
من ينتصر في تونس.. الدولة أم الحركة؟
أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد بالأمس اختياره وزير الداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ هشام المشيشي لتشكيل الحكومة التونسية الجديدة، خلفًا لحكومة الفخفاخ التي قدّمت استقالتها يوم 15 يوليو الجاري، بعد اتهامات وُجهّت للفخفاخ بالفساد وتضارب المصالح، وصراع بين سعيّد والفخفاخ من جهة وحركة النهضة الإخوانية من جهة أخرى على مصير الحكومة، ومن يكون له الحق في تشكيل الحكومة الجديدة. اختيار المشيشي هو حلقة أخرى من حلقات الأزمة السياسية التونسية، فهل تكون حلقة تجاه الحل، أم تجاه تكريس الانقسام؟ ومن يُكتب له الانتصار في هذه المعركة، الدولة بمؤسساتها أم الحركة بمخططاتها؟
تكليف لا يخلو من الرسائل
كان واضحًا منذ بداية تكليف رئيس الوزراء المستقيل إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة في 20 يناير الماضي ثم الانتهاء من تشكيلها وأدائها اليمين في 27 فبراير، أن حكومته لن تستمر طويلًا –بغض النظر عن اتهامات الفساد التي وُجّهت للفخفاخ- بناء على ما حدث من صراعات أثناء تشكيلها وقبل ساعات من الموافقة عليها.
وقد أشار المرصد المصري عقب تمرير حكومة الفخفاخ في تقرير سابق تحت عنوان: “بعد تمرير حكومة الفخفاخ.. هل تتجه تونس نحو الاستقرار؟” إلى أن “الفسيفساء التي تكوّنت منها الحكومة التونسية تطرح تساؤلات كثيرة حول مستقبل هذه الحكومة، فالحكومة مكوّنة من أحزاب وكتل سياسية ذات توجهات مختلفة تصل إلى حد التناقض، ولم يدفعهم إلى التآلف والتوافق في هذه الحكومة إلا الضرورة الملحة، وبالتالي فإن تشكيل الحكومة أشبه بالرماد الذي يخفي تحته نارًا مستعرة قد تزداد اشتعالًا في أي وقت، ويزيد من احتمالية ذلك وجود انعدام ثقة بين مكوّنات الحكومة”.
إضافة إلى العوامل السابقة، فقد جاءت الأزمة الليبية لتضيف أزمة جديدة إلى أزمات تونس، وهو الصراع بين الرئيس التونسي قيس سعيّد ورئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، إثر اتخاذ كل منهما مواقف متباينة مما يجري في ليبيا، وهو ما سارع من تقطع أوصال المنظومة السياسية الحاكمة في تونس. ومنذ ذلك الوقت اعتاد الرئيس التونسي على توجيه الرسائل –المبطنة تارة والصريحة تارة أخرى- لحركة النهضة والبرلمان، آخرها أثناء زيارته لمقر قيادة القوات الخاصة التونسية ومقر وزارة الداخلية يوم 21 يوليو الجاري. ثم أثناء لقائه بوزير الدفاع عماد الحزقي 24 يوليو مؤكدًا “استعداد المؤسسة العسكرية للتصدي لكل من يحاول التعدي على الدولة والخروج عن الشرعية سواء من الداخل أو الخارج”.
بيان تكليف سعيّد لوزير الداخلية هشام المشيشي حمل بدوره الكثير من الرسائل لحركة النهضة والبرلمان برمته، إذ قال “الحفاظ على السلم الأهلية واجب مقدس لا مجال للتسامح فيه وأن احترام القانون لا يقل قداسة عنه، الشرعية نحترمها، لكن آن الأوان حتى تكون تعبيرًا صادقًا عن إرادة الأغلبية”.
الرسالة الأخرى من سعيّد للبرلمان وعلى رأسه حركة النهضة كانت في الاختيار ذاته لوزير الداخلية هشام المشيشي لتشكيل الحكومة، صارفًا النظر تمامًا عن الترشيحات التي قدمتها الأحزاب التونسية المشاركة في البرلمان، إذ رشحّت حركة النهضة وحليفها حزب قلب تونس كلًا من وزير التنمية السابق فاضل عبد الكافي والخبير الاقتصادي خيام التركي، وهما من رشحهما حزب تحيا تونس أيضًا إضافة إلى وزير المالية السابق حكيم بن حمودة ووزيرة الصحة السابقة سنية بالشيخ، ورئيس اتحاد كرة القدم وديع الجريء، واختار حزب التيار الديمقراطي قيادييه محمد عبو وغازي الشواشي، واقترحت “الكتلة الوطنية” رئيسها حاتم المليكي والقيادي بها رضا شرف الدين، فضلًا عن فاضل عبد الكافي وحميد بن حمودة.
مناوشات التشكيل والثقة
سيواجه رئيس الوزراء المكلّف حربًا ضروسًا لتشكيل حكومته في مدة لا تتعدى شهرًا من اليوم، في ظل الانقسامات الدائرة داخل قبة البرلمان، بين حركة النهضة (54 مقعدًا) ومعها حزب قلب تونس (27 مقعدًا) وائتلاف الكرامة (19 مقعدًا) من جهة بإجمالي (100 نائب)، والحزب الدستوري الحر (16 مقعدًا) والكتلة الديمقراطية “حركة الشعب والتيار الديمقراطي” (38 مقعدًا) وكتلة الإصلاح (16 مقعدًا) وكتلة تحيا تونس (11 مقعدًا) وكتلة المستقبل (9 مقاعد) والكتلة الوطنية “المستقيلون من قلب تونس” (11 نائبًا) من جهة أخرى بإجمالي (101 نائب).
لا تملك أي من الجهتين ما يرجح كفتها من ثقل داخل البرلمان لتفرض على المشيشي شروطها أثناء تشكيل الحكومة، إلا أن ثقل رفض الرئيس التونسي لحركة النهضة قد يرجح الكفة المناوئة للحركة، وبالتالي قد يلجأ المشيشي إلى تشكيل حكومته من الأحزاب الرافضة للوجود النهضوي في الحكومة، والتي صرح بعضها بأنه لن يشارك في حكومة توجد بها النهضة.
وهو ما يُفضي إلى المعركة الأخرى وهي معركة منح الثقة للحكومة، والمقررة في سبتمبر المقبل حسب الآجال الدستورية، فإذا استُبعدت النهضة من تشكيل الحكومة فستقف أمامها بالمرصاد تحت قبة البرلمان، وحينها قد تستقطب عددًا من الأعضاء المستقلين في البرلمان البالغ عددهم 16 نائبًا، لتصل إلى الأغلبية التي تسمح لها بإسقاط الحكومة (109 نائبًا).
سحب الثقة من الغنوشي
بعد مناوشات تحت قبة مجلس نواب الشعب واعتصام لأعضاء الحزب الدستوري الحر بداخل البرلمان أدى إلى منعه من أداء عمله، وفشل حركة النهضة في فض الاعتصام عن طريق استدعاء الشرطة، قبل مكتب البرلمان برئاسة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لائحة سحب الثقة التي قدمها عدد من النواب للتصويت على سحب الثقة من الغنوشي وإزاحته من رئاسة البرلمان، وحدد المكتب جلسة الخميس 30 يوليو للتصويت على سحب الثقة من عدمه.

هذه الجلسة ستحدد بشكل كبير الشكل الذي ستكون عليه مناوشات تشكيل الحكومة، فإن مرت دون سحب الثقة من الغنوشي كما وصفها نفسه بأنها ستكون “لحظة لتأكيد الثقة وليست لحظة لسحبها” فسيكون ذلك إيذانًا بلحظة تمسك فيها النهضة بكل أدوات القوة المستمدة من تأييد رئيسها داخل البرلمان، وبالتالي سيكون لزامًا على رئيس الحكومة المكلّف هشام المشيشي ألا يتجاهل الحركة في تشكيلته للحكومة، إذ إن تمكن الحركة من حشد الأصوات الكفيلة بعدم منح الثقة من رئيسها ينبئ بتمكنها كذلك من التصويت ضد منح الثقة لحكومة المشيشي.
أما إذا نجح النواب المعارضون في سحب الثقة من الغنوشي –وهو خيار قد لا تدعمه المؤشرات على الأرض- فإن ذلك يعني انتهاء الحركة سياسيًا بإزاحة رئيسها من رئاسة البرلمان، وبالتالي استبعادها تمامًا من تشكيل الحكومة المقبل، وسيكون على الحزام التصويتي الذي صوت لصالح سحب الثقة من الغنوشي التصويت للحكومة الجديدة بدون النهضة.
صراع الشرعية
نجاح الغنوشي في التشبث بمقعده من رئاسة البرلمان يقتضي كما سلف نجاح حركته في إزاحة حكومة المشيشي إن أصرّ على تشكيلها باستبعادها، وهنا ستدفع البرلمان كله نحو الهاوية، معيدة الأمر إلى الرئيس قيس سعيّد للإعلان عن حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة في أجل أقصاه 60 يومًا من تاريخ قرار الحل.
يشير ذلك إلى صراع الشرعية بين الرئيس التونسي الذي يلوح دائمًا بشرعيته الشعبية التي اكتسبها بموجب تصويت نحو 70% من عدد المصوتين في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية لصالحه، في حين يلوح البرلمان بشرعيته التي اكتسبها هو كذلك من الشعب، وإن كان سعيّد يلمح إلى أن عدد المصوتين له تفوق من صوتوا للبرلمان، وبالتالي فإن شرعيته الشعبية هي الأقوى.
قرار حل البرلمان سيضع كل الخيارات أمام التونسيين من جديد، ليختاروا برلمانًا جديدًا يعطون فيه الأغلبية للكتلة التي يرونها الأحق بها، وسط مؤشرات حول تراجع شعبية حركة النهضة بين التونسيين بفعل مواقفها الأخيرة تحت قبة البرلمان، وبفعل مواقف رئيسها المعارضة لتوجهات السياسة الخارجية التونسية، وبفعل أن تنسيقها مع الأتراك والميلشيات في ليبيا هو الذي أوقع تونس الآن في مواجهة خطر إرهابي داهم قادم من حدودها مع ليبيا.

وقد يراهن الرئيس التونسي على رغبة النهضة في عدم اللجوء إلى انتخابات مبكرة تنتقص من عدد المقاعد التي حصلت عليها بموجب الانتخابات الماضية، إلا أن الحركة قد تنتهج سياسة “الأرض المحروقة” وتمنع الثقة عن الحكومة وتلجأ إلى انتخابات مبكرة تحشد فيها قواعدها التنظيمية والشعبية باعتبارها حالة تهدد وجود الحركة بالكامل، وتحظى بأغلبية ثانية داخل البرلمان، وبالتالي إمكانية تقديم لائحة لإعفاء رئيس الجمهورية من منصبه بموجب الفصل الـ88 من الدستور.
وإذا اختار التونسيون حركة النهضة من جديد لتكون صاحبة الأغلبية في البرلمان، فسيّعدُّ ذلك إعلانًا بأن رصيد الرئيس التونسي قد نفد لديهم، وأن رهانه الأول على الفخفاخ الذي كان باختياره فقط وبمعزل أيضًا عن ترشيحات القوى السياسية، ثم اختياره المشيشي دون التوافق مع هذه الكتل، قد انتقص من شعبيته التي أدت إلى مجيئه إلى سدة الرئاسة في اختيار من التونسيين خالف كل التوقعات.
قد يكون خيار حل البرلمان هو الأسوأ بالنسبة للأحزاب والكتل السياسية، ولكنه سيكون الأفضل بالنسبة للتونسيين ليختاروا برلمانًا متسقًا مع ذاته به أغلبية واضحة، دون الفسيفساء التي تشكل منها البرلمان الحالي وأدى إلى تشرذم سياسي وحكومي كبير، إلا أن قانون الانتخابات بشكله الحالي قد يحول دون ذلك، وينتج نفس التشرذم الذي يعاني منه البرلمان الحالي، ومع استمرار ذلك التشرذم قد تُقبل تونس على مرحلة شبيهة بالوضع اللبناني، الذي تؤدي فيه الانقسامات السياسية إلى تغيير مستمر في الحكومات، وتستمر معها معاناة التونسيين الاقتصادية والمعيشية.
الفوضى؟
إذا تحقق سيناريو سقوط الحركة التام من الحياة السياسية في تونس بإزاحة رئيسها من رئاسة البرلمان، ونجاح هشام المشيشي بصحبة الأحزاب المناوئة للنهضة في تشكيل حكومة بدون مشاركتها، والعبور بها ونيلها ثقة مجلس نواب الشعب، فقد تلجأ الحركة للسيناريو الذي اتبعته جماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد ثورة 30 يونيو وهو اللجوء إلى العنف وخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني في البلاد.
وذلك بالنظر إلى تصريح المتحدث باسم الحركة عماد الخميري يوم 21 يوليو بأنه “لا استقرار في تونس إذا استثنت تشكيلة الحكومة المقبلة النهضة”. وبالنظر إلى ما كشفته “هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي” بشأن امتلاكها أدلة على ضلوع الجهاز السري لحركة النهضة في اغتيال الناشطين شكري بلعيد ومحمد البراهمي عام 2013، وهو الجهاز الذي قد يعاود عمله في أي وقت.

كما يمكن للحركة أن تستنجد بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي سيقوم بالتنسيق مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي نقل الآلاف من المرتزقة من سوريا إلى الغرب الليبي، واستخدام هؤلاء في إحداث حالة عدم الاستقرار في الأراضي التونسية لإنقاذ آخر معاقل الجماعة في شمال أفريقيا. وهو الأمر الذي سيوجه ضربة قاصمة للاقتصاد التونسي المعتمد بشكل كبير على السياحة ويعاني من تبعات قاسية جراء جائحة كورونا، وبالتالي تعقيد مهمة الرئيس التونسي وزعزعة صورته أمام التونسيين.
باحث أول بالمرصد المصري