
كيف تحولت مكافحة الفساد إلى “واقع” بعد ثورة 30 يونيو
ينتشر الفساد كظاهرة وبأنماطه المختلفة في جميع دول العالم وإن كان بدرجات متفاوتة، من حيث درجة الخطورة التي يخلفها على الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وحسب موقع الأمم المتحدة تصل قيمة الرشي كل عام إلى تريليون دولار، فيما تصل قيمة المبالغ المهدرة نتيجة عن ممارسات فاسدة إلى ما يزيد عن تريليونين ونصف تريليون دولار. وهذا المبلغ يساوي 5% من الناتج المحلي العالمي أما في البلدان النامية تقدر قيمة الفاقد بسبب الفساد بعشرة أضعاف إجمالي مبالغ المساعدة الإنمائية المقدمة.
وانطلاقًا من الآثار السلبية التي يخلفها تفشي الفساد سعت الأمم المتحدة لوضع اتفاقية دولية لمكافحته بالتعاون مع الأنظمة الوطنية والمؤسسات الدولية حيث تم إقرار الاتفاقية في عام 2003 وانضمت لها العديد من الدول من ضمنها مصر. حيث تؤمن مصر بأن القضاء على الفساد هو المفتاح السحري لزيادة تدفق الاستثمارات ونجاح منظومة الإصلاح الاقتصادي.
الدستور المعدل لعام 2014
كانت الانطلاقة الأبرز فيما تضمنه الدستور المصري بعد تعديله في عام 2014 في أعقاب ثورة يونيو حيث تضمن الدستور المعدل فصلاً للهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من المادة 215 حتى المادة 221. بينما ألزمت المادة 218 الدولة بمكافحة الفساد من خلال هيئاتها وأجهزتها الرقابية المختصة.
ويتسم القانون المصري في مكافحة الفساد بالشمولية فهو يغطي جميع الأفعال الإجرامية بمقتضى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي ترتكز على حماية المال العام من الفساد ورصد تعقب الأموال المتحصلة من الأفعال الإجرامية . وذلك من خلال أجهزة رقابية تشمل الجهاز المركزي للمحاسبات ،أجهزة ووحدات وزارة المالية، الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة هيئة النيابة الإدارية إدارة الكسب غير المشـروع، الإدارة العامة لمكافحة جرائم الأموال العامـــة ( وزارة الداخلية)، وحدة مكافحة غسل الأموال ،الهيئة المصرية العامة للرقابة المالية غير المصرفية واللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الفساد برئاسة السيد رئيس مجلس الوزراء وكذلك اللجنة الوطنية الفرعية التنسيقية لمكافحة الفساد برئاسة السيد الوزير رئيس هيئة الرقابة الإدارية.
مجهودات الرقابة الإدارية
لاشك أن جهود الرقابة الإدارية في مكافحة الفساد لفتت الأنظار إلى الخطوات الحقيقية والجادة التي تتخذها الدولة في هذا المجال وشملت واقعات الفساد التي كشفت عنها الرقابة الإدارية العديد من المسئولين ومن أبرزها كشف قضية كبرى للرشوة تورط فيها واحد من أهم المسئولين الماليين في مصر، وهو رئيس مصلحة الضرائب، الذي ضبط متلبسا في قضية رشوة بنحو 18 مليون جنيه، وسبقها قضية لتهريب الأدوية المدعمة لعدد من الأمراض مثل السرطان والسكر والضغط والكبد لإحدى الدول العربية، رغم أنها مهمة هيئة الرقابة والبحوث الدوائية. كما كشفت الرقابة الإدارية عن قضية اختلاس وتهريب أمول بحوالي مليار دولار إلى الخارج على مدى 7 سنوات من خلال مسئولي إحدى شركات البترول رغم مراقبة الجهاز المركزي على هذه الجهات وليس المقصود هنا هو تقصير الجهات الرقابية الأخرى ولكن المقصود هو توحيد الجهود بين الجهات الرقابية المختلفة .كما أن إلقاء القبض على وزير الزراعة، وآخرين أعاد قضية مكافحة الفساد إلى صدارة المشهد ، وأدى إلى ازدياد الوعي حول حجم الأموال التي يهدرها الفساد سنويًا والتي تقدر بـ800 مليار جنيه وأن حالات التعدي على أراضي الدولة تهدر 214 مليار جنيه سنويًا.
وانعكاسًا لتلك الجهود تمكنت هيئة الرقابة الإدارية وفي الربع الأول من عام 2019 من ضبط 412 قضية جنائية متنوعة بين الرشوة والاختلاس وتسهيل الاستيلاء على المال العام واتخاذ الإجراءات القانونية تجاه 1433 موظفًا علاوة على سد الثغرات القانونية وإجراء التحريات اللازمة عن 4584 موظفًا من المرشحين لشغل وظائف قيادية . كما تمكنت هيئة الرقابة الإدارية من تحقيق عوائد لخزينة الدولة بلغت 2,4 مليار جنيه تقريبًا نتيجة كشفها عن المخالفات في المجالات المختلفة .
كما بذلت الرقابة الإدارية جهودًا تعلقت بالتعاون مع بعض الوزارات لتنفيذ مشاريع من أهمها مشروع البنية المعلوماتية للدولة المصرية، وميكنة الخدمات الحكومية، وتطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل الجديدة.
وعلاوة على ذلك تم التعاون مع اللجنة الوطنية للحوكمة للتوافق على الصياغة النهائية للتقرير الخاص بمتابعة استراتيجية مكافحة الفساد المنوط بها إعداده، كما تم إطلاق مؤشر منع ومكافحة الفساد الإداري بمصر عقب تعديل منهجية المؤشر بشكل كامل بالتعاون مع مركز معلومات ودعم واتخاذ القرار لمجلس الوزراء.
الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد
على طريق مكافحة الفساد بعد ثورة الثلاثين من يونيو تم الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في ديسمبر من عام 2014 والتي تؤكد رؤيتها على أن يكون هناك مجتمع يكافح الفساد، ويستعيد ثقافة العدل والشفافية، والنزاهة، والولاء، بدعم من أجهزة إدارية فعالة. فضلًا عن رفع قدرات أجهزة مكافحة الفساد، والتعاون مع جميع الجهات المعنية المحلية والإقليمية والدولية في مكافحة الجرائم المتعلقة به، مع مراعاة المعايير الدولية، وأفضل الممارسات.
وبحق فقد عد عام 2019 انطلاقة ناجحة للمرحلة الثانية للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، تزامنا مع اليوم العالمي لمكافحة الفساد الذي يحييه العالم في 9 ديسمبر من كل عام وذلك من مدينة شرم الشيخ. حيث ترتكز الاستراتيجية في جانبها الأساسي على إدراك مجتمعي وشفافية تمارس من قبل الأجهزة الإدارية وذلك من خلال عدد من الأهداف والإجراءات التنفيذية والتعاون مع الجهات المحلية والإقليمية والدولية في إطار تنفيذ رؤية مصر 2030. وشملت المرحلة الأولى عددًا من المحاور منها ما يتعلق بإصدار القوانين واللوائح التي من شأنها مكافحة الفساد و ومنها ما يتعلق بتمكين الجهات الرقابية والقضائية القائمة على إنفاذ الاستراتيجية.
تفادي أوجه القصور
كانت المرحلة الثانية من الاستراتيجية أكثر تطورًا حيث اعتمدت على تفادي الأخطاء التي ظهرت في المرحلة الأولى من الاستراتيجية. وقد انتهت اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الفساد من وضع المرحلة الثانية للاستراتيجية في الفترة من 2019-2022، والتي تضمنت 9 أهداف رئيسية تمثلت في (إنشاء هيئة إدارية فعالة- توفير خدمات عامة عالية الجودة- تفعيل آليات الشفافية والنزاهة في الوحدات الحكومية- تطوير الهيكل التشريعي لدعم مكافحة الفساد – تحديث الإجراءات القضائية من أجل تحقيق العدالة الفورية – تقديم الدعم لوكالات إنفاذ القانون لمنع الفساد ومحاربته- زيادة وعى المجتمعات المحلية بأهمية منع الفساد ومكافحته – تنشيط التعاون الدولي والإقليمي في مجال منع الفساد ومكافحته – مشاركة منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص في منع الفساد .
واستندت استراتيجية مكافحة الفساد في مرحلتها الثانية إلى عدة مبادئ منها مبدأ سيادة القانون والفصل بين سلطات الدولة، الالتزام والإرادة السياسية وهذا يشمل السلطات الثلاث في الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية والتي تعي أهمية وجود مجتمع خال من الفساد وتعمل مع بعضها البعض من أجل ضمان تنفيذ المرحلة الثانية من الاستراتيجية.
وكذلك الالتزام الكامل بالتعاون والتنسيق بين كافة الاطراف المعنية الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني بما يضمن وحدة وتجانس تنفيذ سياسات مكافحة الفساد. كما تم التركيز على مبدأ الحوكمة الذي يتعين علي الحكومة تطبيقه في اتباع مبادئ الشفافية والنزاهة والكفاءة والفاعلية والمساءلة والمحاسبة ووضع إجراءات واضحة وفعالة لتحقيق أهداف راسخة تتسم بالقدرة والمرونة على الاستجابة إلى الاحتياجات الاجتماعية و مبدأ المساءلة الذي بمقتضاه تكون سلطات الدولة مسئولة عن القيام بواجباتها في تنفيذ الاستراتيجية والخطة التنفيذية وضمان فعاليتها. إضافة إلى الوقاية والتدخل المبكر الذي بموجبه يمكن تقليص فرص وقوع الفساد والقضاء عليه في الوقت المناسب. وأخيرًا الرصد والتقييم المستمريْن لجهود المكافحة بهدف حصر أوجه القصور ووضع الإجراءات الملائمة لتلافيها في الوقت المناسب واتخاذ التدابير اللازمة لتداركها.
وأشادت الأمم المتحدة بالجهد المصري المبذول في هذا الشأن حيث أدرجت الاستراتيجية الوطنية كإحدى أهم الممارسات الناجحة لمصر في مجال الوقاية من الفساد ومكافحته، وعلي الرغم من النجاح الذي تحقق من جراء تطبيق الاستراتيجية الأولي إلا أن مصر أكدت التزامها بمواصلة الجهود من أجل الوصول إلي درجات أفضل في مجال الوقاية من الفساد ومستويات أعلي من النزاهة والشفافية.
الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد
تلى الخطوة الخاصة باستراتيجية مكافحة الفساد بمرحلتيها إنشاء الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد في 2018 وتقديم 250 منحة تدريبية للكوادر الأفريقية كما تم بالتنسيق والتعاون مع هيئة تدريب القوات المسلحة، تدريب 357 ضابطا من الضباط الأفارقة على التعريف بالفساد وسبل الوقاية منه. إضافة إلى 288 برنامجا تدريبيا وتدريب نحو 9 آلاف متخصص من مختلف القطاعات التابعة للدولة.
وبذلت الدولة المصرية جهودًا حقيقية لمكافحة الفساد بعد30 يونيو واتخذت خطوات فعلية تمثلت في تفعيل الأجهزة الرقابية المتواجدة بالفعل وتمكينها بحيث يكون لها اليد الطولى في مكافحة الفساد، ثم إطلاق استراتيجية مكافحة الفساد بمرحلتيها الأولى الثانية إضافة إلى إنشاء الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد منذ عامين للإدراك النافذ بأن الفساد يعرقل مسيرة التنمية ويعطل الاستثمار وإيمانًا من القيادة السياسية بأن رؤية مصر 2030 لا يمكن تحقيقها إلا بالقضاء التدريجي على الفساد.
باحث أول بالمرصد المصري



