ليبيا

ماذا بعد إعادة تفعيل الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في ليبيا؟

أعلن رئيس المحكمة العليا الليبية، المستشار محمد الحافي، إعادة تفعيل الدائرة الدستورية بالمحكمة؛ للنظر في الدعاوى والفصل بالطعون المُقدمة إليها بعد سنوات من إغلاقها. وتباينت ردود فعل الأطراف الليبية حول هذا القرار بين مؤيد ومتحفظ ومعارض، ما يطرح جُملة من التساؤلات حول تأثيرات تلك الخطوة على مستقبل الأزمة المتصاعدة منذ عام 2011.

بين التعطيل والتفعيل

مثّل إغلاق الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا لنحو 7 سنوات أحد فصول الأزمة العاصفة بهياكل السلطة في ليبيا؛ إذ لم تنقطع تأثيرات مساعي تسييس وتوظيف أعمال السلطة القضائية بمجريات الصراع على السلطة والنفوذ طوال العقد الماضي، ونستعرض تاليًا التطورات التي قادت إلى تعطيل الدائرة بالسابق ودوافع إعادة تفعيلها في الوقت الراهن.

حفز قرار الدائرة الدستورية بـ “عدم دستورية الفقرة (11) من المادة (30) من الإعلان الدستوري المعدلة بموجب التعديل الدستوري السابع الصادر بتاريخ 11 مارس 2014 وكافة الآثار المترتبة عنه”، ما يعني حل مجلس النواب وكل المؤسسات المنبثقة عنه في نوفمبر 2014، جولة الصراع على السلطة بين المجلس المنتخب والمؤتمر الوطني منتهي الولاية. وحينما صدر هذا القرار بالعاصمة طرابلس، كانت التحشيدات السياسية والعسكرية في ذروتها، واستشعرت أطراف الأزمة خطورة تسييس قرارات السلطة القضائية وجرها إلى دوامة الانقسام، لاسيما بعد صدور قرار ببطلان قرار الدائرة من محكمة أخرى بمدينة البيضاء شرق البلاد في فبراير 2015، ثم أعقب ذلك قرار المحكمة العليا تعطيل الدائرة الدستورية.

واستمرت مساعي توظيف إعادة تفعيل الدائرة الدستورية كورقة ضغط تتداولها الأطراف المتنافسة على السلطة لفرض إرادتها؛ ففي سبتمبر2021، نفى محمد الحافي ما نشر من تقارير حول اتفاقه ورئيس مجلس الدولة “خالد المشري” لإعادة تفعيل الدائرة للطعن على قانون رقم (1) لسنة 2021 بشأن انتخاب الرئيس، بعدما قُدم طعن بعدم دستورية القانون أمام الدائرة الدستورية، ثم أعلن الحافي أن هناك طلب استئناف عمل الدائرة الدستورية مقدم من عدة أطراف سيعرض على الجمعية العمومية للمحكمة العليا، قبل أن تقضي الأخيرة بتمديد إغلاق الدائرة مرة أخرى.

وفي أغسطس الجاري، صدر قرار المحكمة العليا بتفعيل الدائرة الدستورية، بعد (48) ساعة من اعتماد مجلس النواب لتعديلات بقانون السلطة القضائية، والتي شملت تسمية مستشاري المحكمة العليا عن طريق المجلس، وأن يكون حلف اليمين أمام البرلمان. وكشفت عدة تقارير عن كونها خطوة تأتي ردًا على رفض مجلس النواب لطلبات رئيس المحكمة العليا للتمديد له بعد سن التقاعد، وقوائم المرشحين التي قدمها لعضوية المحكمة أيضًا، ليتم إعادة تفعيل الدائرة فعليًا بعد (7) سنوات من التعطيل.

أجندة مزدحمة

وبحكم كونها المسؤولة عن الفصل في دستورية أعمال السلطات التشريعية والتنفيذية، وفي ظل تصاعد التجاذبات القائمة بين أغلب الفاعلين بالمشهد الليبي؛ ستكون الدائرة الدستورية أمام العديد من الدعاوى والطعون الفارقة بمسار الأزمة، كتلك المتعلقة بدستورية تشريعات مجلس النواب، والتطورات الحادثة بالمسار الدستوري، بالإضافة إلى القضايا والطعون المتصلة بأعمال السلطات التنفيذية، ومن أبرزها:

أولًا: الدعاوى المتصلة أعمال مجلس النواب: يُرجح أن تكون تشريعات مجلس النواب أولى الملفات المطروحة على أجندة الدائرة الدستورية، لاسيما التشريعات الأخيرة المُنظمة لأعمال السلطة القضائية؛ كونهما الأكثر اتصالًا بعمل المحكمة العليا واختصاصاتها، حيث اعتمد مجلس النواب اختصاصه بتعيين المستشارين الأعضاء بالمحكمة، وغيّر مراسم حلف أعضائها لليمين الدستورية ليتم أداؤها أمام النواب بدلًا من الجمعية العمومية للمحكمة. بالإضافة إلى الطعون المُقدمة ضد التشريعات المتصلة بالانتخابات؛ كونها صدرت -وفقًا لبعض الطعون- دون التوافق مع مجلس الدولة، أي قوانين غير دستورية. وستشغل الطعون المتعلقة بتجاوز الأجسام التشريعية لآجالها القانونية مساحةً مهمة في أجندة الدائرة الدستورية.

ثانيًا: التنازع حول مجريات المسار الدستوري: ستكون لدى الدائرة الدستورية مهمة الفصل في العديد من الطعون المتعلقة بمسار وضع واعتماد الدستور الجديد للبلاد، سواء التعديل الدستوري الـ (12) الذي تراه هيئة صياغة الدستور مخالفًا للإعلان الدستوري، والتفاهمات التي يجري صياغتها بين مجلسي النواب والدولة لتعديل بعض المواد الخلافية في مشروع الدستور الصادر عن الهيئة، والذي تعدّه الأخيرة الأساس الواجب طرحه للاستفتاء الشعبي كما هو دون تعديل.

ثالثًا: الطعون المتعلقة بالسلطة التنفيذية: قُدمت للدائرة مجموعة من الدعاوى المتصلة بتطورات المسار السياسي في البلاد، حيث الفصل في دستورية ما تمخضت عنه أعمال لجنة الحوار السياسي بجنيف، والتي كانت أبرزها انتخاب المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، وخاصة أن مجلس النواب لم يُضمنها حتى تاريخه في الإعلان الدستوري. ناهيك عن دستورية منح ثقة البرلمان لحكومة الاستقرار الوطني، برئاسة فتحي باشاغا، والطعون التي قُدمت ضد القرارات الصادرة عن السلطات التنفيذية المختلفة، وعلى وجه الخصوص توقيع حكومة الوفاق الوطني للاتفاقيات العسكرية-البحرية مع تركيا، وقرار رئيس حكومة الوحدة بعزل رئيس المؤسسة الوطنية للنفط “مصطفى صنع الله” من منصبه.

مسارات مُعقدة

تشير خلفية وأبعاد قرار إعادة تفعيل الدائرة الدستورية إلى عدة احتمالات تتصل بمستقبل تفاعلات الفاعلين بالأزمة الليبية، سواء فيما يتعلق بمستقبل الحالة الليبية بشكل عام، أو الارتدادات المحتملة على كيانات وهيئات القضاء في الدولة المأزومة، وهو ما يمكن أن يتخذ عددًا من المسارات وأبرزها: 

السيناريو الأول الانسداد التام: يفترض هذا المسار أن يؤدي إعادة تفعيل الدائرة الدستورية إلى تقويض الثوابت والسكون المتحقق منذ نهاية العام 2020؛ حيث تذهب الدائرة للفصل في الطعون المُقدمة إليها -سابقة الذكر- بصيغة انتقائية موجهة، تفضي إلى إثارة الجدل وتحفيز المواجهات السياسية والميدانية وربما الاحتجاجات الشعبية. ومن جُملة تلك الصيغ، يحتمل أن يكون الحكم بعدم دستورية الأجسام السياسية القائمة (مجلسي النواب والدولة) أو اسقاط التشريعات المنظمة للعملية الانتخابية التي صدرت العام الماضي، وربما تنتهي بالدفع قدمًا لطرح مسودة الدستور الصادرة عن الهيئة التأسيسية للاستفتاء الشعبي في صيغتها الأولية.

السيناريو الثاني: استمرار التجاذبات في حدودها الراهنة: يتصل هذا المسار بأن يقتصر قرار تفعيل الدائرة الدستورية على كونه محاولة للضغط المحدود على مجلسي النواب والدولة للاستجابة لمطالب رئيس المحكمة العليا وحكومة الوحدة، دون التوسع في عملية الفصل في الطعون المطروحة أمامها؛ تلافيًا لجر القضاء إلى معترك الاستقطاب السياسي والميداني الدائر في ليبيا، وربما إعادة تعليق أعمال الدائرة مجددًا بعد تحقيق بعض من تلك المطالب.

السيناريو الثالث: تجاوز العراقيل الانتقالية القائمة: يقوم هذا السيناريو على أن تفعيل الدائرة قد يقود إلى تحقيق العامل الموازن المفقود بمجريات الأزمة؛ حيث تؤدي الدائرة أعمالها بعيدًا عن التجاذبات والضغوط، ويعزز ذلك من فرص حسم الإشكاليات المعرقلة لجهود التسوية السلمية للصراع. 

وختامًا، يمكن القول إن إعادة تفعيل الدائرة الدستورية سيفتح الباب أمام قضايا وطعون واسعة النطاق ستطال كافة الأجسام والمؤسسات الليبية والفاعلين من الخارج، وعدم استيعاب تلك المساعي لتوظيف القضاء كورقة ضغط بين المتنافسين يهدد بالارتداد الحرج إلى مربع الاستقطاب والمواجهات الميدانية. لذلك، فإن السيناريو الثاني المتصل باستمرار التجاذبات في حدودها الراهنة هو أكثر المسارات ترجيحًا، وربما سيكون إعادة تجميد الدائرة أو المماطلة في حسم الطعون الحدث الأقرب للتحقق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى