
تأتي زيارة رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي الثانية للسودان -بعد مشاركته في حفل توقيع الوثيقة الدستورية- على رأس وفد رفيع المستوى يضم وزراء الكهرباء والطاقة المتجددة والموارد المائية والري والصحة والسكان، والتجارة والصناعة والنقل والتربية والتعليم والتعليم الفني، وبجانب كل من؛ مساعد أول رئيس مجلس الوزراء، وأمين عام مجلس الوزراء، والمستشار الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء، والمتحدث الرسمي لمجلس الوزراء، ومستشار الوزير للنقل النهري، ومساعد وزير النقل لشؤون السكك الحديدية، ورئيس قطاع مياه النيل بوزارة الموارد المائية، بجانب رئيس الهيئة العامة للصادرات والواردات، ورئيس هيئة الإسعاف بوزارة الصحة، ممثل مكتب وزيرة الصحة والسكان، صباح اليوم السبت (15 أغسطس 2020)، كخطوة متقدمة على طريق ترسيخ التعاون وتحقيق التكامل بين البلدين على كافة المستويات.
وتعد هذه الزيارة ترجمة حقيقة لكافة المساعي السالفة بين الجانبين لتحقيق التعاون في المجالات الثنائية ذات التعاون المشترك؛ سواء في القضايا والمجالات الداخلية، أو الملفات والقضايا الإقليمية. والتي جاءت جميعها، وخاصة مع زخم مفاوضات سدّ النهضة، على هامش الزيارات الثنائية التي عقدها الجانبان، بهدف مناقشة تطورات ملف السد، والتأكيد على ضرورة التقارب والتنسيق المشترك بين الجانبين.
ولعل أبرز تلك الزيارات، كانت زيارتا الوزير عباس كامل مدير المخابرات العامة المصرية للجانب السوداني في شهري مارس ويوليو من العام الجاري. واللتين جاءتا على خلفية مفاوضات سد النهضة، وتمّ خلالهما الاتفاق على تعزيز التعاون الثنائي بين الجانبين.
وكانت مصر بعد جنوب السودان قبلة رئيس الوزراء السوداني في أولى زياراته الخارجية، في سبتمبر من العام الماضي، وذلك لتعزيز التعاون بين البلدين الشقيقين وتنشيط آليات التعاون الثنائي المشتركة.
أعقبها زيارة أخرى له في إبريل الماضي، والتي ناقش خلالها مع الرئيس السيسي مشروعات الربط الكهربائي، وكيفية استفادة السودان من مشروع الكهرباء في مصر. واتفق الطرفان حينها على نقل 60 ميجا واط من الكهرباء، في إطار الاتفاق على إجمالي 300 ميجا واط.
وهو الأمر الذي تم تفسيره كتقارب آني، مدفوعًا بملف المياه، بعد فترة من الجمود شهدتها العلاقات بين الجانبين في عهد البشير. وفُسر أيضًا بأنه محاولة من الجانب المصري لاستقطاب السودان في مواجهة الموقف الإثيوبي المتعنت، وتحييد المغريات التي تقدمها للجانب السوداني، وخاصة مع الوعود الإثيوبية بمد السودان بالكهرباء المتولدة عن السد. غير أن استمرار وتيرة الزيارات والتقارب بين الجانبين كشف عن توجه استراتيجي جديد، لا يقتصر فقط على مقتضيات اللحظة الراهنة.
تحول نوعي
مع رحيل نظام الإنقاذ أبدى السودان قدرًا معقولًا من المرونة والانفتاح مع الجانب المصري، وساهم في ذلك درجة التقارب بين القادة العسكريين الممثلين في مجلس السيادة السوداني والقيادة السياسية المصرية. وعلى النحو نفسه، جاءت تحركات الحكومة الانتقالية السودانية، والتي يقع في نطاق اختصاصها إدارة ملف سد النهضة؛ ممثلة في وزارتي الخارجية والموارد المائية والري. وبخلاف الموقف السوداني السابق، الذي كان يقوده البشير، والذي على مدار نحو ثماني سنوات من التفاوض أبدى درجات من التقارب مع الموقف الإثيوبي، غافلًا المصلحة السودانية، ومتاجرًا بها، ومروّجًا لأهمية السد للجانب السوداني؛ من حيث مدّه بالكهرباء وحمايته من الفيضان، وذلك في إطار سياساته وتحالفاته الإقليمية المتناقضة، والمتعارضة مع المواقف والسياسات المصرية طيلة الوقت، مما جعل السودان منحازًا دائمًا لأي موقف مغاير للموقف المصري، وإن كان على حساب المصلحة السودانية.
ومع تغير هذا الموقف، لاحظنا تغيرًا في موقف السودان في جولات التفاوض التي جرت هذا العام، وهو الموقف الذي استرعى انتباه المتابعين للملف، واعتبروه تحولًا جوهريًا ومفاجئًا للموقف السوداني، حتى وإن كان مدفوعًا بضغوط داخلية ومصلحة سودانية، فإنه في نهاية الطاف موقف ينطلق من منطلقات موضوعية، تعزز موقف شعبي وادي النيل ودول المصب إزاء الافتراءات الإثيوبية وتغولها على حصة البلدين وحقهما التاريخي في مياه النيل.
وتزامنت جولات التفاوض وتحولات المواقف هذه، مع تنامي إدراك حقيقي من صناع القرار المصري والخبراء والمتخصصين في الشأن السوداني بضرورة وأهمية العودة إلى السودان، ولم يعد هناك مبرر لاستمرار حالة الجمود بعد رحيل نظام الانقاذ. ومع مواتاة اللحظة لتفعيل هذا التقارب، اتخذت صورة زيارات رسمية ودبلوماسية رفيعة المستوى بين الجانبين، واتصالات هاتفية، ومساعدات عينية، استهدفت تعزيز التعاون بشكل أوسع، كما أسلفنا سابقًا.
وبداية، كان الملف المائي هو محرك التعاون والتقارب في الفترة الراهنة، والذي على خلفيته جاءت كافة أشكال التواصل بين القادة على الجانبين، لتأكيد ضرورة التعاون والتنسيق المشترك في الرؤى، فضلًا عن ضرورة التنسيق في كافة مجالات وأوجه التعاون، وذلك بداية من التواصل على أعلى مستوى للقيادة السياسية ممثلًا في الرئيس السيسي الذي حرص على التواصل باستمرار مع قادة المرحلة الانتقالية السودانية، سواء رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق ركن عبد الفتاح برهان، أو نائبه الفريق محمد حمدان دقلو، أو رئيس الوزراء السوداني.هذا فضلًا عن التواصل على مستوى مسؤولي إدارة ملف سد النهضة من رؤساء الأجهزة الاستخباراتية في البلدين ووزراء الخارجية والموارد المائية والري. غير أنه مثّل انطلاقة نحو تعاون أعمق في كثافته وأوسع في نطاقاته ومجالاته.
تقارب استراتيجي
تأتي هذه الزيارة التي امتدت ليوم واحد التقي خلالها الوفد المصري برئيس الوزراء السوداني وأعضاء مجلس السيادة السوداني، للتباحث في عدد من الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك بما فيها سدّ النهضة.
وتعكس هذه الزيارة آفاقًا أرحب لمجالات التعاون بين البلدين في مجالات متنوعة، والتي يعكسها تنوع وتعدد الوزراء، ما يشير إلى الرغبة في ترسيخ التعاون في هذه المجالات، وأنه توجه نحو مأسسة التعاون، وانتقاله من جوانبه السياسية إلى الجوانب الفنية والمؤسسية، عبر مشاركة غالبية أعضاء مجلس الوزراء المصري.
إذ يعكس مشاركة وزيري الكهرباء والطاقة المتجددة، والموارد المائية والري، الرغبة في تعميق وترسيخ التعاون في مجالات الطاقة والكهرباء والموارد المائية، وما يتصل بهم من مجالات البنية التحتية. وبالفعل هناك تعاون قائم بين مصر والسودان في مجال الربط الكهربائي. فضلًا عن مشروعات الربط بالسكة الحديد، والتعاون في مجالات الصناعة والبتروكيماويات، والأسمدة، والاستثمار الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، القائم عليها وزراء النقل والمواصلات والتجارة والصناعة والزراعة . ناهيك عن التعاون في المجالات الصحية، ونقل الخبرة المصرية في التعامل مع فيروس كورونا، فضلًا عن مجال مكافحة فيروس كورونا، وإنشاء مصنع أدوية مصري بالسودان. علاوة على مشاركة وزارة التعليم العالي، والتعليم، مما يشير إلى التوجه في تعزيز التعاون في مجالات التعليم، وهنا تقتضي الحاجة ضرورة استعادة الريادة المصرية في هذا المجال، والذي كان فرع جامعة القاهرة بالخرطوم، فضلًا عن المنح التعليمية المصرية للسودانيين، يدعم القوة الناعمة المصرية في هذا الشأن.
وتأتي هذه الزيارة عقب وصول شحنة من المساعدات الغذائية المصرية للسودان، أعلن عنها بالأمس المتحدث العسكري المصري، العقيد تامر الرفاعي، والتي جاءت كأحد توجيهات الرئيس السيسي، بغية تقديم الدعم ورفع العبء عن كاهل الشعب السوداني، الذي يمر بفترة موسمية سنوية عصيبة، في فصل الخريف، يواجه فيها تداعيات وخيمة جرّاء كثافة هطول الأمطار والفيضانات بالهضبة الإثيوبية، والتي تؤدي إلى إنهيار وتصدع في السدود والبنية التحتية السودانية، فضلًا عن غرق مدن وقرى ومصرع الكثير من السكان المحليين.
وجاءت تلك المساعدات في إطار سلسلة من المساعدات المصرية، قدمتها إلى الأشقاء السودانيين منذ اجتياح أزمة كورونا، والتي قدمت على إثرها شحنات من المساعدات الطبية، فضلًا عن تيسير أزمة العالقين السودانيين. وهي التحركات التي تأتي في جميعها انعكاسًا للرغبة في تعميق أواصر الصلة بين شعبي وادي النيل، والتأكيد على ضرورة استعادة الروابط التاريخية بين البلدين، والتي أضعفتها جملة من العوامل والسياسات العدائية، التي انتهجها نظام الإنقاذ على مدار ثلاثة عقود، في إطار سياسة إقليمية استقطابية، عززت من حالة القطيعة وفاقمت من اتساع نطاق الفجوة بين الجانبين.
ترسيخ العلاقات
يبدي السودان عبر مسؤوليه الرسميين ترحيبًا وانفتاحًا على التعاون مع الجانب المصري؛ إذ أثنوا على درجة وحجم المساعدات التي قدمتها مصر للجانب السوداني، سواء في فترة كورونا أو للعالقين أو الأزمة الأخيرة، والتي جاءت لدرجة الشراكة الاقتصادية بين الجانبين. وإذا كانت هذه المجالات الفنية والاقتصادية تعكس حجم الروابط بين الجانبين، فإن القضايا السياسية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك تتطلب درجة من التنسيق والتعاون، فضلًا عن تنسيق وتوحيد الرؤى في إطار المنظمات الإقليمية والدولية والتعاون في المجالات الأمنية ومجال مكافحة الإرهاب.
وبالتالي يشير حجم ودرجة التمثيل الرسمي المصري هذه المرة إلى أنه خطوة أولى نحو ترسيخ تعاون ثنائي مستدام. فمن المتوقع أن يتم تقديم مجموعة من المحفزات للاقتصاد السوداني، فضلًا عن تقديم مجموعة من التسهيلات الخاصة بتنقل المواطنين بين البلدين، وتنشيط المنح التعليمية المقدمة للطلاب السودانيين من جامعة الأزهر وغيرها. هذا فضلًا عن الانتقال من تقديم مساعدات طبية إلى الاتفاق على ضرورة استفادة الجانب السوداني من المبادرة المصرية لعلاج مليون أفريقي من فيروس سي، وتبادل الخبرة الفنية في المجالات الطبية، وتعزيز التعاون في مجالات الأبحاث.
وبدلًا من اقتصار التعاون في مجال نهر النيل على التنسيق في ملف سد النهضة، انتقل التعاون إلى درجة أكبر، وذلك بتطوير التعاون في مجال نهر النيل والملاحة النهرية، ورفع قدرتها التنافسية وتطوير أسطولها وتفعيل اللجنة الفنية الدائمة السودانية المصرية المشتركة.
ولعل درجة وحجم التنسيق في المجالات المتعددة هذه المرة، يعيد طرح اتفاقية الحريات الأربع بين الجانبين؛ والتي تنص على حرية التنقل والإقامة والعمل والتملك، والتي تم توقيعها عام 2004، بين كل من وزير الخارجية السوداني مصطفى عثمان اسماعيل، ونظيره المصري أحمد أبو الغيط حينها. وواجه تنفيذ هذه الاتفاقية منذ ذلك الحين العديد من العقبات من جانب، ومحاولات للتفعيل من جانب آخر.
وكانت هناك بالفعل تسهيلات من الجانب المصري في منح التأشيرات والإقامة، كما سهل فتح المعابر البرية زيادة عدد السودانيين المسافرين إلى مصر. إلا أن التسهيلات لم تكن على قدر التحفظات، التي مبعثها التهديدات الأمنية الحدودية، واللاجئين، وبالتالي واجهت الاتفاقية بطئًا في تنفيذها، وهو ما يراه الجانب السوداني عرقلة لحركة المستثمرين السودانيين، فضلًا عن صعوبة حرية التنقل والتملك، مما قلل من حالة التفاؤل التي سادت حين تم توقيع الاتفاقية، إلا أن نتائج الزيارة الحالية، أسفرت عن اتفاق لوضع خطة عمل لتذليل العقبات التي تعترض انسياب الحركة التجارية لا سيما ما يتعلق بطرق النقل المؤدية للمنافذ البرية.
ومع الدعاوى بشأن تفعيل تلك الاتفاقية، كخطوة أولى نحو تحقيق التكامل الاقتصادي، تثار مجموعة من المحفزات وأخرى من التحفظات. ربما تنبع تلك المحفزات، من كون مصر متجهة بالفعل نحو تعزيز التعاون مع القارة الأفريقية في مجالات التعاون الاقتصاد والبنية التحتية والربط الكهرباء، فضلًا عن مجالات الزراعة والصناعة والري، وهو ما كشفت عنه فترة رئاسة مصر للاتحاد الأفريقي وإنشاء الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية. هذا بالإضافة إلى تعاون مصر في المجالات الأمنية؛ سواء بشكل ثنائي، أو جماعي، باعتبارها من أكبر الدول المشاركة في عمليات حفظ السلام، فضلًا عن إطلاقها مبادرة لإنشاء قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب بالساحل والصحراء.
ومن المنطقي، ألا تنطلق مصر إزاء القارة الإفريقية بهذه الكثافة، دون أن تعزز علاقتها بالسودان في ذات المجالات المشار إليها أعلاه، باعتبار السودان بوابة مصر الخلفية على القارة الإفريقية، فضلًا عن واقع الجغرافيا والتاريخ، اللذين يفرضان ضرورة التقارب والتنسيق، بما يعزز من موقعهما ودورهما وتحركاتهما في المجال الإفريقي.
وعلى نفس المنوال، الذي ثارت معه مخاوف مصر من تفعيل جواز السفر الإفريقي الموحد؛ بما يسمح بحرية التنقل بين أفراد القارة، كانطلاقة نحو تحقيق التكامل والاندماج القاري، تأتي المحاذير المصرية من حرية التنقل التي تنص عليها اتفاقية الحريات الأربع، بما يسمح بتنقل الأفراد من الدول التي تشهد صراعات داخلية وتهديدات أمنية. وكما تبرز الحاجة إلى ضرورة تعزيز النظم الأمنية الإقليمية وبناء قدرات الدول في المجال الأمني، تتجلى حاجة السودان الآن إلى دعم قدراته ومؤسساته الأمنية، في ظل واقع المؤسسة العسكرية وأجهزة الشرطة السودانية، التي ما زالت تواجه تحديات المرحلة الانتقالية، فضلًا عن استمرار السودان معبرًا وملاذًا للحركات الأمنية، مما يستدعي ضرورة تقديم الدعم المصري للسودان على المستوى الأمني والعسكري، والمشاركة في تبادل وتقديم الدعم والخبرات الفنية، في المجالات الأمنية والعسكرية في الفترة الراهنة، هذا فضلًا عن المضيّ قدمًا في دعم الاقتصاد السوداني الذي لا زال يترنح تحت وطأة العقوبات الدولية. وهي الخطوة التي تدعم دمج السودان في الاقتصاد العالمي، ودعم إزالته من قائمة الدول الراعية للإرهاب الأمريكية، وهو ما تمّ بالفعل التوافق عليه، على هامش الزيارة.
وهو ما يضمن ليس فقط إقامة مؤسسات أمنية احترافية، ولكن أيضًا دعم استقرار السودان، بما بدعم التعاون والتكامل بين البلدين، وتحييد المحاذير المصرية بشأن عدم الاستقرار الداخلي.وفي الأخير من أجل بلورة هذا التكامل المصري السوداني، تتجلى الحاجة في تفعيل التعاون في المجالات الثقافية والإعلامية، من أجل تغيير المدركات الذهنية، التي غلفتها المدخلات السلبية، طيلة ثلاثة عقود في عهد البشير، مما طبع الرأي العام السوداني بطابع سلبي إزاء الجانب المصري. وحتى الآن، ما زالت الغالبية السودانية تنظر إلى مصر وتحركاتها بتوجس، ولا أدل على ذلك من ربط بعض السوداينين المساعدات المصرية بأنها مجرد تقارب من أجل مفاوضات سد النهضة لا أكثر، وهو الموقف الذي ينبغي تغييره، في ظل المساعي والرغبة في استدامة وترسيخ العلاقات الثنائية. وبالتالي، فإنه ونظرًا لغياب وزراء كالإعلام والثقافة، والذي ربما لا يعد أولوية في المرحلة الأولى، إلا أنه لا يجب أن يغيب عن أطر التعاون في الفترة القادمة.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية