
عودة للثنائيات … المسار السياسي الليبي ومرحلة التسويات الداخلية
باتت أغلب التحليلات الخاصة بالملف السياسي الليبي تربط بين الاجتماع المهم الذي جمع في بنغازي أواخر العام الماضي عددًا من المرشحين في الانتخابات الرئاسية، وعلى رأسهم المشير خليفة حفتر ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا ونائب رئيس المجلس الرئاسي السابق أحمد معيتيق، وبين التحركات الأخيرة التي قام بها مجلس النواب هذا الأسبوع، وأسس من خلالها لمرحلة سياسية جديدة، ربما تنضوي بين ثناياها بعض ملامح المراحل السياسية السابقة، ومنها حالة “الثنائية” التي شابت الأجسام السياسية الليبية في تلك المراحل.
هذا الربط وإن كان منطقيًا، إلا أنه يشير في نفس الوقت إلى بدء تشكل إرادة داخلية ليبية، تحاول إيجاد هامش جيد للمناورة السياسية، بعيدًا عن حالة الانسداد الحالية، وبمنأى عن عدم الفاعلية الذي شاب “خرائط الطريق” السابقة.
التحركات التي قام بها مجلس النواب الليبي في جلستيه أمس وأول أمس، سبقها اجتماع جمع بين نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، وقد بدا من طبيعة القرارات التي صدرت عن المجلس قبل انعقاد هذا الاجتماع وفي يوم انعقاده، وجود حد أدنى من التوافق بين الجانبين بشأن وضع خارطة الطريق الحالية ومصير حكومة الوحدة الوطنية. هذا رغم أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي استقبل سفير الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا “خوسيه ساباديل”، وأعرب له عن أن المجلس يقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف والمؤسسات، ويضع في أولوياته إنجاز مشروع المصالحة الوطنية.
خارطة طريق جديدة … وحكومة أخرى في الأفق
فيما يتعلق بقرارات مجلس النواب الليبي لهذا الأسبوع، فقد صوت المجلس بالإجماع في جلسة الاثنين الماضي على خارطة الطريق المقدمة من اللجنة البرلمانية الخاصة ببحث هذا الملف، وتنص هذه الخارطة على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية خلال 14 شهرًا من تاريخ إقرار التعديل الدستوري الجديد، وتنص المادة الثانية من هذه الخارطة على تشاور لجنة خارطة الطريق مع لجنة المجلس الأعلى للدولة، لتقديم الصيغة النهائية بشأن التعديل الدستوري الجديد، على أن تتضمن هذه الصيغة تحديدًا دقيقًا للمواد المطلوبة لتحقيق الاستحقاق الانتخابي، في إطار لا يتجاوز أربعة عشر شهرًا، على أن يتم تقديم هذه الصيغة الخميس المقبل.
أما المادة الثالثة من مواد هذه الخارطة، فتنص على أنه بعد الاستماع لمشروع المرشحين لرئاسة الحكومة، تقوم رئاسة المجلس بإحالة أسماء المترشحين للمجلس الأعلى للدولة لتقديم التزكيات المطلوبة بشأنهم، على أن يكون التصويت لاختيار أحد المترشحين الخميس المقبل. وتشير المادة الرابعة منها على وجوب تقديم لجنة خارطة الطريق تقريرها النهائي بشأن توقيتات باقي المسارات، وذلك في غضون شهر. بهذه القرارات وضع المجلس خارطة طريق جديدة للمسار السياسي الليبي، وكذا مهّد لتشكيل حكومة جديدة.
تضمنت جلسات هذا الشهر تقديم المرشحين لرئاسة الحكومة الجديدة لملفاتهم وتعهداتهم إلى مجلس النواب، فقد كان مطروحًا لهذا المنصب خمسة أسماء، منها اسمان لشخصيتين شاركتا في اجتماع بنغازي السالف ذكره، هما وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، ونائب رئيس المجلس الرئاسي السابق أحمد معيتيق، بجانب مرشح رئاسي آخر هو مروان عبد الله عميش، ومؤسس حزب “موطني” محمد المنتصر، ورجل الأعمال خالد البيباص، لكن في نهاية الأمر لم يترشح رسميًا لشغل هذا المنصب سوى باشاغا والبيباص.
خلال كلمته أمام مجلس النواب، أعلن فتحي باشاغا أنه في حالة اختياره كرئيس للحكومة الجديدة، يتعهد بتنازله ووزرائه عن أي حصانة قانونية تعيق تحقيقات السلطة القضائية، وأكد على عدم ترشحه في الانتخابات المقبلة. كذلك عرض الخطوط العريضة لخطة حكومته المقبلة، ومن أبرزها:
- دعم جهود المجلس الرئاسي في إنجاح المصالحة الوطنية الشاملة وبناء السلم الاجتماعي، وتهيئة الظروف لإجراء الاستحقاقات الدستورية والانتخابية، وتحقيق السيادة الوطنية والحفاظ على استقلال الدولة ووحدة ترابها وتعزيز العلاقات الدولية.
- إصلاح المالية العامة وترشيد الإنفاق الحكومي وتحقيق أكبر قدر من الإيرادات السيادية وتهيئة البيئة المناسبة لتنويع مصادر الدخل القومي.
- تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية في دخول المواطنين وتحفيز الاستثمارات الأجنبية والوطنية.
- تنظيم السلاح وتعزيز سيادة القانون وتحقيق التكامل بين جميع المؤسسات الأمنية والعسكرية لتحقيق الأمن والاستقرار وضبط المنافذ والحدود.
- انتهاج مبدأ اللامركزية الإدارية وإصلاح الهيكل الإداري للدولة وتبني السياسات الهادفة لتحقيق التنمية المكانية في كافة المدن وتحسين جودة حياة الأفراد.
- التكامل مع سلطات الدولة التشريعية والقضائية واحترام مبدأ الفصل بين السلطات ومراجعة القوانين ذات الصلة بالعمل الحكومي واستعادة ثقة الليبيين في مؤسسات الدولة وتعزيز مبدأ مشاركة كل المواطنين.
- توفير الرعاية الصحية عالية الجودة لكافة المواطنين دون استثناء، وتطوير الرعاية الاجتماعية الشاملة للفئات الهشة.
من جانبه، عرض رجل الأعمال خالد البيباص برنامج حكومته المقترح، وتعهد بأنها ستعمل على حفظ الأمن والنظام العام، وإنهاء الفوضى والعمل على إيقاف الانهيار الاقتصادي، والحد من التضخم عبر ترشيد الإنفاق الحكومي عبر أفضل الممارسات والتوصيات التي سيتولاها بوصفه رئيسًا لهذه الحكومة، مع توفير كافة المتطلبات العملية لضمان إنجاز الانتخابات المقبلة في موعدها المقرر.
وأضاف أن الحكومة ستهتم بمؤسسات الدولة الأكثر أهمية مثل قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية والمرافق الخدمية الحيوية اللازمة لضمان استمرار تقديم الخدمات اليومية للمواطن، بالإضافة إلى العمل مع المجتمع الدولي لتحقيق السلام والأمن في محيط ليبيا الإقليمي والدولي، وإعادة بناء جسور التواصل مع الشعوب والحكومات في دول العالم.
اللافت في هذه القرارات، أن مجلس النواب تمكن من التوصل إلى صيغة تضمن حصوله على تأييد المجلس الأعلى للدولة لهذه الخطوات، بعد أن شابت العلاقة بينهما بعض التوترات نتيجة لاعتراض مجلس الدولة على تغيير البرلمان للحكومة بشكل منفرد، ودون اعتماد خارطة جديدة للطريق.
فقد ظهر بوضوح تنسيق مجلس النواب مع مجلس الدولة في ملفي خارطة الطريق والحكومة الجديدة، وهذا يحيلنا إلى الأنباء التي تحدثت سابقًا عن عقد لقاء بين رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري في المغرب، إذ أكد المشري في السادس من الشهر الجاري، حدوث هذا اللقاء، معتبرًا أنه كان لقاء غير رسمي، وبدا منه وجود تجاوب بين المجلسين.
وهو ما يشير إلى أن القرارات الأخيرة لم تكن فقط حصيلة التوافقات الناتجة عن اجتماع المرشحين الرئاسيين في بنغازي أواخر العام الماضي، بل أيضًا حصيلة تقارب في وجهات النظر بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، خاصة أن المشري تحدث عن قرب زيارته لمدينة طبرق.
بطبيعة الحال، صدرت عدة ردود فعل غاضبة وغير مرحبة بهذه القرارات، منها ما صدر عن الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، على لسان عضويها سالم كشلاف وضو المنصوري، إذ اعتبرا أن هذه القرارات بمثابة “اقتسام للسلطة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة”.
وعلى الرغم من أن مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز -التي التقت أمس في روما وزير خارجية إيطاليا لويجي دي مايو- لم تدلِ بدلوها في هذه المسألة حتى الآن، إلا أن نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة، فرحان حق، أكد في تصريحات صحفية، أن إنشاء “حكومات موازية” سيعرقل توحيد المؤسسات التنفيذية والنظام المصرفي، مشيرًا إلى أن مجلس النواب يحاول تعيين رئيس حكومة جديد، على الرغم من وجود “شخص معين بالفعل”.
وهو ما يشير إلى موقف أممي رافض لتوجهات مجلس النواب الحالية، وداعم لاستمرار حكومة الدبيبة. يضاف إلى ذلك بعض الانتقادات التي تم توجيهها لقرارات مجلس النواب الأخيرة، مثل عدم وجود أية ضمانات واضحة تلزم أي حكومة جديدة بتنفيذ خارطة الطريق الجديدة.
الدبيبة يرفض قرارات مجلس النواب ويؤكد استمراره في منصبه
كما هو متوقع، رفض رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة قرارات مجلس النواب، وذلك عبر تسجيل مصور تم بثه بالأمس، رأى فيه أن “جماعة الإخوان” والمؤسسة العسكرية تسعيان إلى اقتسام السلطة فيما بينهما؛ من أجل التمديد لأجسامهما السياسية، وتأخير الانتخابات قدر الإمكان. ووجه خطابه بشكل مباشر للشعب الليبي، مذكرًا إياه بإنجازات حكومته، ومشددًا على أنه باقٍ في منصبه إلى حين التسليم لسلطة منتخبة.
لا يعد موقف الدبيبة هذا مفاجئًا، فقد سبق وعبّر عنه عدة مرات في مناسبات سابقة، لكن يطرح هذا الموقف تساؤلًا أساسيًا حول كيفية إدارة العلاقة بين الحكومة الجديدة وحكومة الدبيبة، في مشهد يعيد للأذهان ثنائية الثني – السراج خلال فترة ما قبل عام 2021.
بطبيعة الحال ستفضي هذه القرارات الجديدة إلى وجود حكومتين متوازيتين، لكن مقر الحكومة الجديدة -وإن كان من المنطقي أن يكون في مدينة سرت- إلا أن احتمالية محاولتها العمل انطلاقا من العاصمة طرابلس يبدو قائمًا، في ظل تصريحات سابقة لفتحي باشاغا حول وجود خطة لديه للتعامل مع هذا الوضع الجديد، وهو ما يوحي بإمكانية إيجاد تفاهم ما بينه وبين الدبيبة، أو وجود نوايا أخرى قد تشمل الصدام المسلح بين الجانبين. وهو ما ينقل المشهد الليبي إلى سنوات خلت، كانت فيها الحكومات الجديدة تدخل إلى العاصمة بقوة السلاح.
الجهات الموالية للدبيبة -ومنها نقابة المحامين التي يرأسها عبد الرؤوف قنبيح، المحامي الخاص للدبيبة- أعلنت رفضها قرارات مجلس النواب الأخيرة، ولوحت بالدخول في عصيان مدني مستمر، وهو ما يتوافق مع وقفات احتجاجية نظمها بعض المواطنين اليوم دعمًا للدبيبة أمام مبنى ديوان البرلمان في العاصمة طرابلس.
اللافت أن هذا المبنى احتضن الأحد الماضي اجتماعًا لافتًا لنحو 48 عضوًا من أعضاء مجلس النواب، برئاسة النائب الأول لرئيس المجلس فوزي النويري، وهو اجتماع -رغم عدم رسميته- يؤشر إلى احتمالية عودة البرلمان إلى حالة الانقسام التي كانت سائدة خلال فترة حكومة الوفاق السابقة.
الدبيبة حاول ضرب التوافق الحالي بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، عبر اجتماعه بشكل غير رسمي مع بعض أعضاء المجلس الأعلى للدولة، واستمر في محاول استمالة بعض القطاعات الشعبية، عبر إقراره مبلغ مليار دينار الأحد الماضي لصالح مشروع منحة تيسير الزواج، وتفعيله القرار رقم 885 لعام 2019، بشأن لائحة استخدام العاملين من ذوي المهن الطبية والطبية المساعدة.
على المستوى الميداني، على الرغم من الأجواء الإيجابية التي تم فيها الاجتماع التاسع للجنة العسكرية المشتركة 5+5 هذا الأسبوع، والذي تم فيه ملف فتح طريق بوقرين – الجفرة، ومصير المحتجزين والمفقودين، بالإضافة إلى ملف المراقبين الدوليين، إلا أن عدة مؤشرات سلبية بدأت في التكتل بشكل واضح حول الوضع الأمني بشكل عام، منها الظهور العلني المباشر للقادة العسكريين الأتراك، خلال حفل تخريج دفعة من المقاتلين التابعين للكتيبة 166، المنضوية تحت وحدات رئاسة الأركان العامة التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، والذي تزامن مع استئناف عمليات تبديل المرتزقة السوريين، حيث وصل 150 عنصر تابعين للواء “محمد الفاتح” إلى ليبيا مؤخرًا.
هذا علاوة على عودة الاشتباكات مرة أخرى إلى العاصمة طرابلس، حيث دارت اشتباكات عنيفة في الخامس من الشهر الجاري، بين ميليشيا “777” التي شكلها مؤخرًا هيثم التاجوري، وقوة أخرى تابعة لميليشيا “الردع”، بمحيط منطقة جزيرة الفرناج بالعاصمة، وهي اشتباكات رأى البعض أنها قد تكون بداية مواجهات عنيفة بين مليشيات موالية لعبد الحميد الدبيبة، وأخرى تسعى إلى إزاحته من المشهد.
خلاصة القول، إن المشهد الليبي بات على بعد يوم واحد من إعادة مشهد حكومتي الثني-السراج، هو ما يفرض تحديات إضافية إلى التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والطبية الحالية. طبيعة المرحلة المقبلة تبدو مرتبطة بالتحركات التي سينفذها على الأرض وفي السياسة، رئيس الوزراء الليبي الجديد، وما إذا كانت هذه التحركات ستكون محدودة بنطاق مدينة سرت، أم انها ستستهدف -سلمًا أو حربًا- الوصول إلى طرابلس. وهو ما يجب انتظار اتضاح ملامحه، جنبًا إلى جنب مع مواقف حكومة الدبيبة، ومن خلفها عدة أطراف على رأسها الفصائل المسلحة الموالية للدبيبة، وحزب العدالة والبناء، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا.
باحث أول بالمرصد المصري