.

خلاصة القول، أن العلاقة الحالية بين المكونات السياسية الأساسية في ليبيا، باتت تشوبها العديد من نقاط الخلاف والتنابذ،  فالعلاقة بين مجلس النواب والمجلس الرئاسي، والتي دخلت إلى منعطف لا يعترف فيه المجلس الأول بالمجلس الثاني، بعد أن اعتبر في مجمل قرارته، أن اتفاق جنيف بات منتهياً. ترى بعض التحليلات أن العلاقة بين المجلسين بدأت صياغتها عملياً من خلال اتفاق الصخيرات الموقع عام 2015، لكن ونظراً لعدم وضع بنود هذا الاتفاق ضمن دستور مكتمل، وفي ظل انعقاد الآمال في ذلك التوقيت، على إشراف حكومة “الوفاق الوطني” على عقد الانتخابات التشريعية والرئاسية، مرت السنوات اللاحقة دون تحقيق اختراق واضح، وظل هذا الوضع قائماً حتى بعد توقيع اتفاق جنيف، الذي كان يتضمن بنوداً أساسية يجب تنفيذها من جانب المجلس الرئاسي، على رأسها إجراء الانتخابات العامة، وتحقيق اختراق في ملف المصالحة الليبية، وإيجاد حلول نهائية لملف التشكيلات المسلحة في المنطقة الغربية، وهو ما تعذر تنفيذه حتى الآن، وهو ما يعتبر منبع الموقف السياسي المتأزم في الوقت الحالي، في حين ترى تحليلات أخرى أن الأطراف السياسية الحالية، تتخذ قرارات منفردة وصدامية، لا تؤدي إلا إلى إطالة المشهد الحالي، نظراً لأنها تكرس حالة “التوجس” السارية حالياً في الوسط السياسي الليبي.

خطورة استمرار الموقف الحالي، تنبع من حقيقة أن ملف المصرف المركزي، والتنازع حول رئاسته وبنود صرف الميزانية العامة، قد تكون بوابة لمزيد من التصعيد السياسي – وربما الميداني أيضاً – خاصة في ظل وجود احتمالات لوقف المخصصات المالية الموجهة إلى حكومة الوحدة الوطنية – منتهية الولاية – وربما يحدث نفس الأمر بالنسبة للمجلس الرئاسي، وبالتالي سيكون هذا المشهد – بجانب الانقسام الجاري في صفوف المجلس الأعلى للدولة – بمثابة عناصر إضافية قد تزيد من حرارة المشهد السياسي الليبي، خاصة أن مجلس النواب – وهو الجسم السياسي الوحيد المنتخب حالياً في ليبيا – قد يتعرض هو الآخر لتصرفات مضادة مقابلة، تحول المشهد إلى “تراشق سياسي”، قد يلقي بظلاله على الأرض.

رغم هذا المشهد، الا أن محاولات إيجابية تجري حالياً لوقف هذا التصعيد، سواء عبر مبادرات لحل المعضلة الحالية داخل المجلس الأعلى للدولة، او أطروحات سياسية تحاول استغلال المشهد الحالي بشكل إيجابي، للتحرك سريعاً نحو تشكيل حكومة ليبية موحدة، ستكون بمثابة طوق نجاة لا بديل عنه، من أجل الوصول للمحطة الأخيرة في المسار السياسي الليبي، ألا وهي الانتخابات العامة، ودونها سيتعذر على الأجسام السياسية القائمة حالياً، الإقلاع بعملية انتخابية ناجحة ومعترف بنزاهتها من كافة الأطراف.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى