
دلالات ونتائج انتخاب جوزيف عون رئيسًا للبنان
اختار مجلس النواب اللبناني يوم 9 يناير 2025 قائد الجيش العماد جوزيف عون ليكون الرئيس الرابع عشر في تاريخ البلاد بعد إخفاق 13 جلسة عقدها المجلس في إنهاء أكثر من عامين من الفراغ الرئاسي منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر 2022. وتظهر عملية انتخاب الرئيس جوزيف عون بما تضمنته من تفاعلات دولية وداخلية مجموعة واسعة من الدلالات المرتبطة بتداعيات التغيرات الجيوسياسية في المنطقة على الداخل اللبناني، وهو ما يسهم في استشراف بعض النتائج المترتبة على انتخاب الرئيس اللبناني الجديد.
دلالات متعددة
تكريس التوافق: بعد إعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري موعد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية عقب اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وحزب الله من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، تكثفت الاتصالات والجهود الدولية للتوصل إلى توافق بين الأطراف اللبنانية بشأن مرشح للرئاسة. قادت هذه الجهود اللجنة الخماسية الدولية المعنية بلبنان، التي تضم الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، قطر، ومصر. وقد ركزت هذه الجهود على الدفع باتجاه التوافق على انتخاب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، وانتهت بنجاح عون في الوصول إلى منصب الرئاسة، بما يكرس واقعًا ثابتًا في الانتخابات اللبنانية تاريخيًا، حيث يتم اختيار رئيس الجمهورية بالتوافق بين القوى السياسية اللبنانية بدعم خارجي، وأن جلسة الانتخاب تأتي لتعكس هذا التوافق دون أن تكون عملية انتخابية بالمعنى السياسي.
انكفاء المشروع: يمثل انتخاب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيسًا لبنان أحد الدلالات المهمة لنتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان وما خلّفته من تداعيات على قدرات حزب الله المختلفة وخاصة القيادية بعد اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله بالإضافة إلى القدرات العسكرية التي انعكست بدورها على مواقف حزب الله السياسية وأهمها موقفه من انتخاب رئيس الجمهورية. فقد قادت هذه التداعيات وغيرها من التداعيات المرتبطة بالمشروع الإيراني في الإقليم وخاصة بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد وما يرتبه من تداعيات كبيرة على وكلاء إيران بوجه عام وحزب الله ومساعيه لإعادة بناء قدراته على وجه الخصوص. ولذلك كله كان ملف انتخاب الرئيس وموقف حزب الله منه موكلًا إلى رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه بري، وأفضت الجهود والضغوط الدولية إلى تحقيق التوافق النهائي على انتخاب عون.
الحرص على الدور: أظهرت جلسة انتخاب الرئيس ملمحًا مهمًا من ملامح المستقبل السياسي في لبنان وهو أنه على الرغم من حالة الانكفاء أو التراجع التي أظهرها حزب الله في عملية التوافق على شخصية الرئيس فإنه لا يزال ومعه حليفه حركة أمل حريصًا على الإبقاء على دوره المحوري في المشهد السياسي اللبناني بكافة أبعاده، الأمر الذي اتضح في نتائج التصويت في الدورة الأولى للانتخاب، بحصول جوزيف عون على 71 صوتًا مع تصويت الثنائي الشيعي وحلفائهما من المستقلين والقوى الأخرى بأوراق بيضاء بلغ عددها 37 ورقة، ثم إعلان نبيه بري رفع الجلسة للتشاور والعودة للتصويت في الدورة الثانية التي أسفرت عن حصول عون على 99 صوتًا. ما يوصل رسالة من حزب الله وحركة أمل للقوى السياسية اللبنانية وكذلك القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان بأنه لا يمكن اتخاذ قرار مصيري في البلاد على غرار انتخاب الرئيس دون موافقة الثنائي، وأن كليهما حريص على استمرار هذه المعادلة خلال العهد الرئاسي الجديد.
نتائج وتداعيات
تفاعلات الجنوب: يعد الموقف في جنوب لبنان من أهم وأول التحديات التي سيواجهها الرئيس اللبناني الجديد في بداية ولايته، لا سيّما فيما يتعلق بموقف اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل والبنود التي تضمنها المرتبطة بانتشار الجيش اللبناني في الجنوب وانسحاب قوات حزب الله إلى شمال نهر الليطاني مع نزع سلاح الحزب وتفكيك البنية التحتية الخاصة به في مناطق انتشار الجيش في مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب في نهاية الـ 60 يومًا المحددة في الاتفاق. ويمكن القول إن التوافق الخارجي الذي أدى إلى وصول عون إلى الرئاسة قد تضمن كذلك تفكيك مصير هذه البنود؛ إذ من المتوقع أن تكون القوى المعنية قد وعدت الرئيس جوزيف عون بضمان انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب بحلول الموعد المحدد في مقابل دعم الجيش اللبناني للاضطلاع بمسؤولياته وفق الاتفاق فيما يتعلق بوجود حزب الله جنوب الليطاني.
ويمكن توقع أن يزداد دعم القوى الدولية للجيش اللبناني بشكل كبير خلال المرحلة المقبلة ليتمكن من تحقيق هذه المهام التي من المتوقع تحقيقها وخاصة انسحاب قوات الحزب إلى شمال نهر الليطاني وفق تفاهم معه بأن يكون ذلك في مقابل إعادة إعمار المناطق المتضررة في الجنوب حيث الحاضنة الشعبية لحزب الله. وفي الوقت ذاته، من الصعب توقع أن يتمكن الجيش من نزع سلاح الحزب في المدى القصير رغم ما أكده الرئيس في خطابه الأول بشأن حصر السلاح بيد الدولة. على أن تبقى هذه القضية مُرجأة إلى مرحلة لاحقة ورهنًا بعدة عوامل منها طبيعة الحكومة اللبنانية الجديدة وطبيعة موقف إسرائيل العسكري ووجودها في جنوب لبنان وتطبيقها لما نص عليه اتفاق وقف إطلاق النار وقرار مجلس الأمن رقم 1701.
حكومة توافقية: تتمثل الخطوة التالية بعد انتخاب الرئيس اللبناني دستوريًا في الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة لاختيار رئيس للحكومة الجديدة خلفًا لحكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نجيب ميقاتي. وتشير العملية السياسية التي أوصلت جوزيف عون إلى الرئاسة إلى أن القوى السياسية اللبنانية جميعها قد تكون ممثلة في الحكومة الجديدة باستثناء التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل صهر الرئيس السابق ميشال عون، والذي أصر نوابه على رفض وصول قائد الجيش إلى الرئاسة على اعتبار ذلك مخالف للمادة 49 من الدستور، ومن ثم أصبح التيار الوطني الحر عمليًا خارج العهد الجديد، وتحول تأمين الميثاقية المسيحية لهذا العهد إلى حزب القوات برئاسة سمير جعجع. وأيًا من كان الرئيس الجديد للحكومة، فمن المتوقع أن يغلب على تشكيل هذه الحكومة طابع الحكومات السابقة من حيث التشاور السياسي وتدخل القوى السياسية المختلفة -وعلى رأسها الثنائي الشيعي في اختيار الوزراء وخاصة الوزارات السيادية مثل الدفاع والخارجية والمالية حتى وإن كانوا من التكنوقراط لإعطاء ملمح إيجابي للمجتمع الدولي بالاتجاه نحو الإصلاح.
تحدي الإصلاح: ركز خطاب الرئيس جوزيف عون بعد انتخابه على عدة نقاط بدت موجهة إلى المجتمع الدولي أكثر من الداخل اللبناني، وخاصة حديثه عن أزمة الحكم في لبنان والحاجة لتغيير الأداء السياسي، والتعهد بالعمل على إقرار قانون جديد لاستقلالية القضاء، وإعادة هيكلة الإدارة العامة، وضمان احتكار الدولة للسلاح. وتعكس هذه البنود توجهات إصلاحية تهدف لجذب دعم المجتمع الدولي، خاصة في الجانب الاقتصادي، لإخراج لبنان من أزمته التي أثرت على مختلف القطاعات. وبالنظر إلى التوافق الدولي الذي أدى إلى انتخاب عون، يُتوقع وجود انفتاح ودعم دولي لتنفيذ هذه الإصلاحات. ورغم ذلك، تظل الشكوك قائمة حول قدرة الرئيس الجديد على الوفاء بجميع وعوده.
إجمالًا، على الرغم مما يمثله انتخاب رئيس جديد للبنان وخاصة شخصية قائد الجيش العماد جوزيف عون من اختراق كبير للأزمة السياسية في البلاد وإشارة قوية إلى مستقبل أفضل للدولة التي تواجه أزمات وجودية على كافة المستويات السياسية والأمنية والاجتماعية، فإن تحديات كبيرة ستواجه العهد الجديد في البلاد بما يجعل احتمالات استمرار الديناميكية السياسية على الحال ذاتها مطروحة، خاصة مع عدم وضوح مستقبل سلاح حزب الله -بوصفه الفاعل الأهم في المعادلة- حتى الآن، والتوقع بأن يصب الحزب كامل اهتمامه على تعزيز موقعه ونفوذه في السياسة اللبنانية لتعويض الخسائر التي تعرض والمحور الإيراني على مستوى الإقليم.