دول المغرب العربي

الاقتصاد التونسي تحت وطأة حركة النهضة

تعيش الجمهورية التونسية حالة من السيولة السياسية المُستمرة مُنذ ثورة الرابع عشر من يناير 2011، وذلك في ظل ضغوط سياسية قصوى مُتبادلة بين التيار المدني التونسي والتيار الديني المُتمثل في حركة النهضة الذراع السياسي للتنظيم الدولي للإخوان في البلاد. الأمر الذي أفرز مجلسا نيابيا في عام 2019، تتمتع فيه حركة النهضة بأكثرية 54 من إجمالي 217 مقعدا، تليها قائمة قلب تونس بـ 38 مقعدا نيابيا، مما لم يسمح إلا بتشكيل حكومة ائتلافية غير مُستقرة بين عدد من القوى النيابية برئاسة إلياس الفخفاخ، من بين أهم أركانها حركة النهضة بعدد 7 حقائب من إجمالي 29 حقيبة وزارية، وذلك بعد فشل ذات القوى في الاتفاق على تشكيل حكومة سابقة برئاسة الحبيب الجملي خلال يناير من العام الجاري.

زاد هذا الوضع تعقيدا محاولات راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان التونسي، القفز على مهام رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وذلك عبر إجرائه لقاءات دبلوماسية مع العديد من مُمثلي القوى الإخوانية في العالم من أمثال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية، في ظل أولًا: عدم تخويل الدستور التونسي له القيام بمثل تلك اللقاءات وجعله مُهمة إدارة السياسة الخارجية من أصيل اختصاص رئيس الحكومة، وثانيًا ما أسفرت عنه هذه اللقاءات من الزج بتونس في مُستنقع الأزمة الليبية وإخراجها من حالة حيادها وصفها مع المحور الإخواني. وهو ما يدفع بتونس إلى عتبة صراع دولي برزت أهم مظاهره في تحويل البلاد إلى معبر للمُرتزقة السوريين الذين تُرسلهم تُركيا إلى ليبيا، وإعلان القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) تحريك قوة تابعة لها إلى الأراضي التونسية بهدف كبح جماح التمدد الروسي في الإقليم. 

وانعكست حالة الفوضى السياسية العارمة في البلاد على أدائها الاقتصادي، في ظل تردي عام بسبب تفشي جائحة كورونا وانعدام التدفقات الدولارية من السياحة، والتي يعتمد عليها الاقتصاد التونسي بشكل أساسي، وقد تجلى هذا التردي العام في انخفاض سعر صرف الدينار التونسي أمام الدولار بنسبة 16% مُنذ يناير 2018 بعد أن انخفض من مستوى 2.42 إلى 2.84 دينار للدولار الواحد في مطلع يونيو الجاري، حيث يُمثل انخفاض سعر الصرف عرض لعدة أمراض تضرب أساسات البنية الاقتصادية التونسية، تبدأ من عجز الموازنة العامة الهيكلي المُستمر والذي بلغ في العام 2019 ما إجماليه 4.5 مليار دينار تونسي (1.58 مليار دولار)، فيما كان قد بلغ عام 2010 عند إزاحة نظام بن علي 650 مليون دينار تونسي فقط (228.6 مليون دولار)، ويُصاحب عجز الموازنة عجز آخر في الميزان التجاري بلغ في عام 2019 ما يزيد عن 6 مليارات دولار،  وقد راكمت هذه العجوزات المتزايدة ما يُعادل إجماليه 29.1 مليار دولار من الدين العام بنهاية عام 2019، بعدما كان قد توقف عند مستوى 9 مليار دولار بنهاية 2010.

ولا تُبشر الحالة العامة للاقتصاد التونسي بانفراجة لهذه الأزمة وذلك في ظل مُعدلات النمو المُتدنية التي ظلت عند مستويات أقل من 3% مُنذ عام 2014، والاتجاه إلى مُعدلات سالبة خلال عام 2020 في ظل أزمة كورونا والتي يتوقع صندوق النقد لها أن تنخفض إلى مستوى -4.3%، وهو ما انعكس بالطبيعة على مُعدلات البطالة والتي بلغت مستوى 15%، فيما ارتفعت بين الشباب لأعلى من 30% بنهاية عام 2019، وما يُعمق من الأزمة انخفاض مُعدلات الاستثمار الأجنبي المُباشر لتصل إلى 840 مليون دولار فقط في عام 2019، وانخفاض مُعدلات الاستثمار المحلي بسبب ارتفاع نسب الفائدة لنحو 6.75% بعدما كانت قد بلغت مستوى 4.75% خلال عام 2015.

 أسفر هذا التردي العام في هياكل الاقتصاد التونسي إلى عدم وجود مفرٍ من الأزمة الطاحنة التي يُعانيها في العموم وخاصة مع تفشي فيروس كورونا إلى لجوء السلطات إلى صندوق النقد الدولي كملاذ أخير، حيث وافق الصندوق على إقراضها نحو 750 مليون دولار كُمساعدة عاجلة للتغلب على مصاعبها الاقتصادية، لكن ذلك لن يكون مخرج للأزمة التي ستستمر في التفاقم طالما لم يوجد استقرار سياسي يُفرز حكومة قوية تتبني برنامج عمل اقتصادي موسع يُعدل المُعضلات الهيكلية لاقتصاد البلاد.

ودفع ما تشهده تونس من تردي الأحوال الاقتصادية على إثر التخبط الناتج عن التنازع السياسي التونسيين إلى إعادة مُراجعة أولوياتهم وقائمة مطالبهم من الدولة، فبعدما تحولت المُظاهرات العارمة التي خلعت بن علي من المُطالبة بتحسين الأحوال المعيشية إلى مُطالبات بإطلاق الحُريات السياسية بعد رحيله، عادت هذه الأولى لتتخذ طريقها على رأس أولويات المواطن التونسي من جديد بعدما وجد نفسه في حلقة مُفرغة، لا تستطيع العملية السياسية غير الناضجة التي تجري في البلاد إخراجه منها، وهو ما اثبتته عدة استطلاعات لرأي المواطنين أجريت من قبل مُنظمات دولية ومحلية خلال الأعوام من 2017 وحتى العام الجاري، حيث كشفت هذه الاستطلاعات عن تدني ثقة المواطن التونسي في الأحزاب السياسية بصفة عامة وانحدرت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مُنذ الثورة التونسية في العام 2018 إلى مستوى 28% فقط. كذلك كشف استطلاع للرأي أجرته مُنظمة ” سيغما كونساي” التونسية عن إن 63% من التونسيين غير راضيين عن طريقة تسيير البلاد، كما اعتبر ما نسبته 58% إلى 63% من المواطنين الذين اسُتطلعت آرائهم أن البلاد تسيير في طريق خاطئ.

وتكشف هذه المؤشرات السياسية والاقتصادية أمامنا مدى التأثير المُدمر للقوى غير الوطنية ذات الارتباطات الخارجية، والتي تعمل على استغلال سُلطاتها في البلاد لخدمة أجندات خارجية دونما نظر أو اعتبار للمصالح الوطنية، ولعل حركة النهضة التونسية التي تعمل الآن لخدمة الأجندة التُركية، بالانخراط في صراع خارجي نشط داخل الأراضي الليبية، في ظل وقت أحوج ما هي الدولة التونسية فيه إلى الانكفاء على ذاتها وداخلها لمُعالجة مشاكلها الاقتصادية المُتراكمة، تضرب لنا مثالا ُيذكرنا بنموذج دولة حزب الله داخل الدولة اللبنانية الذي أقحمها رغمًا عنها في صراع سوري لا ناقة لبنان فيه ولا جمل، ما راكم مُشكلات تدريجية انتهت بلبنان إلى التوقف عن سداد ديونه خلال العام الجاري، ويا لها من نهاية شديدة القتامة لا تستحقها تونس الخضراء، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى