
تنعقد القمة الروسية الأفريقية الثانية في مدينة سانت بطرسبرج خلال الفترة من 27 يوليو إلى 28 يوليو 2023؛ بهدف تعزيز الجهود الرامية إلى تعزيز التعاون الشامل بين روسيا والدول الأفريقية في جميع المجالات، بما في ذلك: السياسة، والأمن، والعلاقات الاقتصادية، والعلوم والتكنولوجيا، والمجالات الثقافية والإنسانية. وفي هذا السياق، يستهدف المقال استعراض العلاقات الاقتصادية بين روسيا والدول الأفريقية، مع تحليل دوافع الطرفين لتعزيز علاقاتهما الثنائية، والتركيز على الملفات المتوقع مناقشتها خلال القمة.
النفوذ الروسي في القارة الأفريقية
تسعى روسيا إلى توسيع حضورها الاقتصادي في الأسواق الأفريقية وتعزيز التجارة والاستثمار بين الطرفين؛ من أجل تعظيم الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية والفرص الاستثمارية المتاحة في المنطقة بمجالات متنوعة مثل: النفط، والغاز، والتعدين، والبنية التحتية، لاسيما في ظل تشديد الخناق الأوروبي على الاقتصاد الروسي، وتصاعد العقوبات المفروضة عليه بسبب استمرار الحرب الأوكرانية، وفيما يلي أبرز نقاط التعاون بين روسيا والقارة الأفريقية:
• التعاون الاستثماري: تبلغ نسبة الاستثمارات الروسية في أفريقيا نحو 1% فقط من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر هناك. ورغم كون موسكو لا تأتي ضمن أكبر 10 مستثمرين بأفريقيا، فإنها مسؤولة عن القيام بعدد من المشروعات الاستثمارية الضخمة بالقارة الأفريقية؛ إذ تستثمر شركة “غازبروم” في مشروعات للغاز وبناء الأنابيب والبنية التحتية بمبلغ 500 مليون دولار في مختلف الدول الأفريقية، وكذلك شركة “لوك أويل” التي تضخ استثمارات تبلغ مليار دولار في إنتاج النفط في غرب أفريقيا.
وفيما يتعلق بمجال المعادن النادرة، تمتلك شركة “رينوفا” الروسية استثمارات في مجال المعادن في كل من: جنوب أفريقيا، والجابون، وموزمبيق، تبلغ أكثر من مليار دولار؛ وذلك في ظل تسارع السباق العالمي لاستخراج المعادن الأرضية اللازمة للصناعات التكنولوجية والعسكرية والضرورية لتسريع عملية انتقال الطاقة. وتعمل روسيا كذلك على توسيع استثماراتها في الليثيوم بأفريقيا، حيث يكتسب هذا المعدن على وجه التحديد أهمية خاصة في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، ولهذا فمن المتوقع ارتفاع الطلب على الليثيوم بحلول 2030 بحوالي 18 ضعفًا، وما يصل إلى 60 ضعفًا بحلول عام 2050.
• التبادل التجاري: بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول الأفريقية مجتمعة نحو 18 مليار دولار بحلول نهاية العام الماضي 2022، حيث ازدادت التجارة بين روسيا وأفريقيا باطراد من عام 2013 إلى عام 2022. ورغم زيادة حجم التجارة بشكل مطلق، فإنه يُعد ضئيلًا مقارنة بحجم التبادل التجاري بين أفريقيا وباقي الدول الكبرى حول العالم؛ إذ يبلغ نحو 295 مليار دولار مع الاتحاد الأوروبي، و254 مليار دولار مع الصين، ونحو 65 مليار دولار مع الولايات المتحدة.
وتتركز نحو 70% من تجارة روسيا مع أفريقيا في أربعة اقتصادات أساسية؛ وهي: الجزائر، ومصر، والمغرب، وجنوب أفريقيا، ولهذا تشكل هذه الدول حجر الزاوية في سياسة روسيا تجاه أفريقيا. والأهم من ذلك، تعتمد أفريقيا على روسيا في تأمين نحو 30% من إمداداتها من الحبوب، لاسيما القمح، وتتركز 80% من صادرات القمح وحدها في شمال أفريقيا (الجزائر ومصر وليبيا والمغرب وتونس). وإلى جانب التجارة، قامت روسيا بشطب ديون بقيمة 20 مليار دولار لدول من القارة الأفريقية من أجل التأكيد على أنها تعطي الأولوية لتنمية اقتصادات القارة الأفريقية.
وبالتحول صوب التجارة في مجال الطاقة، ارتفعت صادرات المنتجات النفطية المكررة الروسية –خاصة البنزين- إلى أفريقيا منذ الحرب الأوكرانية بنحو 14 ضعفًا في مدة تقل عن عام، حيث بلغت نحو 33 ألف برميل يوميًا قبل الحرب لتصل إلى 420 ألف برميل يوميًا بحلول مارس 2023، تتركز غالبيتها في نيجيريا وتونس وليبيا.
• مبيعات الأسلحة: ورغم تواضع حجم التجارة بين الجانبين، إلا أن موسكو لا تزال أكبر مصدر للأسلحة إلى أفريقيا، حيث تلقت الدول الأفريقية نحو 12% من صادرات الأسلحة الروسية في الفترة بين 2018-2022، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وبهذا تقدم روسيا دعمًا للدول الأفريقية من خلال تزويدها بالأسلحة وتدريب القوات الأمنية.
• التعاون في سبيل مواجهة الهيمنة الدولارية: صرح وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” أن بلاده والدول الأفريقية تتجه نحو إتمام التسويات التجارية بالعملات الوطنية، مضيفًا أن الطرفين يعدان وثائق بشأن إعادة ترتيب آلية للتعاون في هذا الشأن في ظل العقوبات الغربية، حيث تدرك روسيا أهمية تحقيق مكانة لعملتها المحلية في الاقتصاد العالمي، خاصة في ظل عقوبات التي تتصاعد ضدها؛ وذلك بهدف تخفيف وطأة تلك العقوبات المفروضة على قطاعات الطاقة والمال والتكنولوجيا الروسية، وتدويل العملة الروسية، إلى جانب مواجهة هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.
وقد روجت روسيا كذلك إلى أنها اتخذت موقفًا مدافعًا عن حقوق الدول النامية في القارة الأفريقية من خلال انسحابها من اتفاقية الحبوب التي أبرمتها مع أوكرانيا عام 2022 بادعاء أن شحنات الحبوب تركزت في الدول المتقدمة فقط دون الدول النامية والفقيرة، ورغم أن هذا الدافع لا يعد العامل الوحيد الذي دفع روسيا للانسحاب من الاتفاقية، فإنها لطالما نددت بعدم وصول شحنات كافية من الحبوب لدول العالم النامي، حيث أكد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أن بلاده قادرة على تعويض صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أفريقيا على أساس تجاري أو مجاني.
القمة الروسية- الأفريقية عام 2023
يأتي توقيت انعقاد القمة الروسية- الأفريقية في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي يعانيها العالم، لذا تبحث كلٌ من روسيا والقارة الأفريقية عن سبل لتعزيز التعاون الاقتصادي وتعظيم الاستفادة من إمكانات بعضهم البعض، حيث ترى روسيا أن الدول الأفريقية قد تساعدها على تخفيف حدة العقوبات المفروضة عليها، فيما تعتمد أفريقيا على موسكو في تأمين احتياجاتها الغذائية، خاصة في ظل اشتداد كافة العوامل التي تؤثر سلبًا على الأمن الغذائي للقارة. وكذلك يُمكن أن تساعد روسيا الدول الأفريقية في تحقيق أهداف أجندة 2063 خاصة تلك الهادفة إلى تنمية قطاع الطاقة وتعزيز عملية تحول الطاقة.
ومن المرجح أن يركز جدول أعمال القمة على إجراء مباحثات تستهدف تعزيز التعاون في الطاقة المستدامة والمتجددة والنووية، انطلاقًا من قدرة روسيا أن تلعب دورًا رائدًا في دعم مشروعات الطاقة بالقارة، إلى جانب تعزيز الأمن والسلم الإقليميين. ويُمكن أن تحتل اتفاقية الحبوب مكانة مهمة في المحادثات الثنائية بين روسيا والدول الأفريقية؛ فمن الممكن أن تستخدم موسكو ملف الحبوب لتوطيد علاقاتها بشكل أكبر مع دول القارة بعدما انسحبت من الاتفاقية الأممية، ومن شأن ذلك أن يتيح لروسيا أن توقع اتفاقات ثنائية بشأن تصدير الحبوب مع عدد من الدول الصديقة في أفريقيا.
والجدير بالذكر أن القمة الروسية- الأفريقية الأولى قد انعقدت عام 2019 في سوتشي، وقد نتج عنها توقيع 92 عقدًا ومذكرة تفاهم بقيمة تم الكشف عنها علنًا تبلغ 1.004 تريليون روبل (12.5 مليار دولار)، وتركزت نتائجها على العديد من الجوانب: السياسية، والأمنية، والتكنولوجية، والاقتصادية. وبالتركيز على الجانب الاقتصادي، فقد تم إطلاق منتدى شراكة روسيا أفريقيا وتحديد قمة روسيا – أفريقيا كالهيئة العليا لهذا المنتدى والتي ستعقد مرة واحدة كل ثلاث سنوات.
وجرى خلالها الاتفاق على تضافر الجهود لدعم التجارة والاستثمار والتنمية المستدامة بهدف إعطاء النظام الاقتصادي العالمي، ودعم رجال الأعمال الروس والأفارقة في دراسة سبل التعاون المتبادل المنفعة، مع اتخاذ خطوات لتحديد المجالات الواعدة للشراكة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين روسيا الاتحادية والاتحاد الأفريقي والمنظمات الإقليمية الرائدة في أفريقيا، وكذلك بذل الجهود للزيادة الملحوظة للتبادل التجاري بين روسيا والدول الأفريقية وتنويعه بما في ذلك عن طريق زيادة حصة المنتجات الزراعية في عمليات الاستيراد والتصدير، إلى جانب تعزيز التعاون في مجال تأمين الطاقة من خلال تشجيع تنويع موارد الطاقة، تقديم المساعدة المطلوبة للشركات الروسية الكبيرة العاملة في الأسواق الأفريقية ولرجال الأعمال من الدول الأفريقية.
ختامًا، يتبين من التحليل السابق أن الدوافع الحقيقية للنفوذ الروسي في أفريقيا تكمن في تعزيز مصالحها الجيوستراتيجية نظرًا لكون الدول الأفريقية سوقًا محتملة للسلع الروسية، وفرصة لتوسيع النفوذ الاقتصادي والتجاري لها. إضافة إلى ذلك، تسعى موسكو إلى تعزيز حضورها الجيوسياسي في القارة وزيادة تأثيرها السياسي والعسكري.
باحثة ببرنامج السياسات العامة



