
انعكاسات البنية التحتية للتعليم على منظومة الإصلاح (1): الموارد المادية
مصطلح البنية التحتية يعني القاعدة الأساسية لأي مشروع وما يرتبط بتلك القاعدة من هياكل تنظيمية، وفي التعليم يمكن تحديد ثلاثة موارد أساسية للبنية التحتية، الأولى: الموارد المادية وما تضمه من أبنية تعليمية ومشتملاتها ومرافقها، والثانية: الموارد البشرية من معلمين وإداريين، والثالثة: البنية التحتية التكنولوجية سواء المستخدمة في أنظمة إدارة التعليم أو كوسائط تدريسية. هذه الموارد الثلاثة تؤثر في أي مدخلات أو إصلاحات مستهدفة، لذا تسعى هذه الدراسة إلى تحليل الوضع الراهن لكل مورد، وبحث توافق البنية التحتية وأهداف مشروع إصلاح التعليم في مصر.
وظائف المدرسة وتطور مفهومها
تمثل المدرسة المؤسسة الأساسية الي تضمن تشكيل وعي النشء بما يعكس فلسفة وخصائص المجتمع، وتعد العامل الثاني بعد الأسرة المنوط به تحقيق التنشئة الاجتماعية للأفراد بما يحفظ النسق القيمي للمجتمع، ويصون تراثه وأصالته؛ وذلك من خلال الحفاظ على تفعيل واستمرار التواصل بين الأسرة والدولة، فالمدرسة تمثل الوسط المثالي للتفاعل الاجتماعي الموجه بين المعلمين والمتعلمين من خلال قنوات تواصل تعكس فلسفة الدولة وأهدافها مثل: المناهج التعليمية، والأنشطة، وغيرها. وتتعدد وظائف المدرسة وتختلف باختلاف المراحل التعليمية، وباختلاف نوع المدرسة، إلا أن جميعها تتفق في هدف واحد وهو إعداد المواطن الصالح.
تتكون المدرسة كأي مؤسسة من مدخلات، ووظائف، وممارسات حيوية، وعمليات إدارية وإنسانية معقدة، وفي النهاية مخرجات ونتائج؛ لتحقق ما عهده إليها المجتمع من مسؤولية لإعداد أفراده بما يعكس فلسفته ويحقق تماسكه. وتعد وظيفة الحراك الاجتماعي ودمج الأفراد في المجتمع من أبرز وظائف المدرسة، فتعد المدرسة اللبنة المركزية للعلاقات الاجتماعية المتعددة، وهي المكان الأول الذي يحقق هدف الانتماء للمجتمع ويحافظ على الهوية من خلال نقل التراث الثقافي الموروث من جيل إلى آخر.
أما على مستوى الأفراد، فتعزز المدرسة تنمية القدرات الإبداعية والعلمية، وتشبع الفضول المعرفي لدى الطلاب، كذلك تعزز توفير مناخ مناسب يحقق ممارسة الديمقراطية من خلال تنفيذ بعض الأنشطة كانتخاب رواد الفصول، أو المشاركة في الإذاعة المدرسية، وغيرها من الأنشطة. وتلعب المدرسة دورًا مهمًا في دعم الصحة النفسية والاجتماعية للطلاب؛ فدور المدرسة لم يعد مقتصرًا على التعليم الأكاديمي فقط، بل تطور ليصبح المجتمع الذي تتكون فيه شخصية الطالب نتيجة تفاعله مع زملائه ومعلميه.
وقد فرضت التحولات العلمية والسياسية المعاصرة تغيرًا على شكل التعليم بشكل عام والمدرسة بشكل خاص، فقد أصبحت جودة التعليم ضرورة اجتماعية تسعى إليها الدول وتتنافس عليها. وتضم معايير جودة التعليم جودة المدرسة كأبنية وأثاث، وكذلك كقوة بشرية فاعلة في المجتمع من خلال مواردها البشرية سواء عاملين، أو معلمين، أو متعلمين.
وعلى صعيد آخر فرض التطور التكنولوجي تطورًا في شكل الفصول الدراسية وأحيانًا المدرسة، فظهرت الفصول الافتراضية ضمن تفعيل التعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد، وكذلك ظهرت المدارس بلا أسوار كمصطلح يعزز اندماج المدرسة مع المجتمع المحلي، الأمر الذي جعل العديد من الدول تسعى إلى مراجعة أنظمتها التربوية والتعليمية ومراجعة مواصفات المدرسة مراجعة جذرية تهدف إلى تحقيق معايير الجودة الدولية.
وقد أحدثت قضية جودة المدرسة مؤخرًا جدلًا بين التربويين وصانعي السياسات التعليمية؛ إذ ركزت معظم اهتمامات مخططي السياسات التعليمية على عدد الطلاب في الفصل، ونصيب الطالب من مساحة الفصل، كذلك نصيبه من مساحة المدرسة، على حساب ثقافة المدرسة ودورها في خدمة المجتمع المحلي، ومدى توظيف التكنولوجيا فيها بما يحقق متعة التعليم.
معضلة الفصول والكثافة
تعد الفصول وحدة قياس البنية التحتية المادية في التعليم، وبمعنى أدق هي وحدة قياس الأبنية التعليمية، والتي على أساسها يتم تحديد تكلفة تقديم الخدمة التعليمية في المدرسة، وما يتضمنها من توفير الأثاث المدرسي، والمرافق الأساسية من مياه وكهرباء وإنترنت، والمُعدات المُساعدة لإتمام العملية التعليمية من معامل ومكتبات، ومعلمين، مع أهمية الاحتفاظ بكثافة مُناسبة تضمن نجاح العملية التعليمية.
وبسبب التضخم السكاني، تظل معضلة الكثافة وبناء الفصول سباقًا غير متكافئ؛ فعلى مدار الخمس سنوات الماضية ارتفعت معدلات نمو الطلاب بنسبة قدرها 16.89%، وفي المقابل سجلت معدلات بناء فصول جديدة نسبة قدرها 10.16% فقط، وفق ما جاء في الكتاب الإحصائي الصادرة عن وزارة التربية والتعليم شكل (1).
وعلى الصعيد النوعي والمرحلي، شهد نمو أعداد المدارس الحكومية خلال الخمس سنوات الماضية تباينًا واضح شكل (2)، حيث سجلت مدارس التربية الخاصة “لأصحاب الهمم وذوي الاحتياجات الخاصة” أعلى معدلات بناء بنسبة قدرها 19.51%. وعلى الرغم من أن هذا الرقم يعكس الاهتمام البالغ بذوي الهمم إلا أنه يتعارض وقرارات الدمج التي تم اعتمادها عام 2017 وتم تعديلها العام الجاري بحيث تسهم في تسهيل قبول قيد الطلاب من ذوي الإعاقة البسيطة بالمدارس الحكومية ودمجهم مع أقرانهم وفق اشتراطات محددة أهمها اختبارات نسبة الذكاء بالإضافة إلى التقارير الطبية.
تقع مدارس الثانوية العامة في المرتبة الثانية ضمن أعلى معدلات بناء خلال الخمس السنوات الماضية بنسبة قدرها 11.04%، وعلى الرغم من تفشي ظاهرة الغياب الجماعي من مدارس الثانوية العامة إلا أن نمو أعداد هذه المدارس يبدو منطقيًا؛ نظرًا إلى الإقبال الشعبي عليها بدافع الهروب من الوصم المجتمعي للمدارس الفنية المعروفة “بالدبلوم”.
تأتي مدارس مرحلة ما قبل التعليم الابتدائي والمعروفة برياض الأطفال في المرتبة الثالثة؛ فقد نما بناء هذه المدارس خلال الخمس سنوات الماضية بنسبة قدرها 10.15%، ويعزى ذلك إلى المخصصات المالية المحددة لهذه المرحلة ضمن مشروع البنك الدولي لإصلاح التعليم المصري، فقد حددت وثيقة البنك الدولي 100 مليون دولار لتطوير وإتاحة التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة كمكون أول ضمن المكونات الأربعة لمشروع الإصلاح.
تحتل المدارس الإعدادية المرتبة الرابعة بنسبة 9.52%، تليها مدارس الثانوي الفني الصناعي بنسبة 8.37%، ثم مدارس الثانوي الفني التجاري بنسبة قدرها 6.23%، ثم مدارس الثانوي الفني الزراعي بنسبة 5.76%، ثم مدارس المرحلة الابتدائية بنسبة قدرها 4.45% فقط على الرغم من كونها أكبر مرحلة من حيث عدد الطلاب، ثم بعدها تأتي مدارس الثانوي الفني الفندقي بنسبة 3.26%ـ، وأخيرًا مدارس التعليم المجتمعي بنسبة قدرها 0.27% من إجمالي معدلات بناء المدارس خلال الخمس سنوات الماضية وفق كتاب الإحصاء السنوي الصادرة عن وزارة التربية والتعليم.
وإجمالًا، ستحتاج وزارة التربية والتعليم إلى 60 ألف فصل دراسي جديد لملاحقة الزيادة السكانية بحسب التقديرات الواردة بالعدد (19) من الدورية النصف سنوية “إحصاء مصر” الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في شهر يونيو الماضي، الأمر الذي يجعل الالتزام ببناء المدارس لمُجاراة الزيادة في أعداد الطُلاب الناتجة عن ارتفاع مُعدلات النمو السُكاني مكمن التحدي.
محاولات وتداعيات
نحو مجابهة تداعيات معضلة الفصول والكثافة، تضاعفت المخصصات المالية للأبنية التعليمية من 1.9 مليار جنيه عام 2012 إلى 9.25 مليار جنيه عام 2020، بيد أن هذا التضخم الهائل في التكاليف لم يكن كافيًا، لذا لجأت وزارة التربية والتعليم إلى محاولات متعددة للتغلب على هذه الأزمة يمكن حصرها فيما يلي:
1 – تطبيق نظام الفترات:
يعتمد هذا النظام على تقسيم اليوم الدراسي إلى فترتين أو ثلاث فترات، بحيث يتناوب الطلاب من ذات المرحلة على المدرسة بهدف تقليل كثافات الفصول، ويتم تقليص ساعات اليوم الدراسي لأقصى حد بما لا يتجاوز الثلاث ساعات، ويتم على إثره إلغاء الأنشطة بجميع أشكالها والإبقاء على المواد الدراسية الأساسية فقط والتي يتم اختبار تحصيلها في نهاية العام الدراسي وهي محك رسوب ونجاح.
وقد بلغت نسبة مدارس اليوم الدراسي الكامل 40.24%، ونسبة مدارس الفترة الصباحية 52.15% ونسبة المدارس التي بها فترة مسائية ثانية 5.02%، ونسبة المدارس التي يطبق فيها نظام الفترتين وأكثر بنحو 2.59% من إجمالي أعداد المدارس خلال العام الدراسي الجاري. وتبلغ نسبة الطلاب الذين يتمتعون بيوم دراسي كامل نحو 37% فقط من إجمالي عدد الطلاب بجميع المراحل بحسب الكتاب الإحصائي السنوي لوزارة التربية والتعليم شكل (3).
باستقراء هذه النسب، يمكن التنبؤ بتراجع جهود مشروع إصلاح التعليم خاصة وأن المناهج الجديدة لنظام التعليم (2.0) تعتمد على تطبيق مهارات التفكير العليا وتحتاج إلى التطبيق العملي وتوظيف التكنولوجيا في تعلمها، وهو ما تؤكده القرارات الوزارية الخاصة بتعديل زمن الحصة الدراسية لتطبيق المناهج الجديدة واستبدالها فترة ممتدة تصل إلى 90 دقيقة للمادة الدراسية الواحدة خلال اليوم الدراسي محلها. ما يعني أن الاستمرار في تطبيق نظام الفترات سيحول دون تحقيق أهداف مناهج نظام التعليم الجديد (2.0).
2 – الشراكة مع القطاع الخاص (Public-Private Partnership “PPP”)
بهدف إنشاء المدارس بنظام حق الانتفاع المشروط، بحيث يوفر الشريك العام (الحكومي) الأراضي والتراخيص اللازمة، بينما يقوم الشريك الخاص (الشركات) ببناء المدارس وتشغيلها. وعلى الرغم من الإعلان عن برنامج الشراكة عام 2016، إلا أن الشروع في اعتماد العقود بدأ عام 2020.
يستهدف هذا البرنامج بناء 1000 مدرسة بحلول عام 2030 موزعة على 16 محافظة على مرحلتين، بحيث تضم المرحلة الأولى فئة المدارس الرسمية المتميزة ذات المصروفات التي تتناسب والطبقة الوسطى، وتتميز بمواصفات أبنية تشمل وجود معامل أنشطة ومسرح مدرسي ومناهج مصرية بلغات أجنبية، بينما تضم المرحلة الثانية إنشاء مدارس تطبق المناهج الأجنبية، بما في ذلك المنهج الدراسي لشهادة الثانوية البريطانية (IGCSE)، ومنهج “البكالوريا الدولية” أو ما يعرف بنظام (IB). يمثل هذا البرنامج نقلة نوعية طموحة نحو زيادة أعداد الفصول وتقديم تعليم ذو جودة.
3 – الفصول المتنقلة:
أطلقت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني عام 2019 مشروع إنشاء الفصول الدراسية المعيارية والمعروفة بـ (الفصول المتنقلة) لمعالجة زيادة معدلات الكثافة ونسب التسرب من التعليم، خاصة في المناطق المحرومة من المدارس، والتي يقدر عددها بنحو 2066 منطقة وفق تقرير صادر عن الهيئة العامة للأبنية التعليمية. تتميز هذه الفصول المعيارية بكونها سهلة البناء والفك، ومجهزة بأحدث تقنيات السبورات الذكية، وقد تم إنشاء 156 فصلًا دراسيًا متنقلًا ضمن المرحلة التجريبية للمبادرة وفق الإحصائيات المعلنة من وزارة التربية والتعليم، من إجمالي 3125 فصلًا لاستيعاب 141 ألف طالب وطالبة.
4 – المدارس المجتمعية (مدارس الفصل الواحد):
المدارس المجتمعية هي مؤسسات تعليم تختلف في تنظيمها عن مؤسسات التعليم الرسمي، وتستهدف استيعاب الطلاب المتسربين من مراحل التعليم المختلفة، يشرف على إنشائها وتشغيلها المجتمع المحلي والأهلي، وتخضع لإشراف وزارة التربية والتعليم. تقبل هذه المدارس الطلاب من الفئات العمرية ٩ سنوات وحتى ١٤ سنة، ويمكن لطلابها الالتحاق بالمدارس الحكومية بعد اجتياز اختبارات الصف الثالث والسادس الابتدائي. وفي ضوء المشروع القومي “حياة كريمة” من المتوقع أن يندثر هذا النوع من المدارس والذي يمثل تعليمًا موازيًا غير متكامل.
ختامًا، يمكن القول إن فجوة الفصول الدراسية والكثافة الطلابية تتطلب تكاملًا حكوميًا شاملًا لا يقتصر على وزارة التربية والتعليم بل يشمل وزارة الصحة للتوعية بتداعيات الزيادة السكانية على تراجع جودة التعليم، ووزاري المالية والتعاون الدولي لجذب مزيد من برامج الشراكة مع القطاع الخاص لبناء المدارس، كذلك وزارة الإسكان لتخطيط مشروعات عمرانية وإسكان بديل للعشوائيات والمناطق غير الآمنة تكون المدارس والنوادي نواة رئيسة فيها. هذا بالإضافة إلى دور المجتمع المدني وقوى وتحالفات العمل الأهلي في تخصيص المزيد من الدعم نحو تحقيق الوصول العادل لحق التعليم.
باحثة ببرنامج السياسات العامة