ليبيا

ليبيا والمقاربة المصرية للحل: عدم الارتهان لأي طرف وتدشين مسار دستوري وبناء الدولة

في ظل استمرار عسكرة الملف الليبي من جانب بعض الأطراف التي تؤدي أدورًا وظيفية، تحديدًا لجهة دعم القوى والعناصر الميلشياوية في الغرب الليبي؛ فإن أفق الحل يتلاشى. هذا الوضع يفاقمه الفاعلون الخارجيون في ليبيا عبر فرض الصراع الميداني المتخم بالتناقضات التي تعكسها مصالح القوى الدولية. 

وفيما يبدو أن الأطراف الخارجية وأطرافًا إقليمية تعمد إلى إفلات الأوضاع بحيث تجعل درجة السيولة تسمح لها بحركة أوسع في هذا البلد الذي يطل على أوروبا ويحمل ثروات استراتيجية يسيل معها لعاب الغرب وواشنطن وروسيا وبخاصة من النفط.

هنا، نجد أن الإخفاقات تلاحق أي تسوية سياسية محتملة، بينما يجري تعميم الفشل أو بالأحرى فرضه قسرًا على إمكانيات الحل السياسي. ولذلك، لم يكن بمقدور رئيس الوزراء الليبي المكلف من البرلمان فتحي باشاغا أن يجمع التناقضات التي تضرب القوى المحلية ويجعلها تصطف أمام وصوله لمنصب الرئيس. 

وكما هو الحال، ترافق ظهور القوة الخشنة بيد العناصر الميلشياوية مع الحالة السياسية التي تعبر عنها، وقد قام كل من باشاغا وعبد الحميد الدبيبة (رئيس الوزراء المنتهية صلاحيته) بزيارات متكررة لأنقرة. وثمة محاولات لإنهاء الصراع قد ألمحت إليها عدة أنباء مسربة بخصوص لقاء جمع عقيلة صالح وخالد المشري لمناقشة الخلافات المتعلقة بالقاعدة الدستورية، وذلك بعد زيارتهما للعاصمة التركية نهاية يوليو الماضي. ويفترض أن يؤشر ذلك على الإعلان عن موعد نهائي للاستحقاق الانتخابي المؤجل منذ نهاية العام الماضي. ويكاد لا يختلف السياق الأخير عما تكشف عنه الزيارة التي قام بها رئيس مجلس النواب الليبي إلى الدوحة. 

غير أن الدور الوازن للقاهرة الذي يحاول فك الارتباطات المعقدة، وكذا إنهاء عملية خلط الأوراق؛ يتعقب طبيعة التحالفات السياسية والميدانية القائمة وعلاقاتها العضوية بالأطراف الخارجية. الدور المصري اللافت يأخذ بعين الحسبان حضور الأجسام السياسية والعسكرية التي تفرغ طاقاتها بعنف كلما اشتد الصراع الجيوسياسي بين الأطراف الدولية وتحديدًا في ظل قمة العالم التي تتشكل من جديد.

ثمة جملة من المبادئ السياسية تحافظ عليها القاهرة بصورة استراتيجية وهي تتحرك في الملف بمرونة تكتيكية. لا يتراجع الموقف المصري عن ضرورة إنهاء الميلشيات كحالة سياسية وعسكرية؛ فالجبهة الغربية تعد جيبًا مؤثرًا ينبغي إغلاقه بحيث لا تتمدد من أطرافه مخاطر الإرهاب الأممي. وتتمسك الإدارة المصرية كذلك بالمسار الدستوري الذي سيشكل الانتخابات القادمة.

ذلك الموقف المصري الذي يمتاز بتغليب كافة الأدوات السياسية والمؤسساتية بدون صخب أو تبديد طاقة انفعالية يواصل دوره المحوري للقبض على الأطراف المتفلتة. ففي الشهر الماضي، زار رئيس مجلس النواب الليبى، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، القاهرة. ثم أيدت الأخيرة شرعية حكومة باشاغا المكلفة من قبل البرلمان، ونهاية ولاية حكومة الدبيبة. وظهر ذلك بجلاء مع انسحاب الوفد المصري من اجتماعات الجامعة العربية، مطلع سبتمبر الجاري. وذلك للاحتجاج على شغل نجلاء المنقوش، وزيرة خارجية حكومة الدبيبة، مقعد ليبيا أثناء الدورة الحالية للجامعة. 

الصياغة أو بالأحرى المقاربة السياسية، النظرية والعملية، التي تنفذها الإدارة السياسية المصرية في ليبيا مفادها تجسير الثقة عبر تفاهمات مباشرة بين مجلسى النواب والدولة بحيث يمكن، عبر إحياء مؤسسات الدولة، صياغة قاعدة دستورية لتدشين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

وعلى ما يبدو، فإن الموقف الأمريكي يتوافق مع تلك الرؤية المصرية، لا سيما أن سفير واشنطن لدى ليبيا صرح بجملة مقولات تصطف مع الأهداف ذاتها. وطالبت السفارة الأمريكية بليبيا بضرورة إنهاء العمل على خارطة طريق للانتخابات. وغردت السفارة عبر حسابها الرسمي على “تويتر”، أنه قد مر قرابة العام منذ أن سجل الملايين من الليبيين للتصويت والانتقال إلى حقبة جديدة من السلام والاستقرار والوحدة الوطنية، بينما دعت قادة ليبيا إلى الوفاء بوعودهم وإنهاء العمل على خارطة طريق للانتخابات.

وقالت السفارة: “بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية نحتفل اليوم بالديمقراطية كنظام يستجيب لإرادة الشعب لصالح الجميع”، وأضافت “الديمقراطية تضع الحكم في أيدي الشعب وللمواطنين دور مهم في تعزيز الديمقراطية سواء عن طريق التصويت أو تعزيز الشفافية أو محاربة الفساد”.

وعلى تخوم الأحداث الساخنة في ليبيا، تتبدى قيمة مركزية بخصوص ملف الطاقة الذي بات يحتل قمة العالم، وتحديدًا بالنسبة لأوروبا وواشنطن. فضلًا عن أن الاعتبارات الجيوسياسية لليبيا تفرض اعتباراتها الإقليمية والدولية، بما يستدعي ضرورة الاستقرار والحل.

وبالمحصلة، فإن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تحركاته الخارجية يدرك المتغيرات المرحلية في ليبيا، وطبيعة النشاط الذي تقوم به القوى في الشرق الليبي، ويدعم إتمام مهمة بناء حكومة بعد الاستحقاقات الانتخابية عبر توافقات جمة تبدأ من الداخل وتنتهي عند القبول الإقليمي والدولي.

المسار التوافقي الذي تعتمده القاهرة أن تدعم حكومة من اختيار مجلس النواب، مع إدراك المساعي الرافضة لتصفية الوجود العسكري والميلشياوي في الغرب. والفترة القادمة رغم انفتاحها على جملة سيناريوهات إلا أن الواقعية السياسية تؤشر إلى احتمالية لتنفيذ وتحقيق المقاربة المصرية للحل. وبالدرجة التي سوف تسمح بها التوافقات البينية مع الأطراف الفاعلة إقليميًا ودوليًا، ستنخفض حالة التشظي والانقسام لصالح تعزيز قدرات الدولة الليبية، اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى