
مفارقه مناخية: مع حوار بيترسبرج للمناخ موجة حارة تضرب أوروبا
عانت أوروبا من موجة حارة شديدة الأسبوع الماضي، تسجل فيها درجات الحرارة أرقامًا غير مسبوقة ربما وصلت إلى 41 درجة مئوية في بعض المناطق، وأصبح من الواضح تمامًا أن أزمة المناخ تلعب دورًا حيويًا في زيادة حدة موجات الحرارة والجفاف وزيادة احتمالية حدوثها.
ومن المفارقات أنه في الوقت الذي اجتمع فيه قادة العالم في برلين من خلال حوار بيترسبيرج للمناخ لمناقشة مزيد من المفاوضات والخطط والوعود التي مازال يأمل الجميع بتنفيذها، شهد عدد من الدول الكبرى موجة من الحرارة الشديدة في نفس الأسبوع، امتدت تأثيراتها إلى حدوث أزمات صحية واقتصادية كبيرة، مثل حالات إغماء وارتفاع في ضغط الدم، وحدوث بعض حالات الوفاه، وزادت التأثيرات لتشمل حرائق للغابات في كل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان، راح ضحيتها العديد من السكان وأدت إلى نزوح عشرات الآلاف من منازلهم، وعلي صعيد آخر عانت مناطق أخرى من حدوث أمطار غزيرة أدت إلى حدوث فيضانات يصعب السيطرة عليها.
درجة حرارة قياسية تسجلها المملكة المتحدة
سجلت بريطانيا في يوم الثلاثاء الموافق 19 يوليو 2022، أعلي درجة حرارة لها على الإطلاق تجاوزت 40 درجة مئوية (104 فهرنهايت)، وهو الأمر الذي كانت تشير الدراسات إلى أنه سيستغرق سنوات أطول للوصول إليه، فقد أصدر مكتب الأرصاد الجوية البريطانية توقعاتٍ تشير إلى أن الحرارة التي تشهدها بريطانيا اليوم قد تتحقق بحلول عام 2050، ولكن موجة الحرارة غير المسبوقة استمرت هذه طوال الأسبوع في مدن كثيرة في المملكة المتحدة تراوحت خلالها من 38 درجة وحتى قاربت على 42 درجة مئوية في فترات معينة.
وتعد درجات الحرارة القصوى التي سجلتها المملكة المتحدة صادمة بشكل خاص بسبب أن البنية التحتية والسكان غير مستعدة تمامًا لمثل هذه الحرارة، فالطراز المعماري والسكني مصمم ليحتفظ بالحرارة وغير مزودة بمكيفات لتبريد الهواء، وإنما يُعتقد أن حوالي 5٪ فقط من المنازل البريطانية بها مكيفات هواء. وسجلت ارتفاعات درجات الحرارة أرقامًا قياسية تجاوزت تلك المسجلة في عام 2019، في أكثر من 29 مدينة في المملكة المتحدة، من لندن في الجنوب إلى مانشستر ولييدز في الشمال، وتم إطلاق الإنذار الأحمر للبلاد من الحرارة الشديدة لأول مرة.
ما شهدته بريطانيا حرك مخاوف المواطنين بشأن قضية تغير المناخ، فالدولة التي كانت تتمتع بطقس معتدل وتشير توقعاتها إلى فترات زمنية بعيدة لحدوث تلك الموجات الشديدة وصولًا إلى 2050، رصدت أن السبب الحقيقي وراء الزيادة الكبيرة في نوبات الحرارة والجفاف واستمرارها لفترات أطول هو تغير المناخ الذي حدث بفعل الإنسان.
وما حدث نتيجة التداعيات السلبية لموجات الحرارة على بريطانيا خلال أسبوع كان حديث العالم كله، فقد توقفت حركة القطارات خوفًا من انزلاق محطات السكك الحديدية – وتم تشغيل المترو بسرعات منخفضة جدًا، وتم تحذير المواطنين من الخروج من المنازل –تم توقف حركة بعض المطارات نتيجة تدهور حالة المدرجات والطرق- وإغلاق المدارس –بجانب نفوق عدد كبير من الحيوانات في حدائق الحيوانات بسبب الإجهاد ودرجات الحرارة– وتصاعد الوضع في لندن حتى سجل مكتب الإطفاء أكثر من 10 حرائق كبرى، وتلقى أكثر من 2600 بلاغ.
أوروبا تكافح حرائق الغابات
ارتفعت درجات الحرارة إلى ما يقرب من 40 درجة مئوية في عدد من الدول الأوروبية أدت إلى موجة من حرائق الغابات أثرت على عشرات الآلاف من السكان للنزوح من منازلهم، وحدوث حالات وفاة لما يقرب من ألف شخص، فضلًا عن توقف حركة الحياة في مناطق من هذه الدول.
في فرنسا، تجاوز مقياس الحرارة في أقدم محطة أرصاد جوية بالعاصمة الفرنسية 40.5 درجة مئوية مما أدى إلى حدوث موجات من الجفاف والحرارة المرتبطة بتغير المناخ جعلت حرائق الغابات أكثر شيوعًا وأصعب في مكافحتها واستمرت لفترات أطول في بعض المناطق، “في منطقة جيروند بجنوب غرب فرنسا” اشتعلت النيران في أكثر من 27 ألف فدان و”منطقة ميدوك شمال بوردو” وخمس مناطق أخرى.
في اليونان، اندلع حريق شمال شرق أثينا، أججته الرياح الشمالية الغربية السائدة والتي دفعت بالنار إلى الجنوب الشرقي، واستمرت محاولات الاطفاء إلى أن غطى الدخان المدينة بالكامل، واشتعلت 6 حرائق أخرى استمرت على مدار ثلاثة ايام. وشهدت هولندا كذلك أحد أكثر الأيام حرارة على الإطلاق يوم الثلاثاء، فسجلت 38.9 درجة مئوية في ماستريخت، محذرة من استمرار ارتفاع درجات الحرارة على مدار الأسبوع.
وفي إسبانيا والبرتغال، نُسب أكثر من ألف حالة وفاة إلى درجات الحرارة المرتفعة في الأيام الأخيرة، وبلغت درجات الحرارة في البرتغال 47 درجة مئوية يوم الخميس 21 يوليو 2022، وهو رقم قياسي، حيث تم إخلاء عدة قرى مع انتشار حريق في منطقة مورسا شمال البرتغال. وخرج ما لا يقل عن 20 حريقًا عن السيطرة في إسبانيا، حيث اندلعت النيران في عدة مناطق أخرى من بينها منطقة قشتالة وليون بوسط إسبانيا وجاليسيا في الشمال. وشهدت إيطاليا ارتفاعًا في درجات الحرارة بين 40-42 درجة مئوية، وأدت إلى حدوث بعض الحرائق، وحولت الحرارة الجافة المستنقعات إلى أرض صلبة ومتصدعة.
تغير المناخ قضية وجودية
أصبحت ظواهر الطقس والمناخ المتطرفة أكثر تواترًا وشدّةً في أنحاء كثيرة من العالم بسبب تغيّر المناخ، وبات عدد الأشخاص المعرضين لما يرتبط بهذه الظواهر من أخطار متعددة أكبر من أي وقتٍ مضى، في حين تشهد هذه الأخطار بدورها بعض التغيّرات من جراء النمو السكاني والتوسّع الحضري والتدهور البيئي.
وما زال العالم يحذر من تغير المناخ وتصدر الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة انذاراتها وتقاريرها التي تؤكد أن العالم أصبح على وشك كارثة مناخية لم يسبق لها مثيل، ولم تعُد التنبؤات بحالة الطقس كافيةً اليوم، بل أصبح توفير تنبؤات تقوم على الآثار وتنذر الناس بمفاعيل الطقس ضرورة حيوية لإنقاذ الأرواح وسبل العيش. فهناك أربعة مؤشرات رئيسة لتغير المناخ، وهي تركيزات غازات الاحتباس الحراري، وارتفاع مستوى سطح البحر، وحرارة المحيطات، وتحمّض المحيطات
فعلي صعيد درجات الحرارة، فإن العلماء ينذرون بأن هذا العقد سيكون الأكثر دفئا على الأرض، وأنه لو لم يتحرك العالم من أجل إجراءات صارمة للحد من تغير المناخ وخفض الانبعاثات الكربونية ربما لن يكون هناك وقت آخر لأي تحرك لاحق لإنقاذ الكوكب. والارتفاع الحادث في درجات الحرارة القصوى هو نتيجة مباشرة لتغير المناخ الناجم عن انبعاثات الغازات الدفيئة البشرية.
وسوف تستمر سجلات درجات الحرارة في أن تكون أكثر تطرفًا في المستقبل، وستؤثر على الموارد المائية في العالم، فالموارد المائية ستنقلب بشكلٍ متزايد ويصبح التنبؤ بها أكثر صعوبة في المناطق التي يهيمن عليها الجليد عبر نصف الكرة الشمالي بحلول وقتٍ لاحق من هذا القرن. وتظهر الملاحظات أن كتلة الثلج تذوب بالفعل في وقتٍ مبكر، بل وتتراجع في العديد من المناطق، وهذا الانخفاض سيصبح واضحًا جدًا في نهاية القرن بحيث أن كمية المياه الموجودة في كتلة الثلج في نهاية فصل الشتاء في أجزاء من جبال روكي الأميركية والقطب الشمالي الكندي وأمريكا الشمالية الشرقية وأوروبا الشرقية، يمكن أن تنخفض بنسبة 80 % تقريبًا.
ويؤثر التغير المناخي كذلك على مستويات البحار الآخذة في الارتفاع بسرعة؛ إذ تضاعف المعدل إلى أكثر من الضعف، من 0.06 بوصة سنويًا خلال معظم القرن العشرين إلى 0.14 بوصة سنويًا من عام 2006 إلى 2015. بينما تقدر الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ والتابعة للأمم المتحدة، أن هذه المستويات سترتفع من 16 إلى 25 بوصة بحلول عام 2100. وإذا ما ارتفعت مستويات سطح البحار إلى هذا الحد، فقد يتسبب ذلك في حدوث فوضى في جميع أنحاء العالم.
وسيمتد التأثير إلى أكثر من 250 مليون شخص حول العالم بحلول 20100، والبلاد التي ستتأثر بشدة بهذه الظاهرة الصين، حيث يعيش 43 مليون شخص في مواقع ساحلية غير مستقرة. وبنجلاديش، حيث سيتعرض 32 مليون شخص للخطر بحلول عام 2100. والهند مع 27 مليونًا في دائرة الخطر.
ووفقًا لـ”المنتدى الاقتصادي العالمي”، سيكون جزء كبير من العاصمة الإندونيسية جاكرتا تحت الماء بحلول عام 2050. بجانب أن مدنًا أخرى كدكا (عدد السكان 22.4 مليون)؛ ولاجوس (عدد السكان 15.3 مليون)؛ وبانكوك (عدد سكانها 9 ملايين نسمة)، يمكن أن تغرق بالكامل أو تكون لديها مساحات شاسعة من الأرض تحت الماء وغير صالحة للاستعمال.
ويمتد التأثير كذلك إلى تحمض المحيطات، فتمتص المحيطات حوالي 23% من الانبعاثات السنوية لثاني أكسيد الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية في الغلاف الجوي. ويتفاعل ذلك مع مياه البحر ويؤدي إلى تحمض المحيطات، مما يهدد الكائنات الحية وخدمات النظم الإيكولوجية، وبالتالي يهدد الأمن الغذائي والسياحة وحماية المناطق الساحلية. وكلما انخفضت درجة الحموضة في المحيط، انخفضت قدرته على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. وخلصت الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) إلى أن هناك ثقة عالية جدًا في أن درجة الحموضة لسطح المحيطات المفتوحة هي الآن في أدنى مستوياتها منذ 26000 عام على الأقل، وأن المعدلات الحالية لتغير درجة الحموضة غير مسبوقة منذ ذلك الوقت على أقل تقدير.
ما شهده العالم خلال الفترة القصيرة الماضية يبرهن على أن تأثرات تغير المناخ أصبحت أكثر حدة وأكثر تواترًا، بل وأصبحت في مناطق غير متوقعة وغير مقتصرة على دول بعينها، وإنما يمتد تأثيرها إلى دول العالم كله المتقدمة منها والنامية على حد سواء، ونأمل أن يصل العالم في قمة المناخ القادمة في شرم الشيخ (COP27) إلى حلول جذرية لقضية تغير المناخ ويحدث التعاون الدولي في سبل التخفيف والتكيف والمواجهة لأثار تغير المناخ، والوقوف عند درجات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية على الأقل حفاظا على البشرية.
المصادر:
https://www.theguardian.com/environment/2022/jul/11/why-so-hot-uk-europe-dangers-climate-crisis
باحثة ببرنامج السياسات العامة