الصحافة الدولية

تركيا في مؤتمر برلين … توجيه أم تعطيل الحل السياسي

تلعب أنقرة دورًا بالغ الخطورة والتأثير على مسارات الحل السياسي للأزمة الليبية، ورغم محاولاتها جاهدةً لإضفاء صورة الساعي لتمكين المسارات السياسية لحل الصراع، وأنها تعارض توظيف الأداة العسكرية والأمنية لإنهاء المرحلة العصيبة التي تعانيها ليبيا، إلا أن التحركات التركية الأخيرة لإستباق مؤتمر برلين، وإيجاد منفذ وموطئ قدم لتواجدها داخل الصراع المحتدم، تكشف أن سياسة العدالة والتنمية وتركيا تحت قيادة أردوغان هي نمط معقد من التدخلات المقوضة لأمن الإقليم، والتي ستعمل على توجيه أوتعطيل كافة المسارات السياسية الساعية لحل شامل للازمة؛ حرصًا على أن تظل مصالحها والجماعات والتنظيمات الموالية لها هي المتصدرة للمشهد، وحجر الزاوية الذي لا مساس به كونه الوكيل القادر على حماية مصالحها وأطماعها بالدولة المأزومة.

Image result for ‫أردوغان ليبيا‬‎

ويتناول التقرير الخطوات التركية التي تسبق مؤتمر برلين، من حيث طبيعتها ودوافعها وتطوراتها، كذلك أوراق الضغط الذي تسعى الى توظيفها في وجه التسويات التي ستجري الأحد 19يناير 2020، بالمؤتمر لضمان الخروج بنتائج تحقق حماية أجندتها في ليبيا، وكيف يمكن أن يكون الدور التركي معطلًا للتسوية السياسية عبر بوابة برلين إذا ما اتجه المشاركون الى تبني مخرجات للحل لا ترى أنقرة فيها اتساقًا وأطماعها وطموحاتها لتوظيف الصراع الليبي خلال القادم القريب لخدمة مشروع “العثمانيون الجدد” الذي أضحى جليًا المشروع الأول لأردوغان ونظام العدالة والتنمية.

أنقرة وتحركات ما قبل مؤتمر برلين

تتواصل التحركات التركية لتأمين مصالحها وحلفاؤها بالداخل الليبي منذ تشكل حالة توافق، لدى العديد من الدول المنخرطة بالأزمة الليبية، للمشاركة في مؤتمر دولي لإعادة إحياء المسار السياسي المعطل منذ فشل جهود عقد المؤتمر الوطني الجامع بالعام 2019، واستمرار العمليات العسكرية وتقدم الجيش الوطني للسيطرة على العديد من المواقع الاستراتيجية وطرد الحشد الميليشياوي منها. واتخذت التحركات التركية عدة أنماط، ويمكن تناولها كما يلي:

  • التشبيك السياسي: وسعت أنقرة عبر تلك الخطوات إلى استحواذ سند قانوني يعزز من موقفها الداعم لحكومة الوفاق بطرابلس، ويضفي شرعية على تحركاتها ووجودها لميداني بمناطق الصراع. وسارعت تركيا لتوقيع اتفاقيتي تعاون مع رئيس الوفاق “فائز السراج” وعدد من المسئولين العسكريين والأمنيين التابعين له، وشملت الاتفاقيات توجيه دعم عسكري تدريبي وتسليحي لقوات الوفاق، وهو ما اقترن باتفاق بحري آخر أثار ردود فعل معارضة لانتهاك الوفاق وأنقرة لضوابط القانون الدولي وقانون البحار وحقوق دول الجوار في ثروات مياههم الاقتصادية شرق المتوسط. 
Image result for ‫أردوغان ليبيا‬‎

وفي السياق ذاته، حاولت تركيا انتزاع صيغة اتفاق ملزم للأطراف الليبية، تحت صيغة اتفاق الهدنة ووقف إطلاق النار في موسكو، وهو ما لم يتحقق بعد رفض الجيش الوطني التوقيع على الاتفاق؛ كونه يمنح أنقرة صيغة للتدخل والوجود بالأراضي الليبية كلجان لمراقبة وقف إطلاق النار، ولا يتضمن أية أطر زمنية لحل المليشيات ونزع سلاحها، وبالتالي تظل العاصمة طرابلس رهينة لتلك المليشيات التي ستكون القوات التركية متواجدة لدعمها وتغطية أنشطتها وانتهاكاتها.

  • الدعم العسكري: ويرتبط هذا المحور بما قامت تركيا برعايته من برامج لنقل عناصر المعارضة السورية المسلحة والمرتزقة وعناصر التنظيمات الإرهابية وغيرهم من المتواجدين بميدان الصراع السوري وتوجيههم الى الميدان الليبي للمشاركة الى جانب كتائب حكومة المجلس الرئاسي. كذلك وجهت أنقرة دعمًا تسليحيًا لحكومة الوفاق لتعويض الخسائر التي تكبدتها في المواجهات الأخيرة، وكشف المتحدث باسم القيادة العامة للجيش أن قوات السراج قد نصبت منظومات دفاع جوى تحصلت مؤخرًا عليها من الجانب التركي بمطار معتيقية بالعاصمة طرابلس، وهو ما يكشف أن النظام التركي قد استثمر الهدنة ووقف تقدم الجيش الوطني تجاه مصراته والعاصمة لإعادة تنظيم وتدعيم المجموعات المنتسبة لحكومة الوفاق، عبر جسر بالمرتزقة والسلاح والخبراء العسكريين.

وتتعدد دوافع أنقرة للخطوات سابقة الذكر، حيث يظل حفظ بقاء حكومة الوفاق الوطني والمجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة -ككيانات شرعية تدير المشهد- أولوية كبرى؛ إذ تمثل الضمانة لاستمرار تطبيق الاتفاقيات الأمنية والبحرية التي تم توقيعها بين الطرفان، والتي لا تجد أي قبولًا بالداخل الليبي أو بالمحيط الإقليمي، وتستشعر أنقرة أن السلطة الليبية القادمة ستعلن رفضها لها وإنهاء العمل بها. كما ترغب أنقرة في أن تظل ليبيا ساحة بديلة لاستقبال المجموعات المسلحة والمرتزقة الموالين لها بسوريا، وغيرهم من عناصر التنظيمات الإرهابية التي ترعاها؛ إذ أنها تعي أن التقارب مع روسيا الحليف الوثيق للنظام السوري سيستلزم عاجلاً أو آجلاً إنهاء وجودهم من سوريا وبالتالي تبقى ليبيا موقع هام لاحتوائهم واستقبالهم الى حين.

Image result for ‫أردوغان ليبيا‬‎

وتتسع تلك الدوافع التركية لتشمل أن تظل ليبيا مدخلاً لتمكين الإسلام السياسي، وإعادة انتاج نظام إقليمي جديد يكون حاضنة للأدوات التي جرى توظيفها للسيطرة على المجتمعات العربية، وبالتالي تمكين الإخوان المسلمين من استعادة السلطة في ليبيا، والتمهيد لإعادة تحقيق مشروع “العثمانية الجديدة” بالمنطقة. بالإضافة الى تعطيل المشروعات الإقليمية الجارية لتدشين بنية تحتية لاستثمار اكتشافات الغاز شرق المتوسط، عبر قطع الطريق على مرور خطوط نقل الغاز الى أوروبا وانتهاك سيادة عدد من الدول على مياهها الاقتصادية، فضلاً عن ابتزاز الدول الأوروبية لجني مزيد من الدعم المادي والتأييد مقابل إحتواء موجات اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، وكف خطر التنظيمات الإرهابية عن ممارسة أنشطة أكبر بالساحة الأوروبية.

تركيا جزء من المشكلة وليس الحل

تؤكد المعطيات السابقة دخول أنقرة الى جلسات برلين محملةً بحزمة من الأهداف والمصالح التي تتوجس عليها، وستسعى دون شك لضمانة أن تشمل مُخرجات المؤتمر تمكين حكومة الوفاق بالترتيبات السياسية القادمة وعدم الاجتزاء من صلاحياتها أو المساس بهيكلها وتكوينها. وحيث تتضمن خطة البعثة الأممية ومسودة المؤتمر العديد من البنود الرامية لإعادة هيكلة المؤسسات السياسية والاجسام المنبثقة عن اتفاق الصخيرات في 2015، فإن الدور التركي سيكون مُركزًا على خيارين إما توجيه دفة المُخرجات لتصبح الوفاق والمجلس الرئاسي وباقي الاجسام السياسية الليبية الموالية لها باقية، أو تعطيل مسارات الحوار الدولي عبر تصدير جملة من التحديات وإفراغ الحوار من جوهرة القائم على إيجاد حلول منضبطة للأزمة. ويمكن تناول مسارات الدور التركي المُرجحة كما يلي:

  • توجيه الحوار نحو حماية المصالح التركية: تتصل تلك الالية بما أعلنه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في خطابه المنشور بمجلة بوليتيكو الأمريكي، حول أن المساس بوجود حكومة الوفاق هو خيانة أوروبية لها، وانه سيصدر للقارة العجوز جملة من التحديات كتنامي ظاهرة الإرهاب من القاعدة وداعش، وتفاقم أزمة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين. وهي واحدة من التهديدات المبطنة للدول الأوروبية التي قد لا تمانع في تطبيق حلول تشمل هيكلة حكومة الوفاق من جديد، وتضع الحكومة القادمة أمام شرطية نيل ثقة البرلمان الليبي، وتعديل المجلس الرئاسي وفصل رئاسته عن رئاسة الوزراء. فضلاً عن إيجاد مظلة دولية لضبط تدفق السلاح ونقل العناصر المقاتلة الى ليبيا. وقد سعت تركيا لتوسيع دائرة الدول الداعمة لها عبر التأكيد على أهمية دعوة قطر للمؤتمر، وكذلك تونس، إلا أن غياب الأطراف القريبة من العدالة والتنمية قلص من فرصها في توجيه مخرجات برلين لصالحها.
Image result for ‫أردوغان ليبيا‬‎

  • تعطيل مسارات الحل السياسي: يرتبط ذلك الاتجاه بوجود اتجاه ذو أغلبية داخل الأطراف المشاركة لتطبيق البنود الخلافية والتي تمس بمصالح أنقرة، وبالتالي ستلجأ إلى الإيعاز لحكومة الوفاق بالانسحاب من المفاوضات أو تعليق أعمالها بالمؤتمر لحين قبول شروطها، وخلال تلك الفترة الوجيزة يمكن أن تمارس قوات الوفاق عمليات نوعية ضد أهداف للجيش الوطني الليبي؛ لتقويض وإسقاط الهدنة بمحاور القتال حول العاصمة طرابلس، وجر القوات المسلحة العربية الليبية لاستكمال عملياتها، وتتذرع أنقرة وحكومة الوفاق بأن حسم الاتفاق السياسي لا يستقيم مع تفعيل العمليات العسكرية، ويتم إيقاف عملية التفاوض. أو عدم توقيع الوفاق على الصيغة النهائية للمؤتمر، وتحجج تركيا بأنه لا يشمل حل فعال، ويظل الوضع معلقًا حتى يتم إفراغ الاتفاق من بنود أساسية كإطار زمني لحل المليشيات، وبعد انتهاء المؤتمر يتم توجيه الوفاق لإثارة قضايا خلافية غير محسومة وتعطيل تطبيق الاتفاقات النهائية.

مجمل القول، 

مؤتمر برلين والمشاركين به على وعي بحجم وخطورة السلوك التركي، ومشروعه الرامي لاشتمالها ضمن استراتيجية “العثمانيون الجدد”، وبقدر ما يمثله التحرك التركي من خطورة فإن وجود محور دولي متزن وغير طامع في ليبيا تشكله (مصر والامارات وفرنسا وألمانيا والجزائر)، فهناك ثقل كبير في تحركات تلك الدول في تعزيز أمن واستقرار ليبيا دون أطماع ذاتية، وكلها عوامل تُرجح أنه رغم الضغوط التركية على سير حوارات المؤتمر، إلا أن الكفة الراجحة -حال عدم انحياز القوى الكبرى- ستكون لصالح المشروع الوطني الليبي، وسينجح المؤتمر في إعادة وضع قواعد سياسية فعالة لحل الصراع المشتعل لأكثر من تسع سنوات، والدخول في مرحلة انتقالية جديدة قد تصبح الأخيرة قبيل عودة كيان الدولة الوطنية الليبية للتعافي.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى