انتكاسة مقلقة.. انتخابات فرعية تهدد حزب المحافظين البريطاني
لا يزال حزب المحافظين البريطاني بقيادة “ريشي سوناك” يتلقى العديد من تضاف إلى قائمة التقلبات والعقبات التي تواجه الحزب الحاكم في بريطانيا منذ 13 عامًا وتهدد استمراره في الحكم. ولعل العقبة هذه المرة آتية من رئيسه السابق “بورس جونسون” الذي استقال من مقعده هو واثنين آخرين، ما جعل المنافسة من أجل الحصول على مقاعدهم الشاغرة تشتعل بين الأحزاب السياسية، وتكشف عن التنبؤات المستقبلية وما قد تحمله الانتخابات العامة المقبلة من نتائج.
شهد البرلمان البريطاني تنافسًا حادًا على ثلاثة مقاعد كانت تابعة لحزب المحافظين قدم ممثلوها استقالتهم بشكل متزامن، فالأول كان لرئيس الوزراء البريطاني السابق “بوريس جونسون” والذي يمثل منطقة “أوكسبريدج- ساوث رايسليب” في لندن، ومقعد النائب “نايجل أدامز” في منطقة “سلبي- آينستي” شمال البلاد، ومقعد النائب “ديفيد واربرتون” في منطقة “سومرتون- فروم” في جنوب غرب إنجلترا، وهي مناطق تعد بالأساس معقلًا للمحافظين.
وعقب استقالة النواب، أجريت انتخابات فرعية لشغل المقاعد الفارغة. ووفقًا لتوقعات الأغلبية قبل إعلان النتائج، كانت الآراء تتجه نحو أكبر خسارة حتمية لحزب المحافظين الذي تتراجع شعبيته بشكل كبير بين الناخبين البريطانيين عقب الأزمات الأخيرة التي عكست مدى عدم الرضا الشعبي عن سياساته الأخيرة. وبالرغم من أن التوقعات كانت تنذر بهزيمة لا تُنسى في انتخابات مبكرة لصالح “حزب العمال” بقيادة “كير ستارمر”، وهو ما كان يخشاه “سوناك”، فإن النتائج لم تقدم لأي من الحزبين الكبيرين سواء المحافظين أو العمال ما كانا يرجوانه منها.
فوزٌ وحيدٌ للمحافظين وخسارة تثير الشكوك المستقبلية
أسفرت النتائج عن فوز الأغلبية المحافظة بمقعد “جونسون” القديم، وذلك بعد منافسة شرسة تطلبت إعادة فرز الأصوات بعد أن جاءت النتائج متقاربة جدًا (13 ألفا و965 صوتا، مقابل 13 ألفا و470 صوتا لمرشح حزب العمال). وبالرغم من أنه انتصار وحيد للمحافظين في تلك المعركة الصغيرة، فإن “سوناك” يراه فوزًا جزئيًا أفضل من هزيمة مهينة؛ إذ أن حينها كان سيصبح أول رئيس للحكومة يخسر ثلاثة مقاعد في يوم واحد منذ أكثر من خمسين عامًا.
وأكد “سوناك” ردًا على حزب العمال واستطلاعات الرأي التي تتنبأ بخسارة المحافظين الانتخابات العامة المقبلة خسارة مطلقة أن هذه النتيجة الفرعية ما هي إلا إشارة قوية على أن الانتخابات القادمة هي انتخابات غير محسومة، وستحمل في طياتها العديد من المفاجآت.
وهذه التصريحات الواثقة تحمل بداخلها قلقًا وشكًا كبيرين، “فسوناك” لا شك كان يتوقع هو الآخر خسارة المقاعد الثلاثة جميعها، خاصة وأنه على دراية كاملة بحالة الغضب الشعبي بين الناخبين حول سياسات حكومته الاقتصادية والاجتماعية؛ إذ تزامنت هذه الانتخابات مع إضرابي عمال السكك الحديد والأطباء بسبب نظام الضمان الصحي، الأمر الذي سيعكس هشاشة الحزب مستقبلًا حال دخوله في انتخابات مصيرية العام القادم، في ظل الهزائم والسمعة السيئة التي تلاحق حزبه بدءًا من استقالة “جونسون” بفضائح الحفلات التي أقيمت في “10 داونينج ستريت” خلال حالة الإغلاق التي تسببت بها جائحة كوفيد-19، والاتهامات بتعمد تضليله للبرلمان في أكثر من مرة، و”ليز تراس” التي استقالت بعد 49 يومًا من تسلمها مهامها وإثارتها حالة من الجدل بإعلان التخفيضات الضريبية التي أثارت الذعر في الأوساط المالية.
وعن تداعيات هذه الانتخابات على مستقبل الحزب، فتشير الأرقام إلى أن أكثر من 40 نائبًا محافظًا قرروا عقب نتيجة الانتخابات الفرعية عدم الترشح للانتخابات العامة المقبلة، وكان آخرهم وزير الدفاع البريطاني “بن والاس”، الذي أعلن عن عدم دخوله السباق على عضوية البرلمان العام المقبل. وبالطبع هناك أسباب متعددة للانسحاب وفق أصحابها، ولكن “الخشية من الخسارة” هي التفسير الأقرب، وربما يريد أغلبهم الابتعاد عن الانتقادات التي تطال الحزب بشكل عام منذ عامين بغض النظر عن كفاءة النواب –إن وُجدت- وإعطاء الفرص لوجوه جديدة لم تطلها “النقمة الشعبية”.
وفي عمليات الاقتراع الثلاث، تراجعت نسبة مؤيدي المحافظين 21 نقطة مئوية مقارنة بالانتخابات الأخيرة في 2019 التي فاز بها المحافظون بأغلبية ساحقة من خلال توحيد ائتلاف من ناخبي حزب العمال السابقين والمؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والمتشككين في الهجرة في شمال إنجلترا مع المحافظين الأكثر تقليدية والأثرياء في الجنوب. ولكن في هذه الانتخابات، خسر المحافظون أكثر من 26% من أصوات مؤيديهم في منطقة “سيلبي وآينستي” شمال إنجلترا، ونحو 30% في “سوميرتون وفروم” جنوب غربي البلاد، إضافة إلى نحو 6% في “أوكسبريدج”.
وقد تراجع الإقبال على التصويت أيضًا ليبلغ نحو 45% مقابل أكثر من 70% في المتوسط قبل أربع سنوات. وعلى كلٍ، لم تؤثر الانتخابات الفرعية على الأكثرية المطلقة لحزب المحافظين في مجلس العموم، ولكنها قلصت حصة الحزب الحاكم في المجلس مقعدين إلى 351 مقعدًا من أصل 650 مقعد. أما عن شعبية “سوناك” فوفقًا لإحصاءات “YouGov”، تراجعت بشكل ملحوظ خلال الأشهر الماضية، حيث انخفض معدل التأييد الصافي له مع انتهاء هذه الدورة البرلمانية إلى -40 بعد أن كان -32، وهو أدنى تصنيف منذ قدومه إلى رئاسة الحكومة في أكتوبر 2022، بجانب أن 65%، أي ما يقرب من ثلثي البريطانيين، لديهم وجهة نظر سلبية عنه.
المعارضة البريطانية بين تقدم وتراجع
على الجانب الآخر، فاز حزب العمال بزعامة “كير ستارمر” بمقعد واحد أيضًا لصالح “كير ماذر” البالغ من العمر 25 عامًا، ليصبح أصغر نائب في مجلس العموم، وليصبح عدد مقاعد الحزب 197 مقعدًا، وذلك بعدد أصوات بلغ 16 ألفا و456 صوتًا مقابل 12 ألفًا و295 صوتًا لحزب المحافظين، بعد أن كان يتمتع المحافظون بأغلبية 20 ألف صوت قبل الانتخابات. وهذا المقعد بالمناسبة يعود لـ ” نايجل آدامز” المستقيل إثر مشكلات حليفه “بوريس جونسون”، وبسبب احتجاجه على عدم منحه مقعدًا في مجلس اللوردات.
وبالرغم من تمتع حزب العمال بتأرجح قدره 23.7 نقطة مئوية، أي ما يقرب من ضعف نسبة الـ 12% التي يحتاجها على الصعيد الوطني للفوز بأغلبية في الانتخابات المقبلة، فإن الحزب يرى هذا الفوز غير مرضٍ بعد منافسته بشكل قوي جعلته متأكدًا من اقتناص كل المقاعد بسهولة وضمان رئاسة الحكومة العام المقبل؛ نظرًا لما تؤكده استطلاعات الرأي.
ورغم محاولات “ستارمر” إظهار نفسه وحزبه كمنتصرين عقب إعلان النتيجة، فإنه لم يسلم من الانتقادات التي طالته من داخل حزبه، والتي كشفت عن الصراعات الداخلية بين أعضاء الحزب والتصدعات التي تؤكد عدم الاتفاق على سياسات “ستارمر” بشكل عام، والتي تتعلق بمكافحة التلوث في لندن والتراجع عن بعض الالتزامات المعززة للأسر لتحسين مستوى المعيشة بشكل خاص، وهو ما قد يعترض طريق الحزب ويمنعه من الوصول إلى السلطة.
ويعاني حزب العمال من جدل قائم حول ضريبة المركبات الملوثة للهواء والمعروفة باسم “برنامج أوليز” لخفض الانبعاثات الكربونية عبر تقليص دخول الآليات –المقدرة بنحو 90% من السيارات ذات الملكية الخاصة في لندن- التي تصدر كميات كبيرة من الغازات السامة، وهي ضريبة تبلغ 12.5 جنيهًا إسترليني يوميًا (16 دولارًا) يسعى الحزب لتمديدها في ظل عدم شعبيتها. ولعل عدم قبولها هو السبب وراء تراجع حزب العمال في هذه الانتخابات وخسارة مقعد “جونسون” في لندن؛ إذ يجادل الرافضون بأن فرض ضرائب جديدة على المواطنين في العاصمة لا يشير إلى تفهم حزب العمال للأوضاع الاقتصادية الراهنة.
أما المقعد الأخير، فكان من نصيب الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي لديه 17 مقعدًا في المجلس، بعدد 21 ألفًا و187 صوتًا مقابل 10 آلاف و179 صوتا للمحافظين، بعد أن كان يتمتع حزب المحافظين بأغلبية تصل إلى 19 ألف صوت قبل الانتخابات. والجدير بالذكر أن الحزب الديمقراطي يسابق الزمن بالفعل ويستغل فرصة التنافس الشرسة بين المحافظين والعمال ليتقدم بخطوات ثابتة ويكون ثالث قوة سياسية في البلاد، وبالرغم من عدم تصدر الحزب الليبرالي المشهد، فإن ذلك لا يمنع أن تكون غايته هو اقتناص المقاعد البرلمانية من كلا الحزبين الرئيسين.
مؤشرات ودلالات
بموجب القواعد الحالية، كان يمكن “لسوناك” أن يدعو إلى انتخابات مبكرة في أي وقت خلال الـ 18 شهرًا المتبقية، ولكن صناديق الاقتراع أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن المحافظين لم يعد لهم فرصة للفوز في مناطق كثيرة على امتداد المملكة المتحدة، بما في ذلك تلك التي عرفت لسنوات طويلة كمعاقل للحزب الأزرق.
ولهذا، دعا أعضاء بحزب المحافظين البريطاني، رئيس الوزراء “ريشي سوناك” إلى تغيير استراتيجيته وإجراء تعديلات بمجلس الوزراء، وعليه أن يحقق ما يشبه “المعجزة الاقتصادية” قبل الانتخابات القادمة، والكشف عن سياسات جديدة لخلق خطوط فاصلة مع المعارضة العمالية، خاصة فيما يتعلق بـ: تخفيف خطة الحكومة الصفرية البيئية، واحتواء الهجرة غير الشرعية، وترويض التضخم الذي يسير بأعلى معدل في مجموعة الدول السبع (7.9%)، وإصلاح خدمة الرعاية الصحية المؤممة، واحتواء الإضرابات العمالية. ولكنه إذا استمر بسياساته الحالية دون تغيير، فإنه قد يواجه في القريب العاجل دعوت بالاستقالة، ما يعزز موقف حزب العمال.
وتشمل قائمة الأحزاب السياسية في المملكة المتحدة أكثر من 15 حزبًا أكبرها حزب العمال من حيث عدد الأعضاء، وهناك تحديدًا 13 حزبًا يمثلون الشعب البريطاني في البرلمان الحالي، مع العلم أن الغالبية الساحقة من المقاعد تتوزع بين: “المحافظين”، و”العمال”، و”الليبراليين الديمقراطيين”، و”الخضر”، و”القومي الإسكتلندي”، و”شين فين”، و”الاستقلال”، و”الوحدوي الديمقراطي”.
وتتوقع استطلاعات رأي حديثة فوز حزب العمال في الانتخابات العامة المقبلة بتأييد أكثر من 48% من البريطانيين، مقابل 23% فقط من الناخبين لحزب المحافظين. ووفقًا لاستطلاعات رأي أخرى، توقع 14% أن تكون الحكومة المقبلة ائتلافية بين العمال وحزب آخر، و9% رجحوا أن تكون حكومة ائتلافية بقيادة الحزب الأزرق.وبشكل عام، سترفع هذه الانتخابات من حجم الاستقطاب السياسي في بريطانيا قبل عام كامل من الانتخابات العامة، خاصة وأن هذه الانتخابات أثبتت أنه لا يوجد حزب بعينه ستحسم الانتخابات لصالحه، وأنه سيتعين على كل حزب منافس أن يزيد من جهوده لإقناع البريطانيين الناقمين بسبب الوضع الاقتصادي والاضطراب السياسي واستمالتهم. ويبدو أن المحافظين بفوزهم -ولو بمقعد- قد تجدد لديهم الأمل في أنهم قادرون من خلال “إصلاحات بسيطة” ضمن نطاق الوقت الممنوح لهم أن يستعيدوا الثقة في الناخبين من جديد؛ وذلك استشهادًا بما جرى بين عامي 1987 و1992، عندما خسر المحافظون الانتخابات الفرعية خلال هذه السنوات، ثم استردوا كل مقعد خسروه في انتخابات البرلمان عام 1992، الأمر الذي يعكس أيضًا أن استطلاعات الرأي لا يمكن المراهنة عليها في وقت مبكر.