ليبيا

خريطة الاحتجاجات الليبية.. الملامح والسياقات

شهدت أغلب المدن الليبية مظاهرات ومسيرات احتجاجية عدة انطلقت في الأول من يوليو الجاري تزامنًا مع الدعوات التي أطلقها تيار “بالتريس” الشبابي للتظاهر بالعاصمة طرابلس ضد الأوضاع السياسية والمعيشية المتردية، فيما أُطلق عليه “جمعة صرخة الشباب”. وقد عكست المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية تجذر حالة الانقسام السياسي وتردي الأوضاع الأمنية والخدمية بكافة قطاعات ومناطق الدولة على اختلافها، وهو ما ظهر مع خروج الاحتجاجات في كل منطقة أو مدينة حاملةً لمطالب أو نداءات سياسية غير متسقة مع بعضها البعض.

احتجاجات عامة

المنطقة الغربية: صدرت أول دعوة منظمة للتظاهر عبر “تيار بالتريس الشبابي”، وتضمنت انطلاق مسيرات بالعاصمة “طرابلس”؛ للمطالبة بالتعجيل بالانتخابات وتفويض المجلس الأعلى للقضاء أو الرئاسي لحل كل الأجسام السياسية وإعلان حالة الطوارئ، بالإضافة إلى حل أزمة الكهرباء والدعم، وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة. ووجدت الدعوة تفاعلًا كبيرًا بين الشباب، رغم التحذيرات المضادة للتظاهر من المجموعات المسلحة كـ “قوة دعم الانتخابات والدستور” التابعة لوزارة الدفاع برئاسة “الدبيبة”، وخرجت المظاهرات بالعاصمة أمام ساحة فندق “بركيدجو” الكبير ووصلت ميدان الشهداء.

وتظاهرت مجموعات أخرى أمام مقر حكومة الوحدة بطريق السكة، قبل أن يتدخل مسلحون موالون للدبيبة ويفضوا التظاهرة عبر إطلاق النار على المجتمعين. وقطع محتجون الطريق الساحلي والطرق الرئيسة في العاصمة، وأشعلوا النيران بالإطارات. وشهدت مدن رئيسة أخرى بالمنطقة الغربية مظاهرات ومظاهر احتجاجية كبرى، وفي مُقدمتها “مصراتة” التي تجمع المحتجون أمام مقر بلديتها، ثم قاموا بإغلاق المبنى بالسواتر الترابية.

وخرجت مسيرات في مدينة “الزاوية” متجهة إلى ميدان الشهداء، وأضرم المحتجون النيران بالإطارات وأغلقوا الطريق الساحلي الرابط مع العاصمة. فيما أضرم محتجون النار أمام المجلس البلدي في مدينة “بني وليد”، وطالب أهالي المدينة وقبائل ورفلة بإسقاط كافة الأجسام والحكومات وتفويض الأعلى للقضاء لاستلام زمام الأمور.

مدن الشرق: جاءت المظاهرات والاحتجاجات الليبية شرقًا مؤكدة على تعقيدات الحالة الليبية أيضًا، فبينما خرجت المسيرات بمدينة “طبرق” بالبداية منددةً بالأوضاع المعيشية المتردية، تحولت لاحقًا إلى التظاهر ضد مجلس النواب، ثم حاصر المحتجون مقر المجلس واقتحموه قبل إضرام النيران فيه. وكذلك خرج العشرات بالمدينة ذاتها حاملين رايات خضراء، في إشارة إلى تأييدهم للدكتور “سيف الإسلام القذافي”، ومعارضتهم للأجسام الحالية وما أدخلت البلاد فيه من أزمة. 

وشهدت مدن “بنغازي” و”البيضاء” و”شحات” مظاهرات موازية، ركزت في مُجملها على التنديد بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والاشكاليات التي يعانيها المواطنون، ويُلاحظ أن المسيرات في “بنغازي” رفعت شعارات مضادة للرئاسي وحكومة الوحدة و”سيف الإسلام القذافي”، وأكدت مطالبتها برحيل كافة الأجسام السياسية المعرقلة لتجاوز الأزمة، وهو ما رفعه المُتظاهرون أمام مقر المجلس البلدي “بنغازي” والدعوة إلى الانتخابات في أسرع وقت.

الجنوب الليبي: خرجت احتجاجات أخرى بالجنوب الليبي، كان أبرزها تلك المظاهرات التي شهدتها مدينة “سبها”، ورفعت شعارات منددة بسوء الأوضاع الاقتصادية والخدمية، وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة. وخرجت بعض المسيرات المؤيدة للدكتور “سيف الإسلام القذافي”، والمنددة بالأجسام السياسية والمُطالبة بإقصائها عن المشهد الليبي. وكانت السمة الرئيسة للاحتجاجات إشعال النار بالإطارات وإغلاق الطرق الرئيسة بالمدينة، بالإضافة إلى التجمع أمام المقار الحكومية، وأشعل المحتجون النيران بمبنى مراقبة الخدمات المالية بالمدينة، وجرى فض للمظاهرات التي تجمعت أمام مديرية أمن سبها ما خلف وقوع قتيلًا.

سياقات مُؤثرة

في ضوء المشهد الاحتجاجي الراهن، تجدر الإشارة إلى مجموعة من السياقات المؤثرة على نسق المظاهرات في كافة المناطق الليبية، والتي تتراوح تداعياتها بين تصاعد زخم الاحتجاجات أو تراجعه وتلاشيه، ومن أبرز تلك السياقات:

تنوع أهداف الاحتجاجات: حملت المظاهرات الليبية مجموعةً متنوعة من المطالب باختلاف المدينة أو المنطقة التي خرجت فيها؛ فبعضها يطالب بإقصاء كافة الشخصيات والكيانات القائمة عن السلطة، فيما يدين بعضها الحكومات والمجالس التشريعية فقط، بينما ينادي البعض الأخر بدعم شخصيات تم إقصاؤها بالترتيبات المُقبلة كونها تنتمي للنظام السابق. بل وحدثت تغيرات على هيكل مطالب الحراك الواحد، كما حدث حين أضاف “تيار بالتريس الشبابي” المجلس الأعلى للقضاء بإدارة المرحلة المقبلة، بعد أن كان هذا التفويض مقتصرًا على المجلس الرئاسي، وتحول التيار إلى المطالبة بإسقاط المجلس الرئاسي ذاته بعد فشل اجتماعه مع ممثلي التيار.

وهذا التنوع يضفي عناصر قوة للحراك ومكامن للضعف في ذات التوقيت؛ إذ يمنح هذا التنوع قابلية أكبر لتحريك المسيرات الاحتجاجية في مختلف المناطق بشكل متزامن، ما يضاعف الضغوط على القوى والكيانات السياسية للتعديل من سلوكها وإعادة النظر في مواقفها، أو حتى خروجها من المشهد المتأزم بسبب تناحرها وتنافسها على السلطة لسنوات طويلة. إلا أن هذا التنوع يهدد بتفريغ الحراك من مضمونه وعدم وجود هيكل محدد من المطالب يمكن الضغط من أجل تحقيقها؛ فسيقود تراجع المظاهرات بالمدن الرئيسة للحراك لانخفاض الزخم، وربما إتاحة الفرصة للمناورة السياسية عبر مطالب المحتجين.

تنامي محاولات توظيف الحراك: سعت كافة الأطراف والكيانات الليبية، لاسيما التي خرجت المظاهرات ضدها، إلى إظهار تضامنها مع مطالب الحراك والمحتجين؛ رغبة في تحويل دفة المظاهرات للضغط على خصومها والمتنافسين معها -المعلنين منهم وغير المعلنين- وتعزيز موقعها كمعبر عن تطلعات الشارع الليبي. وتلك المحاولات أفرزت أعمال تخريبية طالت بعض المواقع المهمة مثل ديوان مجلس النواب بمدينة “طبرق” شرقًا، بالإضافة إلى مقرات بعض بلديات المنطقة الغربية، والمباني الحكومية بالجنوب.

ويُحتمل أن تقود تلك المساعي إلى تحويل المظاهرات لنموذج من المناوشات السياسية التي اعتادت عليها القوى المتنافسة من فترة لأخرى، ما سيجعل الحراك مدخلًا لترسيخ الانقسام بين المناطق والمكونات الليبية المختلفة؛ إذ تلاحظ تصدير رسائل ودعوات سلبية حول دعوات التظاهر والأعمال التخريبية التي شهدتها بعض المدن دون غيرها، والتصريحات التي حملت شخصيات محسوبة على بعض الأجسام السياسية مسؤولية تلك الأعمال.

محدودية القدرة على التغيير: تظل إشكالية ترسخ سيطرة ونفوذ القوى التقليدية على المشهد الليبي ومقدرات الدولة ومؤسساتها عائقًا يحد من قدرة هكذا حراك شعبي على إحداث اختراق لتوازنات القوى والتفاهمات المتجذرة؛ فالشخصيات النافذة بالمؤسسات الليبية والتيارات والقوى المسيطرة على المناطق المختلفة بالإضافة إلى الميلشيات والمجموعات المسلحة المتحالفة مع كل منهم، تجعل من الصعوبة بمكان اختراق تلك الهياكل المصلحية من أجل إدخال تغييرات جذرية تقوض مصالحهم بشكل شامل.

وهي إشكالية بالغة التأثير على هيكل وفرص الحراك، فقد أثبتت الخبرة الليبية قدرة تلك الفواعل والأطراف على الوصول لتفاهمات مرحلية تمكنها من تجاوز أعنف التحديات التي واجهت تأثيرها ونفوذها بالسنوات العشر الماضية، ومظاهرات “1يوليو 2022” -في ظل المشهد الراهن- أقل قدرةً على التأثير بمسار الأحداث مقارنةً بما عايشته تلك الأطراف بالماضي، ولكن التوظيف المتبادل للمظاهرات والاحتجاجات بين تلك الأطراف قد يمنحها زخمًا مضاعفًا يمكنها من اختراق الهيكل التقليدي السائد للصراع، ويجعلها متغيرًا يفرض نفسه بقوة على معادلة وتفاعلات الأزمة الليبية.

وإجمالًا، تُعد الاحتجاجات والمظاهرات الليبية “1 يوليو2022” دليلًا إضافيًا على انفصال الكيانات والمؤسسات المستحوذة على السلطة عن دورها الانتقالي التسييري -الذي تشكلت لأدائه- وهو ما يهدد بانهيار جهود التسوية حال استمرار الانسداد السياسي، والتراجع الاقتصادي والخدماتي، وتمسك كل كيان بموقعه دون سعي جاد إلى حلحلة الأزمة، ما يجعل ليبيا حالة مستعصية على الحل ومفتوحة على الاحتمالات المهددة باشتعال جولات اقتتال ومواجهات جديدة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى