
من المسافة صفر: دول الخليج تعيد ضبط تحالفاتها.. بعيدًا عن واشنطن!
توضح الأوضاع الحالية أن ثقة حلفاء الولايات المتحدة فيها أصبحت مزعزعة بقدر كبير إلى حد فقدها في بعض الأحيان، ومنذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ظهر التشاؤم الذي يحكم علاقات واشنطن بحلفائها التقليديين وتوقع مراقبون أن العلاقات سيشوبها قدر من التراجع والتحول لأن الحلفاء مجتمعين وجدوا أن هذا القرار قد تم اتخاذه دون وضع أي اعتبار لهم.
إضافة إلى وقع الشعار الذي ترفعه الإدارة الأمريكية الحالية والسابقة والذي يمكن إجماله في منهج ” أمريكا” أولاً وهو الدافع الأساسي الذي يجعل تكتل مثل ” مجلس التعاون الخليجي” يعيد النظر في اعتماداته الأمنية على واشنطن.
زلزال كابول والتقارب مع إيران
من أحد الزوايا فإن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي بدا بمثابة زلزال لكل الأطراف الدولية امتدت تأثيراته الأعظم إلى ثقة العواصم الخليجية بالولايات المتحدة كحليف أمني.
وعلى وقع ذلك الزلزال بدأت العواصم الخليجية بالفعل بإعادة ضبط إيقاعاتها وتوجيه دفتها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لتقليل مخاطر الانسحاب وكأنما بدأت التخلي عن كلاسيكيات العلاقة والتحول لتبني المدرسة الواقعية. ولذلك فإنه لن يكون من المستبعد رؤية تقارب بين أبو ظبي والرياض وطهران وعلى جانب آخر تقارب مع روسيا بدت انعكاساته في توقيع المملكة السعودية اتفاقية دفاعية لعصر ما بعد الكربون.
وبالعودة إلى التقارب الخليجي- الإيراني فيمكننا الفصل بين الدوافع، فدوافع الرياض تقوم على التوجه نحو إيران من أجل قطع طريق الدعم الإيراني لجماعة الحوثي خاصة في ظل قرب التوقيع على اتفاق نووي يخرج طهران من عزلتها ويؤدي إلى تحسن وضعها الاقتصادي وهو ما قد ينعكس على زيادة الدعم الإيراني المقدم للحوثيين. ويأتي ذلك في الوقت الذي يمكن فيه تلخيص الدوافع الإيرانية في خفض التكلفة الإجمالية للتنافس الإقليمي مع السعودية في ظل العقوبات المفروضة عليها وتفشي كورونا.
أبرز الانعكاسات.. العلاقات مع إسرائيل
وسط الديناميات التي طرحت في الآونة الأخيرة حول التغير في سياسات دول الخليج احتلت العلاقات مع إسرائيل مكانة بارزة وكانت من المكاسب التي تم اختطافها في الساعات الأخيرة خلال ولاية دونالد ترامب. وقدا اكتسبت هذه الدينامية أهمية خاصة في منطقة محفوفة بالمخاطر ومعرضة لأخطار الحروب والانقسام.
واللافت في هذا التحول الخليجي بعد فترة طويلة ربط فيها مجلس التعاون علاقاته مع إسرائيل مع تسوية القضية الفلسطينية أنه من وقت إمضاء اتفاقات إبراهام رفعت العواصم الخليجية لافتة إعلاء مصالحها أولًا وأخيرًا دون النظر للصراعات التقليدية حتى اتضح أن هذه السياسة أصبحت طاغية في العلاقات الدولية اليوم فالكل تقريبًا يرفع شعار ” المصلحة ” أولًا بشكل أو بآخر. وحتى داخل تكتل مجلس التعاون الخليجي بقيت المصالح النهائية هي الحاكمة على صعيد العلاقات مع إسرائيل والدليل على ذلك أن العواصم الخليجية لا تقف على مسافة واحدة من العلاقات مع تل أبيب.
فعلى سبيل المثال، اتخذت دول مثل الإمارات والبحرين خطوات مباشرة وعلانية في علاقاتها مع تل أبيب، بينما تقف دول مثل السعودية والكويت وعمان عند حدود عدم إقامة علاقات رسمية مع الدولة العبرية. أما قطر فتعتمد على تطوير علاقات فعالة مع إسرائيل وهو ما استطاعت الدوحة أن توظفه للقيام بدور مهم في القضية الفلسطينية بوصفها طرفًا موثوقًا من الجانب الإسرائيلي ولكن على قدر هذا التقارب فإنه من المستبعد أن تصبح هذه العلاقات رسمية في المستقبل القريب إلا إذا كانت المكاسب أكبر من أن يتم إغفالها أو تجاوزها بالنسبة للبراجماتية القطرية.
وبالنسبة للدول الخليجية التي أبدت تقاربًا رسميًا مع إسرائيل فقد رأت أن لها مصالح استراتيجية منها أن تل أبيب تتشارك على سبيل المثال مع تلك الدول في الريبة من تيار الإسلام السياسي وفي الرغبة بالبطش بإيران ولذلك يمكننا القول بأريحية إن الدافع الأساسي في علاقات دول الخليج الرسمية مع إسرائيل ليس التطبيع أو السلام ولكن هو خطوة جدية على طريق بناء التحالفات الاستراتيجية والأمنية ذات الدماء الجديدة، خصوصًا بعد خطوات الانسحاب الأمريكي المدوي من الشرق الأوسط والهزة التي أصابت ثقة دول الخليج في حليفها الأمني الأكبر.
على جانب آخر فإنه من الحوافز الكبرى للعلاقات بين دول الخليج وإسرائيل – الحفاظ على علاقات قريبة للغاية مع الحليف الأمريكي وإن كان هذا الحافز لم يعد بالدافع القوي خصوصًا بعد أن أدت حالة الانخراط الدائم للولايات المتحدة في حروب في الشرق الأوسط إلى إنهاك الشريك الأمني لدول الخليج.
وأدت العودة القوية لواشنطن لإنتاج الطاقة إلى خلق وضع يشير إلى أن التحالف العريق في طريقه للتداعي وهو أحد الأسباب المهمة للانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط. على كل الأحوال فإذا أردنا تلخيص الحالة الخليجية- الإسرائيلية تنبغي علينا الإشارة إلى أن العواصم الخليجية سمعت الدرس ووعته فعرفت أنه حتى وإن كان الانسحاب الأمريكي وشيكًا فإنه لن يكون قاطعًا ولن يكون مستمرًا، وبالتالي فإن التباعد في علاقاتها مع إسرائيل لن يخدم أهدافها الاستراتيجية ولا تقاربها مع الولايات المتحدة على أي حال.
ومن منظور آخر ظهر هناك نوع من التقارب بين عواصم الجزيرة العربية وإسرائيل فيما يتعلق بالشك في نوايا الولايات المتحدة التي اعتبرت اتفاق 2015 المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة بمثابة صلح منفرد مع طهران بعيدًا عن دول الخليج، وهو ما جعلها متخوفة من سياسات بايدن التي تبدو حتى الآن ساعية لإحياء خطة العمل المشتركة بعيدًا عن الخليج وعن إسرائيل، مما أفقد دول الخليج المزيد من الثقة في شريكها الأمني الأكبر.
القوات الأمريكية في الشرق الأوسط
يبلغ عدد القوات الأمريكية الموجودة حاليًا في الشرق الأوسط حوالي 65 ألف جندي وهو عدد ضئيل نسبيًا إذا ما تمت مقارنته بعدد القوات الموجودة في فترة الغزو الأمريكي للعراق والتي وصلت إلى حوالي 285 ألف. ويوجد أكبر تجمع للقوات الأمريكية في عدة دول خليجية (البحرين- الكويت- قطر- الإمارات)، حيث يتمركز بتلك الدول أكثر من نصف عدد القوات الأمريكية بالمنطقة، بالإضافة إلى قاعدة إنجرليك التركية التابعة لحلف الناتو، وكذلك الأردن.
وبالرغم من قلة العدد “نسبيًا” فقد انقسم حوله الرأي الأمريكي إلى اتجاهين؛ أحدهما يرى ضرورة الانسحاب لأن العدد وإن كان لا يشكل أزمة إلا أنه من الأفضل خصوصًا إزاء ارتفاع التكلفة على خلفية تفشي فيروس كورونا سحب هذه القوات وتوجيه الاهتمام الأمريكي إلى نقاط ارتكاز أخرى، في حين يرى اتجاه آخر أن بقاء هذه القوات ضروري وفي أسوأ السيناريوهات فإنه من الممكن تخفيضها للحفاظ على مصالح واشنطن الاستراتيجية في هذه المنطقة.
- دوافع الاتجاهين
أما الاتجاه الذي يرى ضرورة الانسحاب فإنه يعول على أن الشرق الأوسط لم يعد منطقة استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة وأن تكلفة البقاء لا تعادل المكاسب خصوصًا في وقت تتجه فيه الأنظار إلى المحيطين الهادئ والهندي لاحتواء النفوذ الصيني هناك وأنه لو تأخرت واشنطن في الوصول فإن ذلك سيكون بمثابة عدم الوصول من الأساس.
بينما يتبنى الاتجاه الآخر فكرة أن بقاء القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط لا يتعلق بالعراق وأفغانستان فقط وإنما يتعلق أيضًا بتدريب القوات المحلية وتأمين منطقة الخليج العربي الاستراتيجية. على الجانب الآخر فإن فقدان الولايات المتحدة لشراكتها مع دول الخليج سيضر بشكل أو بآخر بالجزء المتبقي من حلف شمال الأطلسي واضعة الأوروبيين تحت رحمة “صنبور الغاز” الروسي ومضحية بالحلفاء في العواصم الأوروبية.
وعلى صعيد آخر، فإن الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية من الشرق الأوسط يعطي قبلة الحياة للتنظيمات الإرهابية كما سبق وأعطاها إبان الانسحاب الفاضح من أفغانستان، مع الوضع بالاعتبار أن تداعيات فترة حكم أوباما على العلاقات مع دول الخليج لم يتم عكسها حتى الآن وهو ما يجعل من السهل أن تستبدل دول الخليج الحليف الصيني الذي يتقارب في وجهات النظر مع عدد من العواصم الخليجية بالحليف الأمريكي، والدليل على ذلك أن الحكومة الصينية كانت قد توجهت بشكر رسمي إلى 37 دولة لدعمها سياسات بكين في التعامل مع إقليم شينج يانج الذي يضم قومية الإيجور باعتبار هذه الممارسات تندرج تحت بند التطرف الديني والإرهاب وكان من ضمن الدول الإمارات والسعودية مع ميل أكبر نحو الإمارات وتثمين دورها في محاربة التطرف الديني.
- الانسحاب السياسي قبل العسكري
في كل الأحوال لا ينبغي النظر إلى الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط بوصفه انسحابًا عسكريًا فقط لأن الانسحاب السياسي الذي خلف فراغًا كبيرًا احتل مواقع أكبر حتى الآن، ويمكن رصد ذلك في أن البيت الأبيض اختفى تمامًا من التصعيد الأخير بين غزة وتل أبيب معتمدًا في تهدئة الأمور على القاهرة.
بينما بدأت أمارات تخفيض الوجود العسكري بإقدام واشنطن على سحب بطاريتي صواريخ باتريوت من السعودية، مما يعني سحب آلاف الجنود الذين كانوا يعملون في تشغيل البطاريتين وخفض الكلفة الإجمالية وسط تفشي الجائحة، وكذلك ورود أنباء عن سحب قوات من الكويت والأردن وهو ما يعيد إلى الأذهان مشاهد الانسحاب الفوضوية من الصومال.
وفي هذا الإطار لا يمكننا النظر إلى الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط بكونه يعني إنهاء الوجود العسكري أو التدخلات السياسية بشكل كلي، مع الأخذ بالاعتبار أن مركز الثقل العسكري لواشنطن اليوم موجود في (الإمارات- البحرين- قطر – الكويت) وبالتالي فإن الانسحاب العسكري يتلخص بشكل أساسي في الانسحاب من هذه الدول؛ فسحب القوات من البحرين فقط يعني إنهاء وجود الأسطول الخامس الأمريكي خارج الحدود الأمريكية. ودلالات هذا الانسحاب تصب مباشرة في فك الارتباط الأمني مع دول الخليج مما يجعل لدينا فائزًا إيرانيًا بشكل مباشر، علاوة على ترك مساحات مناسبة للدول الساعية لبسط النفوذ وتحقيق التوسع وعلى رأسها روسيا وتركيا.
دروس قد تكون مستفادة
من المرجح أن واشنطن وإن كانت لا تعي الدروس البعيدة زمنيًا فإنها ستعي الدرس من الانسحاب الفوضوي من أفغانستان في حال كذبت التوقعات التي أشارت إلى أن الفوضى كانت مقصودة بل مصنوعة، أولًا لأن عدد القوات الموجودة في منطقة الشرق الأوسط يصل لحوالي 65 ألف ولذلك فإن أي محاولة انسحاب فوضوي ستخلف وضعًا كارثيًا في منطقة تعاني من أوضاع كارثية من الأساس، والفترة الزمنية اللازمة لسحب هذا العدد من القوات بشكل منطقي قد تمتد- فضلًا عن أن أي انسحاب سريع أو فوضوي يعني أن واشنطن لا تخفي حرجًا أو حذرًا أنها قد تخلت عن حلفائها، وأن عودتها الناعمة –حتى- إلى هذه المنطقة ستكون شبه مستحيلة.
أما العواصم الخليجية فقد بدت أكثر اعتبارًا من الدروس التي تتلخص على الأقل في عدم التعويل بشكل مطلق على “الحزب” الذي يحكم البيت الأبيض لأن الانحياز الكامل لدونالد ترامب خلف نوعًا من الصعوبة في التعامل مع الإدارة الديمقراطية الحالية التي لم تبرز نواياها بعد ناحية الخليج. وفي هذا السياق تلتقط دول الخليج أيضًا الإشارات التي تبعث بها إدارة بايدن والمتعلقة بأن الولايات المتحدة ستكمل منهجها في التعامل مع منطقة الشرق الأوسط بوصفها منطقة أهمية مستمرة بالنسبة لها، ولذلك لا يوجد ما يمنع من أن تصل دول الخليج مع إدارة بايدن إلى مواءمة أكثر انسجامًا من تلك التي وجدت في عهد ترامب لأن الطرفين يعيان الآن الدروس بشكل أفضل.
باحث أول بالمرصد المصري