مصر

مصر في قمة بريكس.. توازن استراتيجي

جاءت المشاركة المصرية في قمة تجمع “بريكس” الـ 16 بمدينة “قازان” الروسية لأول مرة عقب انضمامها للمجموعة منذ يناير 2024، وذلك في ظل الرؤية المصرية الاستراتيجية التي تقوم على تأكيد فكرة النظام العالمي متعدد الأطراف، دون تأثير الرؤى الأحادية على السياسات في ظل الأوضاع العالمية المتشابكة، ولذلك يأتي تعاون دول “جنوب – جنوب” ليؤكد تلك الرؤية في خلق تكتل متشارك الرؤى ومتكامل المصالح من أجل خلق نوع من التوازن الاستراتيجي في ظل النظام العالمي الحالي.

ولما كان تجمع “بريكس” يهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية في الأساس، فإن الأوضاع السياسية الحالية في المنطقة تؤثر بشكل مباشر على تلك الأهداف، وعليه جاءت أجندة الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال أعمال القمة واللقاءات على هامش القمة، لتؤكد على هذين المفهومين، “حل الأزمات السياسية وتهدئة الصراع”، وتحقيق التنمية الاقتصادية، وانعكست تلك الرؤية المصرية في “إعلان قازان” لمخرجات القمة.

أولًا: تهدئة الصراع

يشهد حالة من الصراعات السياسية والعسكرية المتشابكة، بداية من الحرب الروسية الأوكرانية إلى توسيع حالة الصراع في المنطقة المطلة على أهم ممر بحري مائي، وهو ممر باب المندب والبحر الأحمر، ونتج هذا التأثير نتيجة الحرب الإسرائيلية التي بدأت بغزة ثم توسعت لتشمل الضفة الغربية وجنوب لبنان، والصراع الإيراني الإسرائيلي المتصاعد، هذا بجانب هجمات الحوثيين على السفن الغربية في الممرات الملاحية مما أثر على إمدادات الطاقة وسلاسل الإمداد الغذائية وحركة الملاحة في خليج عدن والبحر الأحمر، وفي منطقة القرن الأفريقي.

يضاف إلى ذلك الأزمات الممتدة مثل سوريا والسودان واليمن، فضلًا عن التهديدات الإثيوبية لسيادة دولة الصومال. ولذلك شهدت اللقاءات الثنائية والاجتماعات الدورية تأكيدًا على ضرورة الوصول إلى حل للعمل على تهدئة الوضع في الشرق الأوسط، وبالتالي العمل على خلق فرص للتعاون الأكثر تأثيرًا على عملية التنمية. وظهرت تلك الرؤية فيما يلي:

  • التسوية السياسية للحرب الروسية الأوكرانية:

شهد لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة تجمع “بريكس” التشاور والنقاش حول تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والتأكيد على ضرورة الحلول الدبلوماسية والتسويات السياسية للأزمات لحفظ الأمن والسلم العالمي.

  • خفض التصعيد في الشرق الأوسط ووقف إطلاق النار في غزة ولبنان:

شهد لقاء الرئيس السيسي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين التأكيد على الأهمية القصوى لخفض التصعيد بمنطقة الشرق الأوسط، والدعوة إلى ضرورة التوصل لوقف إطلاق نار فوري في غزة ولبنان، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى أهالي قطاع غزة، فضلًا عن دعم لبنان وتأكيد احترام سيادته وأمنه واستقراره، وذلك في ظل تشارك رؤى البلدين بشأن القضية الفلسطينية وضرورة حلها وفق مبدأ حل الدولتين. وحتى قبل عملية طوفان الأقصى، تقدمت روسيا خلال رئاستها لمجلس الأمن أبريل 2023، من خلال وزير خارجيتها سيرجي لافروف بشأن بند جدول الأعمال “الوضع في الشرق الأوسط، بما في ذلك القضية الفلسطينية”، بمبادرة تدعو إلى عقد اجتماع تشاوري بين روسيا وجامعة الدول العربية ومجموعة الدول الإقليمية التي تشارك بنشاط في التسوية الشرق أوسطية، من أجل تنفيذ القرارات الدولية المعتمدة سابقًا بما في ذلك قرارات مجلس الأمن الدولي وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية، ومبادئ مدريد، بما فيها من تنفيذ “مبدأ الأرض مقابل السلام”، ومبدأ “حل الدولتين”.

وجاء لقاء الرئيس السيسي والرئيس الفلسطيني محمود عباس على هامش انعقاد قمة تجمع “بريكس”، ليؤكد الدعم المصري غير المحدود والثابت للحفاظ على مقدرات الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، ورفض مصر أي مساعٍ أو محاولات لتصفية القضية الفلسطينية، وبحث جهود وقف الحرب في غزة والضفة الغربية، وأن يضطلع المجتمع الدولي بمسؤوليته.

  • تطبيق مبدأ المحاسبة والعدالة الدولية:

أكد الرئيس السيسي خلال أعمال قمة “بريكس بلس”، في ظل ما يعانيه المجتمع الدولي من تفريغ المبادئ الأساسية للقانون الدولي وازدواجية المعايير، ضرورة خلق نظام عالمي متعدد الأطراف، والتعاون بين دول “جنوب – جنوب” مما سيسهم في بناء نظام دولي عادل في ظل غياب المحاسبة والعدالة، إزاء الانتهاكات التي ترتكب في حق المواثيق الدولية، وقواعد القانون الدولي والإنساني، وهو ما ظهر في الحرب في غزة والتي توسعت لتضم الضفة الغربية ولبنان، مما يتطلب تضافر الجهود الدولية.

كما جاء لقاء الرئيسين السيسي والرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا ليشهد على أن التنسيق المصري – الجنوب أفريقي مستمر لدعم القضية الفلسطينية في المنصات الدولية، لدعم الحقوق المشروعة للقضية الفلسطينية، والتوصل لتهدئة في المنطقة، ووقف إطلاق النار في غزة ولبنان، ووقف انتهاكات السلطات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتوصيل المساعدات الإنسانية. وسبق وأن انضمت مصر لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية استنادًا للمادة 63 من النظام الأساسي لها، في مايو الماضي، لإبداء وجهة نظرها حول تفسير الاتفاقية، في ظل الدعم المصري غير المتناهي للدولة الفلسطينية.

  • عدم الوصول إلى حرب إقليمية شاملة:

نظرًا لأهمية إيران كلاعب إقليمي في الأزمات التي تشهدها المنطقة، وبجانب تزايد التصعيد الإيراني الإسرائيلي الذي انعكس على المنطقة ككل، ركز لقاء الرئيس السيسي والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، على هامش قمة تجمع “بريكس”، على ضرورة التوصل لتهدئة التوتر الإقليمي ونزع فتيل الأزمة، وعدم التصعيد لما له من آثار سلبية على أمن واستقرار المنطقة. ذلك في ظل الجهود المصرية والاتصالات المكثفة لمحاولة التهدئة والتوصل لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان، مع ضرورة الحشد الدولي للتعاطي بإيجابية مع تلك الجهود. وقد سبق والتقى الرئيس السيسي ووزير خارجية إيران، عباس عراقجي، في القاهرة 17 أكتوبر الحالي، في زيارة أولى من نوعها منذ 12 عامًا للعمل على تخفيض حدة الصراع لعدم الانزلاق لحرب إقليمية شاملة.

الأمر ذاته كان محل نقاش في لقاء الرئيس السيسي والرئيس الصيني شي جين بينج؛ حيث العمل على خفض التصعيد والحيلولة دون نشوب حرب إقليمية شاملة، وهو الأمر الذي يبدأ بحل شامل ومستدام للقضية الفلسطينية لضمان الأمن المستدام في المنطقة.

وظهرت هذه القضايا في كلمات الرؤساء وممثلي دول التكتل خلال أعمال القمة، فشهدت كلمات الرئيس السيسي في جلسات القمة التأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار وعدم التصعيد في المنطقة في غزة ولبنان؛ لمنع توسع الصراع والانجرار إلى حرب إقليمية شاملة، وهو ما أكد عليه الرئيس الصيني كذلك خلال جلسات أعمال القمة، ودعوة دول جنوب – جنوب للوقوف ضد القرارات الأحادية العالمية، التي تؤدي لمزيد من الصراع، والتأكيد على توسع دول التكتل لتشمل دولًا أخرى عبر الانضمام أو المشاركة.

ثانيًا: تحقيق التنمية الاقتصادية

  • الشراكة الاستراتيجية:

عملت القمة على تعميق العلاقات الاستراتيجية بين مصر والدول المشاركة بالقمة، والارتقاء وترفيع العلاقات الثنائية إلى المستوى الاستراتيجي، وهو ما اتضح خلال اللقاءات الثنائية التي عقدها الرئيس السيسي على هامش أعمال القمة، فشهد لقاء الرئيسين المصري والروسي حديثًا حول تعزيز التعاون على المستوى متعدد الأطراف ومستوى العلاقات الثنائية في ظل اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة بين البلدين في عام ٢٠١٨، وهو ما انعكس على إقامة المشروعات المشتركة لتعزيز مقدرات الدولة مثل مشروعي “إنشاء المنطقة الصناعية الروسية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وإنشاء محطة الضبعة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية”.

كما اتفقت مصر وجنوب إفريقيا على الارتقاء بالعلاقات الثنائية بين البلدين كنموذج يُحتذى به على المستوى القاري. كما سيعمل الانضمام إلى تكتل بريكس على تعزيز العلاقات المصرية الصينية، والتي ازدادت منذ تدشين علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة بينهما في عام 2014، وشهدت الذكرى العاشرة لترقية العلاقات زيارة الرئيس السيسي إلى بكين في مايو الماضي، وبالتالي الاتفاق على البناء على زخم نتائج تلك التنسيقات، وهو ما انعكس على حجم المشاركة الصينية في العديد من المشروعات الاقتصادية الكبرى في مصر، لاسيما في مجالات البنية التحتية والنقل والسكك الحديدية، بجانب العمل على مواصلة التعاون المثمر مع الصين في التصنيع ونقل التكنولوجيا إلى مصر.

  • إصلاح الهيكل المالي العالمي لتحقيق التوازن المأمول:

جاءت كلمة الرئيس السيسي في قمة “بريكس بلس”، وأعمال الجلسة الأولى للتجمع لتؤكد على دور تجمع دول “بريكس” في تعظيم الاستفادة من بنوك التنمية متعددة الأطراف، وتوفير تمويل ميسر للدول النامية مما يحقق أهدافها التنموية وتعزيز استجابتها للاحتياجات الفعلية للدول النامية، والعمل على النفاذ لتمويل قضايا المناخ، بجانب مبادلة الديون من أجل المناخ، مع تعظيم الاستفادة من الآليات التمويلية القائمة، في ظل ارتفاع فجوة تمويل التنمية إلى حوالي “4” تريليونات دولار في الدول النامية، وهو ما يسهم فيه “بنك التنمية الجديد”، و”البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية”.

وعن دور بنك التنمية الجديد، تناول الرئيس السيسي خلال الجلسة الموسعة استضافة مصر للملتقى الدولي الأول “لبنك التنمية الجديد”، في شهر يونيو الماضي، من أجل التعريف بعمليات البنك، والدعم الذي يقدمه للقطاعين الحكومي والخاص، ومناقشة آفاق التعاون المستقبلي بين الدول الأعضاء في “بريكس”، في ظل دوره في توفير التمويل الميسر، لدعم تنفيذ المشروعات التنموية بالدول النامية، لاسيما في قطاعات النقل والطاقة النظيفة، والبنية التحتية الرقمية، والتنمية الحضرية.

  • إنشاء منظومة دولية متعددة الأطراف، ومواجهة العملة الدولارية:

ذلك عبر تكثيف الاجتماعات والتعاون بين دول “جنوب- جنوب” وتبادل الخبرات والتعاون الفني وبناء القدرات، والتنسيق والتعاون من أجل إنشاء قوى قادرة على التصدي لفرض السياسات الأحادية، وعكس الرغبة في إعلاء منظومة العمل الجماعي، وإعلاء صوت الدول النامية في مختلف المحافل الدولية والإقليمية، وهو ما جاء في كلمة الرئيس خلال مشاركته في أعمال الجلسة الأولى لقمة تجمع بريكس. كما أن تعزيز التعاون سيسهم في مواجهة التداعيات السلبية لتغير المناخ.

وطالب الرئيس السيسي بوجوب استثمار المميزات النسبية التي تتمتع بها دول التجمع لتنفيذ مشروعات مشتركة في قطاعات الاقتصاد الرئيسية، خاصة قطاعات الطاقة والبنية التحتية، والصناعات التحويلية، والعلوم والتكنولوجيا والابتكار، ودفع أطر التعاون المشترك فيما يتعلق بالتسوية المالية بالعملات المحلية. وهو ما ظهر في إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ختام قمة قازان، بأن دول مجموعة “بريكس” بصدد الكشف عن عملتها الموحدة، وهي في صدد المفاوضات للانتهاء من توحيد الإطار القانوني في المقام الأول لتطبيقها، في ظل ما يتطلبه هذا القرار من إنشاء بنك مركزي للمجموعة، سيقوم بطرح هذه العملة للدول الأعضاء، وذلك من أجل مواجهة التضخم العالمي ودعم الاقتصاديات الوطنية وتأمين وصول احتياجاتها الاستراتيجية في ظل محاولات التخلي عن الدولار الأمريكي في التعاملات البينية بين دول التجمع.

وانعكست الرؤية والمحددات المصرية لأهمية الانضمام لتجمع “بريكس” على الإعلان الختامي لقمة قازان الروسية، والتي خرجت في شكل إعلان نهائي يحدد المبادئ التوجيهية للتعاون على المدى الطويل، بعد توافق الزعماء المشاركين عليه، والاتفاق على أن يتم نشره في الأمم المتحدة باعتباره وثيقة مشتركة للدول الأعضاء، والذي تم طرحه في 10 بنود.

فعلى المستوى السياسي، تم التأكيد على احتواء التصعيد الإقليمي عبر “تعزيز نظام منع الانتشار النووي ومنطقة الشرق الأوسط الخالية من الأسلحة النووية، مع ضرورة تجديد جميع الأطراف للاتفاق النووي الإيراني”، كما انتصرت القمة للدولة الفلسطينية من خلال دعم انضمامها (دولة فلسطين المستقلة) إلى الأمم المتحدة، وإدانة الهجوم على السفارة الإيرانية، وتفجير أجهزة الاستدعاء “البيجر” في لبنان، والاحترام غير المشروط لسيادة سوريا وحماية سلامة أراضيها.

وعلى المستوى الاقتصادي، الدعوة لإصلاح الهيكل المالي العالمي من خلال إصلاح مؤسسات “بريتون وودز”، وهو نظام نقدي لتعزيز الاستقرار الاقتصادي الدولي وتسهيل التبادلات التجارية بين الدول من خلال تثبيت أسعار الصرف بين العملات الرئيسية والدولار الأمريكي، وكان مرتبطًا بسعر الذهب. بجانب العمل على دراسة إنشاء منصة نقل موحدة، ومنصة استثمارية جديدة تستخدم البنية التحتية لبنك التنمية الجديد، وتحويله إلى بنك تنمية متعدد الأطراف لدول الأسواق الناشئة، ودعم المبادرة الروسية لإنشاء “بورصة حبوب” تغطي قطاعات الزراعة الأخرى في المستقبل.

ختامًا، فإن إعلان القمة شهد توافقًا بين الرؤية المصرية ودول التجمع، في ظل تعزيز تعاون دول الجنوب للعمل على خلق وإحداث نوع من التوازن الاستراتيجي في النظام العالمي، وذلك على مستوى تحقيق الاستقرار السياسي ودوره في تحقيق التنمية الاقتصادية لدول التجمع.

+ posts

باحثة بالمرصد المصري

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى