الصحافة الدولية

تصادم موجه … تعاطي “الحشد الشعبي” مع الضربات الأمريكية

كشف التحرك الأخير لبعض فصائل الحشد الشعبي العراقي، كرد فعل على الضربات الامريكية لألويته بمنطقة القائم خلال الأيام الماضية، أن هناك اتجاها قويا لدى هيئة الحشد الشعبي وفصائله -على اختلاف اتجاهاتها- والحكومة العراقية، وهو ما لا ينفصل عن طهران، لتوظيف الهجمات الامريكية على الويته ومعسكراته؛ لتحقيق العديد من الأهداف التي تتطلب تصعيدًا لافتا في الرد والاستجابة. وهو ما أكدته بيانات الحشد اللاحقة للضربة الامريكية على معسكري الحشد بقضاء القائم، 29 ديسمبر2019، والدعوات للمشاركة بتشييع جثامين من قضوا خلال الهجوم، فضلاً عن توجيه المقاتلين والمدنيين الداعمين لفصائل الحشد للاعتصام بمحيط السفارة الامريكية ببغداد. ويتناول التقرير نماذج لاستجابات الحشد للضربات السابقة لمقراته، ومظاهر وآليات توظيف الاستجابة الأخيرة لتحقيق أهداف مرحلية قد تغير من خريطة النفوذ الخارجي بالعراق، وتدعم اتجاهات خفض التوتر السياسي وضغوط الاحتجاجات المشتعلة منذ قُرابة الشهرين بالبلاد.

من التلافي الى التصعيد … مواقف “الحشد” من استهداف مواقعه

C:\Users\DELL\Downloads\PHOTO-2020-01-01-17-10-12.jpg

اتسمت مواقف الحشد الشعبي، التي تعاطت مع استهداف وحداته من قبل، بالاتزان ومحاولة تلافي التصعيد ضد الضربات التي حملت بصمة التحالف الدولي والولايات المتحدة؛ كمحاولة لتجنيب قواته تداعيات المواجهة المباشرة مع القوات الامريكية، وتركيز قدراته على مواجهة خطر تنظيم “داعش” وتثبيت أركانه كقوة راسخة تابعة للدولة العراقية. وقد تنبى الحشد مواقف كالتنديد والتعبير عن الاستياء والدعوة للتحقيق في بعض تلك الحوادث، مع التأكيد على أمله في عدم تكرارها مستقبلاً، وهو ما جاء في بيان الحشد اللاحق لاستهداف قواته جنوب الموصل عبر طيران التحالف في 5أكتوبر2016. وهو ما تكرر في بيانه الصادر بعد استهداف مطار تلعفر، 24نوفمبر2016، عبر صاروخ موجه بالليزر بعد أن جرى فيه اجتماع بين رئيس الوزراء السابق “حيدر العبادي” وقيادات الحشد، واتهم البيان قوات التحالف الدولي بالوقوف وراء الهجوم. 

Related image

وبدأ الحشد في تبني موقف أكثر تصعيداً ضد استهداف مواقعه واتهم الطيران الأمريكي باستهداف مقر له شمال منطقة البوكمال السورية بصاروخين موجهين، 17يونيو2018، وأعتبرها محاولة لتمكين تنظيم “داعش” من السيطرة على الحدود، وأكد بيان الهيئة أن “دماء مقاتليه لن تذهب سدى”. ثم انتهج الحشد سياسة عدم التصعيد مجددًا، حيث نفى انفجار مستودع للأسلحة تابع للواء الثاني -فرقة الامام علي- بمدينة النجف، 7يونيو2018، وأشار بيانه إلى عدم حدوث انفجار بل حريق لمستودع صغير (كرفان) نتيجة ماس كهربي. 

وكانت الواقعة الأبرز عندما نفى الحشد تعرض مواقعه للقصف عقب انفجار بمعسكر “الشهداء” والذي يتمركز به “كتائب حزب الله العراق” قرب منطقة آمرلي بمحافظة صلاح الدين، 19يوليو2019، وأكد أنه لم يكن نتيجة طائرة مسيرة او صاروخ موجه -كما أوردت تقارير- وإنما كان مجرد حريق لوقود صلب نتيجة خلل داخلي، بعدما أعلنت القيادة المشتركة العراقية أن الانفجار ناجم عن هجوم بطائرة مسيرة، بالتزامن مع تأكيد الحشد عبر موقعه أنه صد هجوماً لداعش على القاعدة، ونفى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) صلتها بالحادث. 

وشكل انفجار قاعدة “الصقر” التي تضم مليشيات “بدر” و”جند الإمام” و”كتائب سيد الشهداء”جنوب العاصمة بغداد، 12أغسطس2019، فصل جديد من الحوادث التي تشير الى استهداف مقرات الحشد رغم تبني الهيئة لرواية نفى تعرض الويتها لهجمات؛ حيث أعلنت أن الحريق ناتج عن الإهمال وسوء تخزين الذخيرة والعتاد، وعدم وجود عزل كهربائي. فيما صرح نائب رئيس الوزراء العراقي السابق “بهاء الأعرجي” أن تكون الأسلحة التي انفجرت بالمعسكر “أمانة” تابعة لإيران، وأن “إسرائيل استهدفتها بناء على وشاية”، وهو ما أوردته تقارير أجنبية وإسرائيلية عبر نشر صور بالأقمار الصناعية تظهر احتمال أن يكون الانفجار نجم عن غارة جوية إسرائيلية.

التحول نحو التصعيد الموجَّه … استهداف قاعدة “بلد” الجوية

لم يكن الهجوم على قاعدة “بلد” الجوية بمحافظة صلاح الدين، 20اغسطس2019، الأول من نوعه على القاعدة؛ إذ جرى استهداف القاعدة ومنطقة الجادرية في بغداد من قبل في 16يونيو2019، وأصدر الحشد بياناً اتسم بالغموض حيث أقر بتعرض القاعدة لقصف من جهات خارجية، وتعهد بالكشف عن ملابسات الحادث. وتحولت هيئة الحشد نحو تبني موقف تصعيدي بشكل واضح بعد استهداف وحداته بقاعدة “بلد” الجوية خلال أغسطس 2019، واتهمت في بيان صادر عن نائب رئيس الهيئة، جمال جعفر آل إبراهيم “أبو مهدي المهندس”، القوات الامريكية بالعراق بالضلوع في تهريب (4) طائرات مسيرة إسرائيلية عبر اذربيجان لتعمل ضمن أسطول القوات الأميركية، إلا أنها تم استخدامها في رصد الحشد ومهاجمة مقراته، وأن القوات الامريكية تعد مشروعًا لتصفية شخصيات عاملة وداعمة للحشد. 

وقد حاول رئيس الهيئة “فالح الفباض” خفض حدة الاتهامات ضد واشنطن في بيان لاحق -لم يتم نشره على موقع الحشد- ولكنه أكد أن التحقيقات الأولية تشير الى كونه عمل خارجي مدبر، وان الهيئة تنتظر نتائج التحقيقات للوقوف على صورة كاملة واتخاذ القرار الملائم. وأبلغت هيئة الحشد قيادة العمليات المشتركة بأنها “ستعتبر أي طيران أجنبي سيحلق فوق مقراتها دون علم الحكومة العراقية طيرانا معاديا وستتعامل معه وتردعه”، وهو ما بدأت بالفعل في تطبيقه ونشرت مقاطع مصورة أعلنت عبرها التصدي لطائرة استطلاع اقتربت من مقر اللواء (12) في بغداد، وأجبرتها على الانسحاب في اليوم التالي للبيان 22أغسطس2019.

ومع يمكن اعتبار الهجوم على قاعدة “بلد” نقطة تحول في اتجاهات التصعيد داخل العراق ضد التحركات الامريكية لضرب مقار الحشد الشعبي؛ حيث تبنت الهيئة موقفًا تصادميًا ضد الوجود الأمريكي بالعراق، وهو ما اتسق مع مطالبة النائب، حسن سالم، عن حركة “عصائب أهل الحق” الحكومة العراقية بإنذار القوات الأمريكية للخروج من العراق، وهدد بأن تتحرك حركات المقاومة ضد الأهداف الامريكية بالعراق حال تجاهل طلبه. كما هدد، أكرم الكعبي، الأمين العام لـ “حركة النجباء” بالوقوف في وجه الحملات التي تنطلق ضد الحشد، واتهم تل أبيب بالوقوف وراءها. وفيما امتنعت المرجعيات الدينية بالنجف عن التعليق، فقد أفتى المرجع الديني الشيعي “كاظم الحائري”، في مدينة باقم الإيرانية، بحرمة تواجد القوات الأمريكية في العراق، ودعا العراقيين الى حمل السلاح والتصدي للقوات الامريكية بالبلاد.

هجمات ديسمبر … الصدام الموجَّه كاستراتيجية للرد

في البداية، تلاقت رؤى الرئاسات الثلاث -البرلمان والحكومة والجمهورية- لتوظيف الهجوم لأغراض سياسية، في محاولة لتخفيف الضغوط التي تفرضها الاحتجاجات الشعبية عليها، وإيجاد مساحات يمكن توجيهها للتقريب بين وجهات نظر الكتل السياسية، التي أصبحت تقود المشهد العراقي الي تأزم وانسداد الأفق السياسي بشكل يمثل تهديد للإبقاء على نفوذ وسيطرة التيارات السياسية المتصدرة للمشهد، واستقرار الدولة العراقية بشكل عام. وقد صدرت عدة بيانات رسمية ترفض الضربات الامريكية وتعتبرها انتهاكًا لسيادة العراق، وجاء أبرزها في تصريحات رئيس الوزراء المستقيل “عادل عبد المهدي” والرئيس المستقيل “برهم صالح”. كما دانت وزارة الخارجية القصف وقامت باستدعاء السفير الأميركي في بغداد وإبلاغه رفضها تلك الخطوة.

واعتمد الحشد الشعبي وفصائله مجموعة من الإجراءات التصعيدية، والتي تكشف عمق التوجيه الإيراني لها، عبر تحشيد الاتجاهات السياسية والعسكرية والمدنية للرد بشكل لافت على تلك الهجمات. كما رأت الكتل السياسية والفصائل الموالية لإيران أن الفرصة مواتيه لاستهداف النفوذ والوجود الأمريكي بالعراق، كأقصر الطرق لتنفيس الاحتقان السائد ضد الدعم الإيراني وتحركات تلك الكتل والفصائل وفقًا لمحددات تضعها طهران. وقد هدد نائب رئيس الهيئة، ابو مهدي المهندس، أن “دماء الشهداء والجرحى لن تذهب ‏سدا والرد سيكون قاسيًا على القوات الأمريكية في ‏العراق”. كما سلط إعلام الحشد الضوء على زيارة “المهندس”، وأصدرت الهيئة دعوة لتشييع جثامين من قضوا بالهجوم، والتي تحولت الى تظاهرة داخل المنطقة الخضراء، ما لبثت أن اتجهت لاقتحام السفارة الامريكية والاعتصام أمامها. واتجهت مجموعة من التحالفات بالبرلمان العراقي لرفض الوجود الأمريكي، إذ أكد تحالف الفتح “أن واشنطن لم تلتزم بالمواثيق الدولية”، وطالب النائب عن التحالف “فالح الخزعلي” مجلس النواب بتحمل مسؤولياته فيما يتعلق بتواجد القوات الأجنبية في العراق. وشددت كتلة الحكمة النيابية على ضرورة إلغاء الاتفاقية الأمنية الموقعة مع الولايات المتحدة الاميركية، فيما أشار تحالف سائرون الى أن “العام الجديد سيكون عام التصويت على إخراج القوات الأجنبية”.

إحتواء ما قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة

Image result for ‫استهداف الحشد الشعبي السفارة‬‎

ومع تسارع وتيرة الاحداث ووصول عناصر مليشيات الحشد الى محيط السفارة الامريكية، اتجهت السلطات العراقية لاحتواء التصعيد المدفوع خارجيًا، حيث أكد رئيس الجمهورية برهم صالح ان التعرض إلى البعثات الدبلوماسية المعتمدة في العراق يعد ضرباً لمصالح العراق وسمعته الدولية، وأن أي اعتداء أو تحرش بالسفارات والممثليات الأجنبية هو فعل ستمنعه القوات الأمنية بصرامة، وسيعاقب عليه القانون بأشد العقوبات. كما دعا رئيس مجلس النواب “محمد الحلبوسي” الحكومة الى تأكيد التزاماتها بتعهداتها القانونية في حماية مقار البعثات الدبلوماسية. ودعا رئيس الوزراء “الجميع إلى المُغادَرة فوراً بعيداً عن المقرات الدبلوماسية، وشديد على أنَّ أيَّ اعتداء، أو استفزاز للسفارات، والممثليّات الأجنبيّة هو فعل ستمنعه القوات الأمنيّة بصرامة ويُعاقِب عليه القانون. 

كما دعا رئيس تيار الحكمة، عمار الحكيم، الأطراف كافة الى ضبط النفس وتجنب التصعيد وعدم الانجرار للفوضى، وأكد على “اهمية أن تتحمل الحكومة العراقية مسؤوليتها في حماية البعثات الدبلوماسية العاملة في العراق، والحفاظ على سمعته الدولية وما حققه من انفتاح تجاه المجتمع الدولي، بما يضمن أمن واستقرار البلاد “. كما أعلن تحالف القوى العراقية رفضه أي انتهاك للسيادة العراقية من قبل الآخرين أو الاعتداء على الشعب العراقي بأي شكل من الأشكال، وطالب بفرض القانون وعدم السماح لردود الأفعال غير المسؤولة من انتهاك نظام الدولة والاتفاقيات والأعراف الدبلوماسية. وبالفعل بدأت المجموعات المعتصمة أمام السفارة الامريكية في الانسحاب من محيط السفارة، وأُعلن لاحقًا عن عقد الاعتصام أمام فندق بابل.

وخلاصة القول، فقد أصبح الاتجاه أصبح الحشد الشعبي في اتجاه متزايد نحو رفض التحركات الامريكية ضد قواته، وهو اتجاه تدعمه طهران بشكل لاشك فيه، ولكن التحولات السريعة لهذه التحركات ضد السفارة الامريكية قد أثارت تخوفات الحشد الشعبي وطهران والسلطات العراقية -على السواء- بصورة كبرى؛ حيث يعي الحشد الشعبي وطهران أن واشنطن لن تسمح بترك العراق يسقط بيد نظام الملالي بسهولة، وقد أيد ذلك الدعم الأمريكي الذي تم توجيهه الى السفارة خلال ساعات، وبالتالي ستكون المواجهة المفتوحة مع الولايات المتحدة غير محسوبة المآلات في ظل المشهد السياسي القائم. كما تعي السلطات العراقية أن تطور المشهد الرافض للضربات الامريكية، ومحاولة طهران واستنساخ نموذج الثورة الإسلامية في التعاطي مع السفارة الامريكية هو يحمل تداعيات لا يمكن للعراق تحملها، سواء إذ وقع العراق وحيدًا بأيدي إيران وحلفاؤها بالداخل، أو إذا اتجهت الأمور الى مواجهات تكون العراق هي ساحتها.

ومما سبق، فيُرجح أن يحدث تراجع لمشاهد الاحتجاج المباشرة ضد الأهداف الامريكية -السفارة أو القواعد بالعراق- بالشكل الذي حدث خلال الفترة الماضية، مع وجود تحركات برلمانية لإيجاد توافق على ضبط التحركات الامريكية بالعراق، أو ما قد يتصاعد وصولاً إلى الغاء الاتفاق الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن، وهو ما ستدعمه إيران وستحشد الولايات المتحدة لإجهاضه. وبالأخير، فقد وجدت القوى السياسية والسلطات العراقية ضالتها المنشودة لتشتيت الميادين المشتعلة ضد الأوضاع السياسية والأمنية المتراجعة، ما قد يمهل القوى السياسية وقتًا كافيًا للتوافق بينها والخروج من الازمة الجارية.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى