
في الفترة الأخيرة سعت كل من مصر وتركيا إلى إعادة العلاقات بينهما وتطبيعها بصورة رسمية تدريجيًا، بعد مباحثات استكشافية متباطئة على مدار ثلاثة أعوام. وقد تبلور ذلك في النهاية بإعادة تعين السفراء في يوليو 2023 رسميًا. ويمكن الإشارة إلى العديد من الدوافع والمتغيرات الإقليمية بشكل خاص والدولية بشكل عام التي أدت إلى تسريع وتيرة التعاون بين البلدين والحرص المتبادل على وضع خطط جادة من أجل التوصل إلى رؤى متقاربة إزاء بعض الملفات الكبرى واستعادة العلاقات.
ومن المرتقب أن يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القاهرة وفقًا لدعوته من قبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ومن المتوقع أن تشمل الزيارة التباحث في العديد من الملفات المهمة والملحة للغاية حاليًا خاصة الإقليمية منها، وعلى رأسها الحرب الجارية على قطاع غزة من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة وأن القضية الفلسطينية تمثل إحدى القضايا المحورية لكلا البلدين. ومن المخطط كذلك أن يجري النقاش فيها حول الوضع في ليبيا وشرق المتوسط.
تحاول السطور القادمة الوقف على أهم محطات التعاون والتقارب خلال السنوات الماضية، وذلك بعد أن توترت العلاقات بين البلدين منذ 2013 مما أدى إلى تخفيض التمثيل الدبلوماسي بين البلدين والذي تمثل في سحب السفراء بدون إغلاق السفارات، مع إبقاء التعاون المحدود في بعض الملفات الاقتصادية خلال السنوات الماضية.
مباحثات “استكشافية” كبادرة للوصول إلى رؤى مشتركة في الملفات الخلافية الثلاثة
عُقدت جولات من المباحثات الاستكشافية بين كل من مصر وتركيا في عام 2021، وسميت بالاستكشافية كتعبير على أن المحادثات لا تزال في مرحلة بناء الثقة والتعرّف على أهداف كل دولة من المحادثات. وعقدت المباحثات الأولى في مايو بالقاهرة برئاسة نائب وزير الخارجية السفير حمدي سند لوزا، ونائب وزير خارجية تركيا السفير سادات أونال، لكن لم تأت تلك المباحثات بنتائج كبيرة والتي كان من المتوقع في نهايتها أن يتم الإعلان عن إعادة العلاقات الدبلوماسية، حيث لم يكن الجانب التركي على استعداد لتقديم تنازلات كبيرة في ذلك الوقت والتخلي عن مواقفه في بعض الملفات الخلافية المشتركة، لكنها كانت بداية إيجابية لمحاولات تقريب وجهات نظر الأطراف المختلفة.
واستمرارًا لمحاولات استعادة العلاقات، دعت تركيا إلى عقد جولة ثانية من المباحثات في سبتمبر من نفس العام في أنقرة، وقد حضر الوفد المصري برئاسة نائب وزير الخارجية السفير حمدي سند لوزا، واتفقت مصر وتركيا على مواصلة المشاورات الاستكشافية بينهما، وتأكيد رغبتهما في تحقيق تقدم في عدد من الملفات، فضلًا عن الحاجة إلى اتخاذ خطوات إضافية لتيسير تطبيع العلاقات بينهما. لكن أيضًا لم ترق تلك المباحثات إلى مستوى التوقعات المأمول منها في ذلك الوقت.
ولم يتم التوصل لاتفاق نهائي حول الملفات الثلاثة الخلافية، وطالب الوفد الدبلوماسي المصري بضرورة خروج المرتزقة والقوات التركية من ليبيا، تنفيذًا لقرارات مجلس الأمن، ووقف الاستفزازات في منطقة شرق المتوسط، ووقف دعم أنقرة لتنظيم الإخوان بشكل نهائي وتسليم المطلوبين منه للقاهرة، في حين تباطأت أنقرة في الموافقة على تلك الالتزامات.
عودة التمثيل على مستوى السفراء بين البلدين كمؤشر لتصاعد العلاقات
في خطوة تاريخية طال انتظارها، أعلنت أنقرة تعيين صالح موتلو شن سفيرًا لها في مصر، والقاهرة عينت عمرو الحمامي سفيرًا لها في تركيا في يوليو 2023، بهدف تأسيس علاقات طبيعية بين البلدين من جديد. وتأتي تلك الخطوة بعد لقاءات عديدة على مستوى الرئيسين وبين وزراء خارجية بلادهما، وعُدت تلك اللقاءات والزيارات عاملًا مهمًا أسهم في إذابة الجليد والجمود بين البلدين والترفع عن بعض القضايا الخلافية بينهما والنظر إلى مستقبل الدولتين والمصالح المشتركة بينهم.
ومن أبرز تلك الأحداث كان اللقاء الذي جمع الرئيس “السيسي” والرئيس “أردوغان” في الدوحة، وذلك على هامش حفل افتتاح كأس العالم لكرة القدم في قطر في نوفمبر 2022، والذي مثل مؤشرًا إيجابيًا للتقارب المصري الدبلوماسي في الفترة اللاحقة، وحسب تصريح “أردوغان” في ذلك الوقت، فإن هذا اللقاء كان خطوة جديدة في مسار التطبيع بين تركيا ومصر والذي أكد أنه سيزيد على مستوى وزاري.
والتقى الرئيسان مرة أخرى على هامش قمة مجموعة العشرين بالعاصمة الهندية نيودلهي، وأكد الرئيسان على أهمية العمل من أجل دفع مسار العلاقات بين البلدين والبناء على التقدم الملموس في سبيل استئناف مختلف آليات التعاون الثنائي. وأكد “أردوغان” أن بلاده ستعمل على مضاعفة حجم تجارتها مع مصر وإحياء مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين الطرفين، مشيرًا إلى أنه دعا الرئيس المصري إلى زيارة تركيا، وأن الوزراء المعنيين ورؤساء الاستخبارات سيعملون على تنظيم موعد الزيارة.
وفي نهاية عام 2023، التقى الرئيسان مرة أخرى في الرياض على هامش القمة العربية الاسلامية الاستثنائية، وتناول اجتماعهما متابعة التنسيق والتشاور بشأن تطورات الأوضاع في قطاع غزة، حيث تم استعراض الجهود الحثيثة على كافة الأصعدة لاحتواء الأزمة وتداعياتها الإنسانية، وتوافق الرئيسان في هذا الصدد بشأن ضرورة الوقف الفوري للقصف المستمر والعمليات العسكرية في قطاع غزة لتجنب تعريض المدنيين للمزيد من المخاطر وإزهاق الأرواح، وذلك للحيلولة دون المزيد من التردي للأوضاع الإنسانية لأهالي القطاع.
وعلى الرغم من أن اللقاءات السابقة بين الرئيسين لم تتناول بشكل مفصل القضايا الخلافية بين البلدين، إلا أنهما أعربا عن نيتهما لتقارب رؤيتهما، ولعقد مباحثات عميقة في الملفات الخلافية الثلاثة. ومن الجدير بالذكر أنه في الفترة الأخيرة، وبعد الحرب على قطاع غزة، ركزت النقاشات والمباحثات بين البلدين على القضية الفلسطينية وعلى الوضع الإنساني في القطاع، ويبدو أن البلدين قررا ضمنيًا التركيز على إيجاد أرضيات مشتركة في ملفات أخرى بعيدًا عن تلك الملفات الخلافية التي من الممكن ان تستغرق وقتًا طويلًا في الوصول إلى حلول مقاربة لوجهات نظر الطرفان.
وكما سبق الإشارة، فإن الزيارة المرتقبة لرئيس تركيا لمصر الشهر الجاري، سيكون ملف القضية الفلسطينية على رأس المباحثات التي ستجرى، وهو دليل على رغبة الطرفان في التركيز على الملفات المشتركة في الوقت الحالي.
تعاون في مجالات اقتصادية واجتماعية وعسكرية
خلال عام 2023 وبالتوازي مع رفع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مرة أخرى على مستوى السفراء، جرى العديد من اللقاءات المهمة على مستويات أخرى غير سياسية، والتي تشير إلى أن العلاقات بين البلدين لم تتطور فقط على الجانب السياسي، ولكن أيضًا على جوانب أخرى مهمة خلال السنوات الماضية. وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من سحب السفراء لكن استمر التعاون في المجالات الاقتصادية حتى وأن كانت بشكل محدود.
ومن أبرزاللقاءات الاقتصادية بين البلدين، لقاء أحمد سمير وزير التجارة والصناعة المصري، بمقر الوزارة بالعاصمة الإدارية الجديدة عمر بولات وزير التجارة التركي، على رأس وفد تجاري كبير يمثل مختلف القطاعات الصناعية التركية للمشاركة في الملتقى والمعرض الدولي الثاني للتصنيع وذلك خلال يومي 27 و28 أكتوبر2023. وقد أتت تلك الزيارة تلبيةً لدعوة من وزير التجارة والصناعة المصري التي وجهها إلى وزير التجارة التركي ومجتمع الأعمال؛ سعيًا نحو مزيد من تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين وتشجيع الاستثمارات التركية في مصر.
وانتهت الاجتماعات بين الطرفين ببحث إمكانية استخدام العملات المحلية في المبادلات التجارية بينهما، وإمكانية استفادة رجال الأعمال الأتراك من الحوافز التي تتيحها الدولة المصرية حالياً للمستثمرين الأجانب في هذه القطاعات الواعدة. وتم التأكيد أن حجم الاستثمارات التركية في السوق المصرية يتجاوز ملياري دولار، وإمكانية مضاعفة هذه الاستثمارات، والاستفادة القصوى من الإمكانات الاستثمارية الكبيرة في مصر لتكون محورًا صناعيًا لزيادة صادرات تركيا إلى قارتي أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وبما يسهم في زيادة حجم التبادل التجاري المستهدف بين البلدين خلال السنوات الخمس المقبلة ليتراوح بين 10 مليارات إلى 15 مليار دولار. وفي نهاية اللقاء تم توقيع إعلان مشترك حول العلاقات التجارية بين مصر وتركيا كما شهد الوزيران توقيع مذكرة تفاهم للتعاون المشترك بين اتحاد الصناعات المصرية ومجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي.
وعلى الجانب العسكري؛ بدأت مصر وتركيا في مباحثات حول إمكانية فتح آفاق للتعاون المشترك بين الجانبين في عدد من مجالات التصنيع العسكري، وذلك بحسب ما أعلنته وزارة الإنتاج الحربي والذي تم التوصل إليه خلال لقاء محمد صلاح الدين مصطفى وزير الدولة للإنتاج الحربي، وهالوك جورجن رئيس وكالة الصناعات الدفاعية التركية في نوفمبر 2023. واتفق الوزيران على أهمية البدء في المشاركة بين مصر وتركيا للتعاون لتصنيع أحد المنتجات التي يتم الاتفاق عليها بين الجانبين لتكون نقطة انطلاق لتعاون مستقبلي بين الشركات التركية والشركات المناظرة لها بالإنتاج الحربي. ودعا الوزير المصري الشركات التركية للمشاركة في معرض الصناعات الدفاعية والعسكرية EDEX 2023 الذي عقد خلال شهر ديسمبر 2023.
وعلى الجانب الاجتماعي؛ بحث رئيس الهيئة العامة للرعاية الصحية والمشرف العام على مشروعي التأمين الصحي الشامل وحياة كريمة بوزارة الصحة والسكان المصرية، ورئيس الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، سبل التعاون والتشارك فيما بين هيئة الرعاية الصحية والوكالة التركية في مختلف مجالات الرعاية الصحية، التي تسهم في تعزيز العلاقات في القطاع الصحي بين مصر وتركيا، وناقشا بدء عدد من المشروعات التنموية بقطاع الرعاية الصحية وبرامج دعم التغطية الصحية الشاملة.
وقد مثلت الجوانب الثلاثة السابقة في عام 2023 تصاعدًا موازيًا لتصاعد العلاقات السياسية في السنوات الأخيرة، وعكست حرص الطرفين على توثيق التعاون في ملفات أخرى مهمة ومشتركة. ورغم أن العلاقات بين البلدين حتى الآن لم تعد إلى الشكل الطبيعي، إلا أن التحركات المختلفة في مجالات بعيدة عن الملفات السياسية الشائكة بين البلدين تشير بشكل واضح إلى حسن نية الطرفان في توسيع قاعدة التعاون بينهم، والتي انعكست في مذكرات التعاون المشتركة في مجالات استثمارية وصحية، وأخيرًا عسكرية.
خلاصة القول؛ بالنظر إلى تطور العلاقات التركية المصرية خلال السنوات الثلاثة الماضية، يمكن القول إنها تأخذ منحنى تصاعديًا إيجابيًا، وحاليًا تنتهج الدولتان اللتان تجمعهما روابط عديدة سياسة جديدة في التعاون فيما بينهما تقوم على التركيز على “الملفات المشتركة الاتفاقية”، وربما تسعى الدولتان في الوقت الحالي إلى بناء أسُس قوية للعلاقات بينهما قائمة على الرؤى المشتركة والمجالات غير السياسة المهمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية ورغبة الطرفين في بذل كافة المساعي والجهود من أجل وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأيضًا التركيز على توقيع مذكرات مشتركة في ملفات اقتصادية وزيادة الاستثمار بين البلدين، وتبادل الخبرات في مجالات تطوير الرعاية الصحية بين الدولتين، بالإضافة إلى التعاون العسكري.
باحثة بالمرصد المصري