دول المغرب العربي

تزايد التدخل: حلحلة أزمة الصحراء الغربية وحدود التأثير الأمريكي

ثمة تحول في التعاطي مع قضية الصحراء الغربية عبر مظلة الأمم المتحدة أو من خلال القوى الكبرى الفاعلة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وآخرها تمثل فيما صدر عن مجلس الأمن الدولي في 30 أكتوبر 2023 وهو القرار رقم (2703) الخاص بقضية الصحراء الغربية والذي ينص على تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية “مينورسو” لمدة سنة تنتهي في أكتوبر 2024. هذا التطور تزامن مع تحرك وانفتاح دبلوماسي أمريكي جزائري على وجه العموم وعلى جبهة “البوليساريو” على وجه الخصوص، في حالة تحول حيال هذا الملف العالق والمؤثر على معادلة الأمن في دائرة شمال أفريقيا، وبما يشير بصورة أولية إلى مساعٍ لحلحلة الأزمة في ضوء الاعتبارات البراجماتية والمتغيرات الأخيرة التي شهدها الملف.

بعثية “مينورسو” وتحولات التفاعل

في أعقاب التطورات التي حدثت في ملف الصحراء الغربية إثر حادث معبر الكراكرات (نوفمبر 2020) وما أعقبه من تصعيد عسكري بين جبهة “البوليساريو” والقوات الملكية المغربية أفضى إلى إعلان الجبهة انسحابها من اتفاق وقف إطلاق النار الموقّع في 1991 مع المغرب وفق المرسوم الذي أصدره “إبراهيم غالي” زعيم جبهة “البوليساريو”؛ استمر غياب المبعوث الأممي للصحراء الغربية في أعقاب استقالة “هورست كوهلر” المبعوث الأمم للصحراء في مايو 201، وظل هذا المنصب شاغرًا لمدة عامين، إلى أن سُمّي “ستيفان دي ميستورا” كمبعوث أممي للصحراء الغربية في نوفمبر 2021.

تزامن مع هذه المتغيرات تفاقم العلاقات الجزائرية المغربية منذ عام 2020 والتي شهدت تصادمًا مباشرًا إثر التطبيع المغربي الإسرائيلي واتفاقية التعاون العسكري المشترك بينهما منذ عام 2021، وما تبعها من تحولات في موازين القوى العسكرية وفتح المجال امام سباق تسلح بين الجانبين. فقد وثقت الرباط علاقاتها مع الغرب وإسرائيل واقتنت الطائرات المسيرة، وفي المقابل تنامت قدرات الجزائر وبطبيعة الحال جبهة “البوليساريو” في خضم التنسيق مع إيران وكذلك الجانب الروسي، بما يؤدي بشكل كبير إلى مساحة تنافس عسكري واسعة تؤثر على الاستقرار في هذه المنطقة.

وعلى الرغم من هذه التحوّلات ثمة مؤشرات تدفع في مسار تصفية القضية، وبرّزت فيما تضمنه قرار مجلس الأمن رقم 2703 بتاريخ 30 أكتوبر 2023 والذي مدد فيه عمل ولاية بعثة “مينورسو” لمدة عام واحد، مع التأكيد على دور الجزائر وموريتانيا كأطراف فاعلة ورئيسة في هذا الملف بما يدفع إلى الانخراط بصورة أكثر واقعية لاستئناف المفاوضات برعاية الأمين العام دون شروط مسبقة وبحسن نية وبهدف التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين.

وعلى الرغم من أن هذا القرار جاء ليكرس ذات النهج في القرارين الصادرين في عام 2021 وعام 2022 وهما على التوالي قرار رقم (2602) والقرار رقم (2654)، فإنه يأتي كذلك في إطار عدة تحولات في العلاقات الدولية من ناحية وفي وضعية التحولات الميدانية والدبلوماسية التي شهدها ذلك الملف.

ويكرس هذا القرار -وفقًا للتفسيرات الدبلوماسية المغربية- للتحولات التي شهدتها مساعي المغرب لفرض مبادرة الحكم الذاتي من خلال تزايد الدول المؤيدة لهذا الطرح مع تراجع الدول المؤيدة أو المعترفة بجبهة “البوليساريو”، علاوة على تطورات المشهد الدبلوماسي الخاص بفتح أكثر من ثلاثين قنصلية عامة بالعيون والداخلة، مع تحديد دور للدول المعنية وهي الجزائر وموريتانيا وأهم أدوارهم في معالجة هذا النزاع وخاصةً الجزائر التي كانت ترى نفسها غير معنية بالحضور أو المشاركة في الدائرة المستديرة لمعالجة الأزمة.

ذلك علاوة على أن هذا القرار قد أوضح بصورة كبيرة أهمية أن يكون الحل سياسيًا وواقعيًا وعمليًا ودائمًا قائمًا على التوافق، وهو ما يُفهم منه ضمنيًا دعم المبادرة المغربية التي وصفها قرار مجلس الأمن بأنها مبادرة جادة وذات مصداقية.

ولعل هذا القرار وما تضمنه من مرتكزات متعددة جاءت لتتماشى مع المكاسب الاستراتيجية التي حققتها الرباط في هذا الملف، مع تزايد مساحة الاعتراف والتأييد الغربي والإقليمي لمبادرة الحكم الذاتي التي سبق وأن أعلنتها في عام 2006، وباتت موضعًا للدعم من قِبل الدول التي وجّهت بوصلتها نحو المغرب على حساب علاقاتها مع الجزائر، مثل إسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

الولايات المتحدة وتزايد الدّور

هناك دور أكثر حيوية لواشنطن في هذا الملف اتضحت معالمه بصورة كبيرة على ضوء زيارة وفد أمريكي برئاسة “جوشوا هاريس” نائب وزير الخارجية الأمريكي لمخيمات “تندوف” وعقد جلسة مباحثات مع الجزائر وجبهة “البوليساريو” في سبتمبر 2023، ضمن جولة شملت أيضًا المغرب. وتكشف هذه الزيارة عن مساعي واشنطن للدفع بالعملية السياسية الأممية في الصحراء ومساعيها لتسوية هذه القضية.

وسبق هذه الزيارة زيارة وفد أمريكي أمني رفيع المستوى من مسؤولين من وزارات الخارجية والخزانة والدفاع خلال 5 و6 يونيو 2023؛ لتضع الولايات المتحدة ملف مكافحة الإرهاب والقضايا الأمنية الإقليمية على رأس أولوياتها وتسعى بصورة رئيسة لإعادة فرضة أجندتها ورؤيتها لمستقبل تلك المنطقة بعد التحولات الراهنة.

ويأتي هذا التحرك رغبةً من جانب واشنطن للعب دور مؤثر في معادلة الأمن داخل الساحل الأفريقي عبر تسوية القضايا الخلافية للأقطاب المؤثرة وخاصةً الجزائر والمغرب، والتعويل عليهما في إقرار الوجود الأمريكي في هذا النطاق الجيوستراتيجي. وهو أمر ناتج بصورة كبيرة لما شهدته العلاقات الجزائرية الروسية من تقدم غير مسبوق، مع تزايد الدور التنسيقي والوظيفي لإيران في الصحراء الغربية، مما يتطلب معه بذل دور أكبر مع هذه الأطراف.

ولقد نتج عن هذه الزيارة أمران: الأول؛ إجراء المبعوث الأممي “سيتفان دي ميستورا” مشاورات مع كل الأطراف المعنية بملف الصحراء الغربية في 5 سبتمبر 2023 في أول زيارة له منذ تعيينه في هذا المنصب في نوفمبر 2021، والأمر الثاني يتمثل في إبداء جبهة البوليساريو قدرًا من المرونة والانفتاح على التفاوض، وذلك في ضوء إعلان “محمد سيداتي” المُسمّى وزير الشؤون الخارجية في “الجمهورية العربية الصحراوية” في 9 أكتوبر 2023 بأن جبهة “البوليساريو” منفتحة على المفاوضات مع المملكة المغربية بوساطة أممية لإيجاد حل عادل ودائم لهذا النزاع؛ رغبةً في إبداء مرونة للتعاطي مع هذه القضية دون تفاقم الضغوطات الغربية عليها أو إصدار أي قرارات من مجلس الأمن من شأنها أن تؤثر على الجبهة ككتلة رئيسة في تسوية القضية الصحراوية. ومن ثّم فإن هناك مساعي أمريكية لتصفير القضايا الحدودية في هذا النطاق؛ تمهيدًا للعب دور استراتيجي في الساحل والصحراء عبر بوابة المغرب العربي.وإجمالًا؛ هناك تحول في الموقف الأمريكي تجاه ملف الصحراء الغربية يستهدف بالأساس لعب دور أكثر فاعلية لإنهاء هذا الصراع من خلال الجهود الأممية التي يقوم المبعوث الأممي “سيتفان دي ميستورا”. وينحاز التوجه الأمريكي للرؤية المغربية الخاصة بمبادرة الحكم الذاتي انطلاقًا من واقعيتها. وهذا التحرك ناتج عن تطلعات واشنطن لإيجاد مساحة لها في الساحل الأفريقي عقب تزايد الدور الروسي وتراجع النفوذ والهيمنة الفرنسية. ولعل نجاح هذا الدّور يتوقف على الاستجابة الجزائرية لهذه التحركات وهو ما تتفهمه الإدارة الأمريكية التي بدأت تُعيد تقييم علاقاتها مع الجزائر على أساس مزيد من الدور التعاوني والتنسيقي الأمني والاقتصادي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى