الصحافة الدولية

الضربة الصاروخية الإيرانية لعين الأسد.. بين الرمزية ومسارات التصعيد

بعدما نفذت الولايات المتحدة ضربتها الدقيقة، التي استهدفت ثانِ أقوي رجل في إيران، في الساعات الأولي من صباح الثالث من يناير، قائد فيلق القدس قاسم سليماني، مع مجموعة من الشخصيات الأخرى التي تحتل تراتبية قيادية عالية ضمن ميليشيات الذراع العسكري الخارجي لإيران؛ سلّمت الولايات المتحدة رسالة للقيادة الإيرانية من خلال السفارة السويسرية.

رغم عدم وضوح فحوي الرسالة، إلا أنها استفزت المسؤولين الإيرانيين علي حد وصفهم بأنها ” رسالة وقحة “. فبحسب العديد من المراقبين تضمنت الرسالة الأمريكية تحدي أمريكي صريح بإجراء أي فعل من شأنه الاضرار وتهديد المصالح الأمريكية.

بدوّره، قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في أول مقابلة تلفزيونية بعد مقتل سليماني، ” أنّ الموفد السويسري نقل رسالة حمقاء من الأميركيين هذا الصباح”. وتابع قائلاً: أنه تم بعد ذلك “استدعاء” المسؤول في السفارة السويسرية “في المساء وتلقى رداً خطياً حازماً على رسالة الأمريكيين الوقحة”.

منذ ذلك الحين، تصاعدت الحرب الكلامية بين مسؤولي الولايات المتحدة بمستويات البيت الأبيض والخارجية والبنتاغون، وبين نظرائهم الإيرانيين الذين ما انفكوا يتوعدون بردّ مغاير تتداعي له الاستراتيجية العسكرية الأمريكية بالمنطقة.

الجثث سوف تملئ الشرق الأوسط!

فور تعيينه قائداً جديداً لفيلق القدس، قال إسماعيل قاني إن بقايا جثث “الشيطان الأكبر” – يقصد الولايات المتحدة – ستملئ الشرق الأوسط. كما طالب الإيرانيين بالصبر كي يتحقق الثأر علي حد زعمه.

فيما حبس العالم أنفاسه من مسارات التصعيد المحتملة، حدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قواعد اشتباك القيادة المركزية الأمريكية المسؤولة عن سير العمليات الميدانيةـ حيث ذكر في تغريدة له “وضعنا قائمة تشمل 52 هدفا إيرانيا بعضها ذو مكانة عالية وتمثل أهمية كبرى لإيران، سيتم ضربها بقوة وسرعة إذا ضربت إيران أي أمريكيين أو ممتلكات أمريكية”.

في هذه الأثناء وصل نعش سليماني إلى محطته الأخيرة في مسقط رأسه بإيران، مدينة كرمان، بعد أن جاب المدن العراقية والإيرانية، وقبل الدفن بساعات قليلة، وفي منتصف الليل، تحديداً في نفس الوقت الذي قُتِل، أطلقت إيران دفعة من الصواريخ الباليستية تجاه هدفين في الأراضي العراقية يضمان قوات أمريكية. فيما بدا أنها “عملية الانتقام” لقاسم سليماني.

تصريحات المسؤولين الإيرانيين اتخذت منحي أكثر حدة تجاه الولايات المتحدة منذ الحرب الإيرانية العراقية، بشكل قد يدفع بتجاهل قواعد الاشتباك الجديدة التي وضعها البيت الأبيض منذ استهداف كتائب حزب الله العراقية وأظهرت جديتها في استهداف رجل إيران القوي، قاسم سليماني. فكيف جاء “الانتقام الإيراني”؟

مرمي الصواريخ الإيرانية .. بين الرمزية والفعالية 

ليست المرة الأولي التي تطلق فيها إيران صواريخ باليستية باتجاه أهداف في دول مجاورة، منذ نهاية الحرب “الإيرانية – العراقية”،  بل سبقتها وقائع شملت الأراضي السورية والعراقية. 

حيث أطلقت إيران صواريخ من نوع “سكود” على قواعد لمنظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية المعارضة في العراق ستّ مرات على الأقل بين نوفمبر 1994 وإبريل 2001. حتي عادت القوة الصاروخية الإيرانية لصدارة المشهد مرة أخري في يونيو من العام 2017، حين نفذ الحرس الثوري الإيراني قصف مُركّز بنحو ستة صواريخ  طراز”ذو الفقار”، وهي صواريخ بالسيتية متوسطة المدي تعمل في نطاق 600 كلم، علي أهداف تابعة لتنظيم داعش الإرهابي، في محافظة دير الزور السورية رداً علي العمليات الإرهابية التي نفذها التنظيم في وسط طهران مطلع يونيو من ذات العام. تبعه أيضاً قصفين بالصواريخ الباليستية ضد مجمع بنائي تابع لـ “الحزب الديمقراطي الكردي الإيراني” في إقليم كردستان العراق، إثر تنفيذ الأخير هجمات ضد أهداف تابعة للحرس الثوري. ووصولا لاكتوبر 2018، كانت آخر الضربات الموجهة 

حتي تكررت الواقعة ذاتها، في أكتوبر من العام 2018، حيث طلقت إيران ستة صواريخ فوق العراق ضد أهداف تابعة لتنظيم داعش، في سوريا شرق نهر الفرات مستهدفةً منطقتَي أبو كمال وهجين في محافظة دير الزور، وفقاً لـ “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني. وقد استُتبع القصف الصاروخي بضربات جوية باستخدام سبع طائرات مسيرة من طراز “الصاعقة” ضد “مواقع للتنظيم وبنى تحتية داعمة لها.”

الجدير بالذكر أن الضربات الثلاث السابقة، شهدت بعض الإخفاق، واتساعاً لمدي الخطأ وتعطل لنصف دفعة القصف الصاروخي في صحراء العراق. مع ذلك، يمكن اعتبار قدرة صاروخ أو صاروخين على ضرب مواقع على بعد 50 إلى 150 متراً من أهدافهما، بعد قطعهما مسافة 600 كيلومتر إنجازاً في هذا المجال بالتقنية المحلية. لكن القدرة الصاروخية الإيرانية لم تؤد دوراً فعالاً في تحقيق الردع قياساً بقدرتها البرية الغير نمطية من خلال الميلشيات الموالية لها والمتمرسة في مضمار الحروب اللامتماثلة.

القدرة الصاروخية الإيرانية السالف ذكر نشاطها عبر محطات زمنية متقاربة، فتحت للتو سجلاً لها في الميدان السوري والعراقي ووصلت لسياق اختبار حقيقي ولاسيما بعد سيطرة الخطاب الانتقامي علي الحالة المزاجية الشعبية الإيرانية والرسمية كذلك بعد مقتل سليماني.

ففي صبيحة اليوم، وفي نفس الوقت الذي قتل فيه سليماني “الواحدة والنصف”، انطلقت من إيران موجة صاروخية (24) صاروخ، استهدفت قاعدة عين الأسد العراقية، وقاعدة أربيل.

وبالنظر لأهداف الصواريخ الإيرانية، يتضح أنها تحاشت استهداف منشآت أمريكية بعينها، وركزت علي “قاعدتين عراقيتين تضم عناصر أمريكية”، من إجمالي 12 قاعدة ونقطة تتمركز فيهم الولايات المتحدة بأنساق مختلفة من القوات.

فعلي سبيل المثال، لدي القوات الأمريكية قاعدة في معبر التنف علي الحدود السورية العراقية. تشرف القاعدة علي الطريق البري الواصل من طهران لدمشق، وتتموضع الولايات المتحدة هناك من خلال عناصر القوات الخاصة دون مشاركة من أي عناصر أجنبية أخري. كما أن القاعدة في مرمي ومدي الصواريخ الإيرانية من طرازات “القائم و ذوالفقار”.

بحسب البنتاغون ومصادر رسمية عراقية، لم تحقق الضربة الإيرانية أية خسائر بشرية في صفوف القوات العراقية المتمركزة في القاعدة، والعناصر الأمريكية التي تطبق إجراءات تأمين شديدة لعناصرها. الجدير بالذكر أن قاعدة “عين الأسد” قد زارها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أواخر العام الماضي. 

بحسب المصادر الإيرانية، فإن الهجوم الصاروخي، استُخدِم فيه صواريخ فاتح 313 الباليستية قصيرة المدي، 500 كلم. أما القيادة الوسطي الأمريكية فقد حددت نوع الصواريخ منها فاتح 313 وطراز آخر قيام-1، وقد انطلقت من قواعد داخل إيران تحديداً في تبريز وكرمنشاه.

كما أن هنالك علي الأقل أربعة صواريخ سقطت أثناء تحليقها في الأجواء قبل إصابتها لأهدافها بنحو 30 كلم.

التعاطي الإيراني.. والموقف العراقي

علي الرغم من تأكيد البنتاغون في بيانه حول الضربة الصاروخية، عدم وقوع أي ضحايا أو أضرار بالمكون الأمريكي في القواعد المستهدفة، وعلي الرغم من إصدار بيانات رسمية عراقية تؤكد فيه خلو النقطة المستهدفة من أية إصابات.

 إلا أن التعاطي الإيراني ذهب بعيداً عن تلك التقديرات. حيث نقلت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية مقتل نحو 80 من القوات الأمريكية المتواجدة بالقواعد المستهدفة. 

فيما تظهر صور الأقمار الصناعية، استهداف الصواريخ الإيرانية للعديد من منشآت القاعدة.

في هذا السياق، نقلت وكالة “سي إن إن” الأمريكية أن واشنطن كانت تعرف مسبقاً بالهجوم وطبيعته. وجاء الرئيس الأمريكي في كلمته بالأمس، ليؤكد أن ما من ثمة عناصر أمريكية او عراقية تعرضت لخسائر. ليظل الهجوم الصاروخي الأوسع لإيران والأكثر دقة هو استهداف منشآت أرامكو بالصواريخ الجوالة وطائرات الدرون المسلح. إذ حققت نتائج مؤثرة ودقيقة.

تزامن ذلك مع تصريحات لوزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بأن ” الضربة الصاروخية إجراء انتقامي متكافئ ولن نسعي للحرب”. وفي سياق متصل أعلنت إيران اليوم، انتهاء “عملياتها الانتقامية” ضد الولايات المتحدة. 

وقال مندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة مجيد تخت روانجي في إجابة عن سؤال من وكالة “تاس” الروسية حول رد بلاده على كلمة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بشأن التصعيد الأخير: “كل عمليتنا كانت متكافئة مع مقتل قاسم سليماني، وتم إنهاؤها”.

وأضاف: “في حال عدم إقدام الولايات المتحدة على أي إجراءات عسكرية ضد إيران، لن نقوم نحن من جانبنا بأي خطوات من هذا النوع”.

وأشار المندوب الإيراني إلى أن بلاده عملت بتوافق تام مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ونفذت حقها في الدفاع عن النفس، وقال: “لكن لن يكون لدى إيران سبيل بديل عن الرد في حال اتخاذ الولايات المتحدة قرار شن عمليات عسكرية” جديدة.

فيما بدا من رغبة في وقف حدة التصعيد، وحصر الجهود الإيرانية المقبلة في هدف آخر عبّر عنه المرشد الاعلي ” علي خامنئي “، وهو ” إجلاء القوات الأمريكية من العراق”. 

صرح الرئيس دونالد ترامب صعوبه انسحاب كامل للولايات المتحدة من العراق، تخوفاً من أن يقع كامل العراق في قبضة إيران علي حد زعمه. ترافق ذلك مع حركة نشطة للقوات الأمريكية بين الحدود السورية والعراقية.

 كما أعلن الرئيس الأمريكي في كلمته بالأمس استمرار فرض العقوبات الاقتصادية علي إيران، كونها النهج المناسب لتحجيم نفوذها بالمنطقة، الجدير بالذكر أن إيران فقدت بسببها عوائد ضخمة من صادراتها النفطية التي تراجعت بشكل كبير، من نحو 2.6 مليون برميل يومياً في مايو 2018 إلى ما يقرب من 200 ألف برميل يومياً في نهاية عام 2019، حسب بعض التقديرات.

فرض القرار الأمريكي بتصفية قاسم سليماني قواعد اشتباك جديدة بين الولايات المتحدة وإيران، وحصر ردات فعلها في تنفيذ ضربة رمزية تقل في الميزان الاستراتيجي عن ضربة أكثر قوة وتأثيراً، هجمات ارمكو. وذلك يؤشر علي إدراك صانع القرار الإيراني لموقع إيران في النظام الدولي والإقليمي في ظل التحديات الطارئة بالمنطقة وكذا الجدية الأمريكية في التعامل مع تهديد مصالح واشنطن.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى