الصحافة الدولية

احتجاجات الوقود.. هل يشتعل النظام الايراني من الداخل؟

مع اتساع حدة ونطاق الاحتجاجات في إيران، تتصاعد الاحتمالات المترقبة لإيجاد إجابة عن تساؤل رئيس مفاده هل تنجح التظاهرات الحالية في إسقاط النظام الإيراني؟ وهو الأمر الذي لم تُفلح فيه الضغوط الامريكية المتصاعدة، كذلك تراجعت حظوظ الاحتجاجات الداخلية المتعاقبة في تحقيقه. وللإجابة عن هذا التساؤل يجب تتبع مسارات الحركات الاحتجاجية التي تعامل معها النظام الإيراني مسبقًا، فضلاً عن الوضع الداخلي بأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الذي تتعامل معه السلطة في ايران بعد ارتفاع الضغوط الامريكية عليها، بالإضافة الى مستجدات الأوضاع في الساحات الخارجية التي اعتمدت عليها طهران للتغلغل وتوظيفها للإفلات من قبضة الضغوط الامريكية، لاسيما في ظل ما تشهده العواصم التي أدعى النظام الإيراني سيطرته عليها من احتجاجات وحِراكات تندد بالدور الإيراني في ترسيخ مصالحها دون النظر للاعتبارات الوطنية لشعوب تلك الدول.

تاريخ الاحتجاجات في إيران

واجه النظام الإيراني عدة حركات احتجاجية تجاوزت الـ (4200) احتجاج في الفترة من يناير 2018 حتى أكتوبر 2019، وفقا لتقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وتعددت دوافع الاحتجاجات تاريخياً فمنها تردي الأوضاع الاقتصادية، وانتشار الفساد، والتدهور البيئي، والمظالم الاجتماعية والسياسية، والتلاعب بنتائج الانتخابات. والتي تبلورت في جوهرها مُشكلةً حركات لامركزية ترفض سياسات النظام وتطورت شعاراتها حتى وصلت الى المطالبة بإسقاطه. ويمكن الإشارة الى أبرز الاحتجاجات منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وفقا للتقرير، كالتالي:

  • احتجاجات الملاك (1991-1994): وهي تظاهرات اندلعت بالعاصمة طهران ومدن كشيراز وأراك ومشهد وغزوين وتبريز؛ بعد استياء قطاع كبير من سكان تلك المناطق من محاولات السلطات البلدية لطردهم وتدمير مساكنهم لإنشاء مناطق حضرية.
  • احتجاجات الطلاب (1999): والتي جاءت رفضًا لقرار إغلاق صحيفة “سلام” الإصلاحية، وتسبب التعامل الأمني في اشعال المظاهرات وأعمال الشغب في جميع أنحاء البلاد، وقُتل خلالها عدة أشخاص، وأصيب المئات، واعتقلت الشرطة أكثر من ألف شخص.
  • الحركة الخضراء (2009): وقعت تلك الاحتجاجات في أعقاب نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية لعام 2009، والتي انتهت بفوز “محمود أحمدي نجاد”، وكانت تلك الاحتجاجات ذات تأثير فارق في التعاطي الأمني والرسمي مع الحركات الاحتجاجية التالية.
  • احتجاجات الربيع العربي (2011-2012): اتصالا بما شهدته عدة دول عربية من اسقاط أنظمة بالعام 2011، تحركت الحركة الخضراء من جديد ونظمت تظاهرات متقطعة استمرت حتى العام 2012، ولكنها انتهت بمواجهة امنية قوية وجرى القضاء عليها.
  • الاحتجاجات الاقتصادية (2017-2018): حيث خرجت مظاهرات بجميع أنحاء إيران منذ ديسمبر 2017 واستمرت حتى عام 2018، وانطلقت من مدينة “مشهد” -ثاني أكبر مدن إيران-، بدوافع اقتصادية ما لبثت أن اتسعت في كافة المدن الإيرانية رافعةً مطالب سياسية وبيئية وقضايا أخرى.

الخبرة الإيرانية في التعامل مع الاحتجاجات

واتسم التعاطي الرسمي مع الاحتجاجات السابقة بتعزيز القبضة الأمنية، بصورة خاصة، والاتجاه نحو فرض مزيد من القيود على وسائل الاحتجاج والتعبير عن الرأي. حيث اعتمد النظام على القوة الأمنية بشكل أساسي في مواجهة الاحتجاجات، وإعادة تأهيل المنظومة الأمنية بشكل عام، وجهاز الشرطة -قوة إنفاذ القانون- وهيئاته بشكل خاص، وركز على التوسع في إنشاء مراكز الشرطة ووحدات الدوريات الأمنية، والتي وصلت الى 400 وحدة في طهران وحدها. كما ظهر هذا الاتجاه في رفع موازنة الشرطة بشكل عام بمعدل 200% خلال العام 2018، والتي ارتفعت بنسبة 400% في بنود التسليح ما انعكس على توسع الشرطة في امتلاك مدرعات وبعض الأسلحة الثقيلة. فضلاً عن زيادة أنشطة الاستخبارات المدنية للقبض على المحتجين. وانعكس هذا التعزيز الى الوصول بهيئة الشرطة الى القدرة على احتواء كافة الاحتجاجات السابقة دون الحاجة لاستدعاء ونشر وحدات الحرس الثوري الإيراني.

كما اهتمت في السياق ذاته بالتحديث التكنولوجي ذو الطبيعة الأمنية، حيث أنشأت شرطة الفضاء الإلكتروني في عام 2011؛ لمراقبة المحتوى عبر الإنترنت، والتحقيق في جرائم الإنترنت، واتخاذ إجراءات صارمة ضد الناشطين عبر الإنترنت والمحتوى المحظور، كما توسع النظام في استخدام الكاميرات وتقنية التعرف على الوجه؛ للتعرف على المحتجين وضبطهم. وحاول النظام إنشاء نظام معلومات الكتروني مغلق نسبياً يُعرف بـ “شبكة المعلومات الوطنية” أو “الإنترنت الحلال”؛ لتسهيل ضبط المحتوى. كما تم حظر تطبيقات مثل Viber وTelegram وInstagram وTwitter وFacebook وYouTube وGoogle، بالإضافة إلى منصات استضافة المدونات الرئيسية مثل WordPress وBlogSpot وBlogger؛ لتقويض قدرة المتظاهرين على التواصل وتنظيم الفعاليات، بالإضافة الى حظر ومصادرة وسائل استقبال القنوات الفضائية، وقطع خدمات الانترنت والاتصالات في المناطق التي شهدت احتجاجات.

ومما سبق، فإن الخبرة الإيرانية في التعاطي مع الاحتجاجات تتركز بشكل أساسي في الاعتماد على القمع وانهاء مظاهر المعارضة، بصورة رئيسية، وتعزيز قدرات الامن والشرطة لضمانة إخماد وإنهاء أي من تلك الاحتجاجات. وتعزيز قدرات الشرطة في مواجهة التظاهرات؛ لإبقاء قوات الامن والحرس الثوري منشغلين بمهامهم الرئيسية في الخارج وتأمين الحدود.

احتجاجات الوقود.. الأنماط والدوافع

https://www.skynewsarabia.com/images/v1/2019/11/17/1298453/2000/1125/1-1298453.jpg

شهدت العديد من المدن الإيرانية مظاهرات حاشدة تجاوزت الـ (50) مدينة، رافعة شعارات مناهضة للنظام الحاكم 

والمرشد، منذ الجمعة 15 نوفمبر الجاري، لرفض قرار الحكومة برفع أسعار الوقود وتطبيق سياسات جديدة لتداوله. ومن أبرز تلك المدن العاصمة طهران، ومدن سيرجان وطهران وشيراز وأصفهان وتبريز والأهواز ومشهد وبهبهان والكرج وبوشهر وبندر عباس وخرمشهر وماهشهر وبيرجند وإقليم كرمان وفي إقليم خوزستان. وتنوعت مظاهر الاحتجاج حيث أضرم المحتجون النار في “المصرف الوطني” بمدينة “بهبهان”، وقد واجهت عناصر الشرطة المحتجين بإطلاق الرصاص باتجاههم لتفريقهم. وفي مدينة “كرج” خرج المتظاهرون مطالبون بإسقاط نظام المرشد، كما حاول المحتجون مهاجمة وإضرام النيران في مستودعات النفط ورفضوا تدخل طهران في شؤون الدول العربية بمدينة “سيرجان”، وخرجت تظاهرات منددةً بسياسات النظام في دعم المجموعات الشيعية بالخارج ورددت شعارات كـ “إلى متى ستبقى أموالنا تذهب إلى جيوب غزة ولبنان؟” في مدينة “بيرجند” قرب مشهد بشمال شرقي إيران، وأنضم إليهم محتجون في مدينة “بوشهر” منددين بإنفاق عائدات البلاد على قوات الحرس الثوري دون تحقيق تنمية للمواطنين. وتتصاعد وتيرة الاحتجاجات والمواجهات مع قوات الامن والحرس الثوري، وأوقعت عدد من القتلى تجاوز الـ (25) وفقًا لتقديرات.

وتتزايد الاحتجاجات مدفوعةً بتراجع أوضاع الداخل الإيراني على كافة المستويات، وهو الأمر الذي لا ينفصل عن متغيرات السياسات الخارجية للنظام الإيراني، والمتصل باتجاهات تعاطي السلطة مع مطالب المواطنين -على اختلاف وسائل التعبير عنها-. وبالتدقيق في المشهد الاحتجاجي الحالي وتوقيته، يمكن الإشارة الى مجموعة من الدوافع الرئيسية للتظاهرات الراهنة، ويمكن تناولها فيما يلي:

1- سياسات الوقود الجديدة: اندلعت الاحتجاجات بعد اعلان وسائل الاعلام الرسمية عن زيادة أسعار الوقود ووضع ضوابط جديدة لتداوله، ووفقًا للأسعار الجديدة سيرتفع سعر لتر البنزين العادي ليبلغ (15) ألف ريال (12.7 سنت أميركي) بعدما كان في حدود 10 آلاف ريال، وهو سعر ال (60) لترًا الأولى في الشهر للسيارات الخاصة، وبعدها يتم احتساب اللتر الإضافي بسعر (30) ألف ريال. وبينما برر النظام سلسلة الإجراءات بداعي الحاجة لسيولة نقدية لتغطية الاحتياجات العاجلة لـ 18 مليون أسرة فقيرة، وتأمين المساعدات المستمرة لأكثر من 60 مليون إيراني، إلا أن الشارع الإيراني يراها توجه عام للدولة مفاده الاتجاه نحو زيادة الضرائب على الشركات والمواطنين؛ لتعويض العجز الناجم عن حظر صادرات النفط الإيراني.

2- تردي الأوضاع الاقتصادية: تصاعدت موجة الاحتجاجات مقترنةً تدهور الاقتصاد الإيراني، حيث توقع صندوق النقد الدولي -في أكتوبر 2019- انكماشه بنسبة 9.5 % خلال العام 2019، وارتفاع معدل التضخم السنوي بنسبة 35.7%؛ بتأثير مباشر من تشديد العقوبات الأميركية. وهو ما تزامن مع تراجع سعر صرف الريال ليصبح سعر الصرف الرسمي (42) ألف مقابل الدولار الأميركي بعد أن كان (32) ألف قبل الغاء الاتفاق النووي، بينما أصبح داخل السوق السوداء حوالي 115 ألفا للدولار؛ مع استمرار السياسات التي يتبناها النظام كما هي، وتدفع بإيران الى تلقي المزيد من العقوبات. والجدير بالذكر أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي قد هبط إلى -3.9 % في عام 2018 وتقدر بنحو -6% في عام 2019، إلى جانب معدل تضخم شهري قدره 40 %، وبطالة وطنية حوالي 12 %، وبطالة شباب بحوالي 25 %. 

3- التضييق على الأنشطة السياسي: يعاني الإيرانيون من القبضة الأمنية المشددة على الأنشطة السياسية، وخصوصًا ذات التوجه القومي والمناطقي، فضلاً عن التدابير الأمنية القسرية للرقابة وتحجيم الحراك المجتمعي والسياسي والاقتصادي. وقد واجهت المناطق التي شهدت حراكات سابقة والعناصر المعارضة بالداخل والخارج لملاحقات أمنية. وفيما أمكن لتلك الأنشطة الأمنية تحجيم الحراكات والتظاهرات السابقة، فقد خلّفت حالة من الاحتقان المتزايد بين صفوف الإيرانيين، قابل للاشتعال بشكل كبير مع تصاعد الإجراءات الحكومية وخصوصاً المتعلق بالشق الاقتصادي منها.

4- سياسات النظام الخارجية: يتزايد الاتجاه الرافض لتبني النظام الإيراني استراتيجية إقليمية تستهدف فرض نفوذها بعدد من العواصم الإقليمية، بشكل مباشر عبر وحدات الحرس الثوري كالتدخل في الصراع السوري، أو بشكل غير مباشر عبر مجموعات متعددة من الوكلاء، وهو الامر الذي ينعكس على قدرات الدولة الاقتصادية -سواء النفقات أو تأثير العقوبات- ويتصل بالضرورة بإضعاف الخدمات وفرص التنمية وتوفير موازنات الدولة لصالح الداخل والمواطن. ومع اشتعال تظاهرات ببغداد ولبنان -العاصمتين التي استثمرت فيهما إيران بشكل كبير لتصبحا تحت سيطرتها- رافضةً للتدخلات الإيرانية، ودخول المرجعية الدينية بالنجف على خط الازمة ضد التدخل الإيراني في العراق، أصبح الداخل الإيراني أكثر غضبًا من استراتيجية الحكومة في الخارج. 

تعاطي النظام من الاحتجاجات

برزت عدة اتجاهات لتمسك الحكومة بقرارها الجديد، حيث أعلن المرشد الأعلى للثورة “خامنئي” إنه يجب المضي في تطبيق زيادة سعر المحروقات، متهما من وصفهم بأعداء الثورة والأعداء بالتخريب. كما أعلن البرلمان الإيراني تأييده لقرار الحكومة وأنه لا مجال للتراجع عنه. ومما يدلل على أن جاء التعاطي الرسمي مع الاحتجاجات الحالية متسقًا مع ذات الإجراءات السابقة، اعتبر النائب العام الإيراني، محمد جعفر منتظري، أن قرار رفع أسعار البنزين جاء ضمن القانون وأعمال الشغب في البلاد لها “صلة بأطراف خارجية وانه سيتم التصدي بحزم للمخلين بالأمن والنظام العام”. وأكدت السلطات الإيرانية، خلال اجتماع للمجلس الاقتصادي الأعلى، على ضرورة التعاون بينها لتطبيق خطة تقنين ورفع أسعار البنزين، في خطوة تفيد بتمسكها بالقرار وعدم وجود نية لديها للتراجع. 

وكشف عدة تقارير عن أن قوات الأمن تطلق الرصاص على المحتجين في عدة مدن كمدينة “ساوة” وسط إيران ومدينة “بهبهان” بالجنوب الغربي، ومدينة ” بوشهر” بالجنوب. وقامت السلطات العراقية بناء على طلب من طهران بإغلاق معبر “شلامجة” الحدودي الجنوبي أمام حركة المسافرين إلى حين إشعار آخر، كما قطعت السلطات الإيرانية خدمة الإنترنت عن مناطق الأهواز. بالإضافة الى قيام عناصر الشرطة بتوقيف 40 شخصا في مدينة يزد وسط البلاد

ومُجمل القول، فإن تبني النظام الإيراني لسياسات مفادها التمسك بقرارها المتعلق بضوابط تداول الوقود وأسعاره، وامتداد الاحتجاجات لتشمل قطاع واسع من المدن الإيرانية، ووقوع العديد من القتلى والمصابين، واعتماد الشرطة كوسيلة رئيسة لمواجهة المحتجين، هي كلها عوامل تدفع بترجيح تزايد حجم وعنف المواجهات بين المحتجين والشرطة، وهو أمر تبدو أن السلطة تتوخى حذره وترغب في استباق تلك التحشيدات الجماهيرية بقطع وسائل الاتصال والانترنت والدفع بقطاعات من الحرس الثوري لتحجيم المظاهرات وإخماد مطالبها. لذلك يُتوقع أن تشهد الأيام المُقبلة المزيد من الاشتباكات ودخول مناطق جديدة خط الاحتجاجات، ويُمكن بروز أنماط غير تقليدية أو غير مألوفة في الاحتجاجات الإيرانية عبر ظهور أشكال من التنسيق بين المدن المحتجة، أو تصدر عناصر معارضة بالخارج للمشهد الاحتجاجي ما سيسهم في تصاعد حدة التظاهرات وتمسكها بإسقاط النظام الحالي.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى