
“ذات يوم في 73”.. عندما أربك المشير طنطاوي الإسرائيليين في “محرقة الدبابات”
في سجل البطولات العسكرية المصرية، تشكل ” المزرعة الصينية” ملحمة بطولية بامتياز بشهادة الجانب الإسرائيلي الذي وصف الأيام التي امتدت على مدارها أحداث المعركة بالـ “أيام حالكة السواد”. فما فعله أبطال كتيبة 16 مشاة بقيادة المقدم آنذاك “محمد حسين طنطاوي” لم يكن ليمر مرور الكرام حيث أحاط الرعب بالإسرائيليين من كل حدب وصوب.
كان الجنود الإسرائيليون يحلمون بسيناء “وطنا ومسكنا” فإذا بجثثهم ترقد على ذلك التراب الطاهر، وحسب السجلات فقد تولى المشير طنطاوي قيادة الكتيبة 16 مشاة يوم السادس من أكتوبر حيث بدأت الكتيبة مهامها بالتوجه نحو الشرق وكانت أهدافها تتمحور حول الاستيلاء على رؤوس الكباري شرق القناة وتدمير ما ظهر من الأهداف الإسرائيلية والتي أسفرت عن تدمير خمس دبابات للعدو.

ومن ثم طورت الكتيبة 16 مشاة هجومها نحو الشرق وتحديدًا قرية ” الجلاء” وهي محطة زراعية تجريبية على الضفة الشرقية لقناة السويس تغطي نحو 15 ميلًا مربعًا، وكانت الحكومة المصرية قد عمدت في خمسينيات القرن الماضي إلى دراسة إمكانية الزراعة في التربة القاحلة في سيناء وقامت من أجل ذلك باستيراد معدات من اليابان وحفر الخنادق حتى تراجع المشروع وبقيت المعدات هناك فأخطأ الإسرائيليون في قراءة الحروف اليابانية وظنوها معدات تابعة للصين لذلك عرفت المنطقة على الخرائط بالـ” مزرعة الصينية”.
وحسب السجلات ، فإن “الكتيبة 16 مشاة” كانت من أوائل الكتائب التي استطاعت عبور قناة السويس إلى الضفة الشرقية ولم يمض الكثير من الوقت حتى التقطت آذان المشير طنطاوي أصوات طائرات إسرائيلية تحلق من بعيد كما تم رصد عدد من الإسرائيليين وهم يحاولون عبور حقل الألغام الذي كان موقعه في مواجهة ” المزرعة الصينية” حيث كان العدو يستهدف عبور ” الثغرة” والوصول لمواقع الكتيبة 16 مشاة.

وعلى الفور، تلقى قادة الأفرع في الكتيبة أوامر شخصية من المشير طنطاوي باستعداد كل المدفعية والرشاشات وحتى الأسلحة المضادة للطائرات وعدم فتح النيران إلا بأمر مباشر منه وهو ما حدث بالفعل حين اقترب العدو وصدرت الأوامر بصب النيران على قوات المظلية التابعة للإسرائيليين الذين لم يستطيعوا المقاومة أو حتى الانسحاب وهو الوضع الذي استمر على مدى ساعتين ونصف الساعة.
وتكمن ” استراتيجية”، معركة “المزرعة الصينية” في أنه في حال كان العدو قد تمكن من اقتحام المزرعة عبر الثغرة والعبور لغرب القناة كان سيكون على مسافة 100 كلم فقط من العاصمة ” القاهرة”. كما أنه سيكون في نقطة شديدة الأهمية بين الجيشين الثاني والثالث وبالتالي كان سيترك آثار غاية في السلبية على معنويات الجيشين علاوة على ذلك فإن وجود قوات من الجيش الإسرائيلي مسيطرة على تلك المنطقة كان سيشكل ورقة ضغط قوية على مصر في حالة الوصول لاتفاق بوقف إطلاق النار.

وحسب شهادة ” محمد أبو اليزيد” أحد قناصي الدبابات فقد تم إطلاق 50 صاروخًا مضاد للدبابات حيث حقق منها 48 صاروخاً الهدف بتقدير إصابة 40 دبابة إسرائيلية على أقل تقدير.
واعتمد المصريون على حفر الخنادق فيما يشبه ” حدوة الحصان” وهو ما مكنهم من إطلاق النيران واستهداف العدو من جهات ثلاث. كما اعتمدت الكتيبة 16 مشاة على عنصر التمويه بشكل كبير حيث كانت الكتابة تغادر مواقعها بعد أن تحلق طائرات العدو لتصوير الموقع وبالتالي كان الإسرائيليون يضربون أهدافًا فارغة.
وفي نفس اليوم، قرر الإسرائيليون تطوير هجوم بالدبابات وتم الاشتباك بواسطة الدبابات المخندقة والأسلحة المضادة للدبابات واستطاع المصريون تحقيق نجاح باهر حيث تم تدمير 15 دبابة للعدو كدفعة أولى واستمرت ” حرب العصابات” حتى صبيحة اليوم التالي واستطاع المصريون تدمير 60 دبابة في مشهد أشبه ما يكون بمحرقة للـ”دبابات الإسرائيلية”.

وجاءت الساعات الأولى للصباح مكسوة بالضباب مما ساعد القوات الإسرائيلية على سحب قواتها من القتلى والجرحى ولكنها لم تستطع سحب الدبابات المدمرة وفي هذا اليوم كان شارون يحصي خسائره التي وصلت إلى أكثر من 300 قتيل وتدمير 70 من إجمالي 250 دبابة.
وحسب شهادة الإسرائيليين، فإن بطل المعركة كانت صواريخ ” آر بي جي ” روسية الصنع والتي مثلت مفاجأة مزعجة لهم بكل المقاييس لأنهم لم يتدربوا على التعامل معها كما لم يتدربوا على إسعاف الجرحى في الميادين المفتوحة.
ويقول موشيه ديان في شهادته” لدى زيارتي لموقع المزرعة الصينية في يوم 17 أكتوبر برفقة أرئيل شارون لم أستطع إخفاء مشاعري عند مشاهدتي لها فقد كانت مئات من العربات العسكرية المهشمة والمحترقة متناثرة في كل مكان ومع اقترابنا من كل دبابة كان الأمل يراودني في ألا أجد علامة الجيش الإسرائيلي عليها وانقبض قلبي فقد كان هناك كثير من الدبابات الإسرائيلية.

جزء من الكتيبة 16 مشاة
وعلى صعيد ضرب الأمثال وتلقي العبر والدروس فإن المعركة الصينية واقعة تؤرخ لكيف استطاعت القلة ” المدربة صاحبة العقيدة والحق” دحر أسطورة الجيش الإسرائيلي.. فقد وضعت القيادة العسكرية الإسرائيلية خطة لاختراق المنطقة الواقعة بين الجيشين الثاني والثالث شرق القناة لفتح مساحة تكفي لقطع الإمدادات عن الجيش المصري، وحشدت الدبابات ونحو ما يزيد ألفين جندي لاحتلال المزرعة الصينية التي كانت تدافع عنها الكتيبة 16 المصرية وقوامها لا يتجاوز 500 جندي.
باحث أول بالمرصد المصري