العراق

مكاسب عراقية: قراءة أولية في نتائج مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة

جاءت القمة التي استضافتها العاصمة العراقية بغداد (28 أغسطس) لدول الجوار العراقي وعدد من القوى والمؤسسات الإقليمية والدولية في خضم تطورات وتحولات متسارعة على الساحتين الإقليمية والدولية، جعلت من انعقادها بهذا الزخم الدولي الكبير فرصة مهيأة لطرح القضايا التي تهم الفاعلين الإقليميين والدوليين رغم اختلاف رؤاهم ومواقفهم إزاء هذه القضايا، والخلاف الذي يعد السمة الأساسية لعلاقات بعضهم؛ مما يجعلها قمة تجمع بين الأضداد والمتناقضات على مستوى الحضور وعلى مستوى محاور النقاش.

مكاسب عراقية

لم ترتبط قمة بغداد بالتطورات الجارية إقليميًا ودوليًا فحسب، وإنما ارتبطت بتطورات في الداخل العراقي أيضًا، منها قُرب إجراء الانتخابات المبكرة (10 أكتوبر)، والانسحاب المتوقع للقوات القتالية الأمريكية بنهاية العام، والذي تم الاتفاق عليه بين رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارة الأول إلى الولايات المتحدة (26 يوليو) في إطار الجولة الرابعة للحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد. هذا علاوة على توجهات الكاظمي الإصلاحية داخليًا وخارجيًا التي بدأها منذ توليه رئاسة الحكومة العراقية (مايو 2020). وبناء على ذلك فإن عددًا من المكاسب تتحقق للعراق والكاظمي من انعقاد القمة.

تعزيز المكانة إقليميًا

بدأ مصطفى الكاظمي منذ توليه رئاسة الحكومة سياسة خارجية حاولت أن تكون مغايرة لسياسات سابقيه، تهدف إلى النأي بالعراق عن التجاذبات الإقليمية والدولية وألا يكون مسرحًا لهذه التجاذبات والصراعات، وخاصة بعد حادثة مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق (3 يناير 2020). وتهدف كذلك إلى محاولة ضبط ميزان العلاقات العراقية مع كل من الولايات المتحدة وإيران، فضلًا عن إعادة انفتاح العراق على محيطه العربي من خلال الزيارات المتبادلة وحل المشكلات العالقة مثل زيارته إلى السعودية (31 مارس) والإمارات (4 أبريل) والكويت (24 أغسطس)، علاوة على تعزيز الروابط السياسية والاقتصادية مع الدول العربية، وخاصة من خلال آلية التعاون الثلاثي التي تجمع العراق مع مصر والأردن التي استضافت بغداد قمتها الأخيرة (27 يونيو).

وبناء على هذه التحركات، استطاع الكاظمي تحقيق بعض النجاحات، منها تعزيز العلاقة مع الولايات المتحدة من خلال الحوار الاستراتيجي سواء في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أو الرئيس الحالي جو بايدن. وفي الوقت ذاته لم ينفصل الكاظمي وحكومته عن العلاقات الوطيدة مع إيران، بل أجرى زيارات إلى طهران، واستقبل مبعوثين إيرانيين، وعمل على استغلال هذه العلاقات في ضبط الميلشيات العراقية الموالية لإيران. 

وقد هيأ كل ذلك العراق للعودة من جديد للعب دوره البارز المعهود إقليميًا، وهو ما يتضح في اجتماعات الوساطة التي استضافتها بغداد لوفدي إيران والسعودية (9 أبريل). واستطاع العراق تعزيز هذه المكاسب من خلال عقد مؤتمر بغداد الذي جمع قادة وممثلين عن قوى إقليمية ودولية هي مصر والسعودية والإمارات والكويت وقطر والأردن وإيران وتركيا وفرنسا وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وتمثل استضافة العراق في حد ذاتها لهذا المؤتمر بعد شهرين من قمة بغداد التي جمعت العراق ومصر والأردن هي المكسب الأهم اليوم، لما لها من تعزيز لدور العراق كلاعب إقليمي أولًا وكوسيط موثوق بين القوى الإقليمية ثانيًا.

تعزيز المسار الديمقراطي

مثّل تأكيد كل من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعدد آخر من المتحدثين في كلماتهم خلال المؤتمر على دعم العراق في إجراء الانتخابات المبكرة المقررة في العاشر من أكتوبر المقبل رسالة إلى مختلف الأطراف داخل العراق وخارجها مفادها أنه لا مناص من إجراء هذه الانتخابات، وأن الحديث عن تأجيلها لم يعد مقبولًا طرحه. وقد كانت هذه الرسالة من الرسائل المهمة التي أراد الكاظمي عبر عقد هذا المؤتمر إيصالها إلى مختلف الفرقاء العراقيين بعد أن كثرت المطالبات خلال الآونة الأخيرة بتأجيل الانتخابات على إثر انسحاب بعض القوى والتيارات من المشاركة فيها.

وهي رسالة يبدو أن كثيرًا من الأطراف داخل العراق التقطوها قبل عقد المؤتمر بالفعل، وهو ما يدلل عليه إعلان مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري وكتلة سائرون صاحبة الأغلبية النيابية في البرلمان العراقي (27 أغسطس) تراجعه عن قراره السابق الذي اتخذه منتصف الشهر الجاري بالانسحاب من الانتخابات. وبعدما وجدت قوى سياسية أن تأجيل الانتخابات لم يعد ممكنًا وأن مشاركة التيار الصدري في الانتخابات أمر مهم لما يملكه من شعبية كبيرة، تقدمت هذه القوى بما وصفه الصدر بـ”الورقة الإصلاحية التي جاءت وفقًا لتطلعاتنا”. وهو ما يعضد في النهاية من موقف الكاظمي واحتمالات مجيئه رئيس للوزراء بعد إجراء الانتخابات، ولا سيّما بعد ما تلقّاه من إشادات من الزعماء خلال المؤتمر بما أنجزه خلال الشهور الفائتة منذ توليه رئاسة الحكومة.

الحد من التدخلات الخارجية

تظل قضية التدخلات الخارجية في العراق واستغلال العراق كمسرح للصراع بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية من أهم القضايا التي سعى العراق إلى الوصول إلى حل أو توافق بشأنها خلال مؤتمر بغداد. وهو ما أكدته كلمات مختلف القادة الحاضرين في المؤتمر حتى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي أكد أن “الأمن لا يستتب إلا عبر الثقة المتبادلة بين دول المنطقة وعدم تدخل الدول الأجنبية فيها”. 

إلا أن بعض العبارات التي جاءت في كلمة عبد اللهيان، وخاصة حديثه عن أن “واشنطن ارتكبت جريمة كبرى في اغتيال الشهيدين سليماني والمهندس”، فضلًا عن زيارته موقع اغتيالهما قبل انعقاد المؤتمر؛ تشير إلى أن هذه التدخلات الخارجية محل الرفض من الجميع ستستمر، لا سيّما مع تأكيد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بأن بلاده “لن تسمح بوجود حزب العمال الكردستاني في المنطقة وبخاصة العراق”.

سياسة الاحتواء

اعتمدت سياسة مصطفى الكاظمي منذ مجيئه إلى رئاسة الحكومة على التعامل مع الجميع دون استثناء، ففي الوقت الذي اغتالت فيه الولايات المتحدة قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في بغداد، الأمر الذي عدّه عراقيون انتهاكًا لسيادة العراق، لم يتوان الكاظمي عن تعزيز علاقات بغداد مع واشنطن في كافة المجالات. وفي الوقت ذاته الذي تحرك فيه طهران الميلشيات داخل العراق لاستهداف الوجود الأمريكي داخل البلاد، مما يضع الكاظمي في موقف حرج أمام واشنطن، لم ينخفض مستوى التنسيق والتعاون بين الكاظمي والقيادة الإيرانية سواء الرسمية أو قيادة الحرس الثوري عبر الزيارات المتكررة لقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى بغداد، والمبعوثين العراقيين إلى طهران. وبينما تواصل تركيا عملياتها العسكرية شمال العراق وسعيها إلى تأسيس وجود عسكري مستدام هناك من خلال شن العمليات الحربية وإنشاء القواعد العسكرية؛ حافظ الكاظمي على مستوى العلاقات مع أنقرة، وزارها والتقى رئيسها رجب طيب أردوغان (ديسمبر 2020) وأجرى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عدة زيارات إلى بغداد.

ومن هذا المنطلق، جاء تنظيم مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة لجمع جميع الأطراف الذين للعراق مصالح معهم، للخروج بأكبر قدر ممكن من المكاسب، وخاصة ما يتعلق بالاستثمارات والتعاون الاقتصادي والتجاري، وحل المشكلات العالقة، مثل تلك التي بين العراق والكويت، أو بين العراق وإيران وتركيا فيما يخص التدخلات العسكرية وأزمة المياه. إذ يريد الكاظمي اتباع سياسة تعتمد على الاحتواء بدلًا من النأي المستحيل بالنفس عن الصراعات المحيطة، ومحاولة استغلال هذه الصراعات والتشابكات بين القوى الإقليمية والتوازنات الجديدة في المنطقة لتعظيم مكاسبه ومصالحه، الأمر الذي يبدو ضروريًا في ضوء الانسحاب المرتقب للقوات الأمريكية، وما أحدثه انسحاب مشابه من أفغانستان التي يسعى العراق إلى تجنب مصيرها.

مكاسب اقتصادية

كانت ملفات إعادة الإعمار والاستثمار في العراق أحد أهم الملفات التي طُرحت خلال المؤتمر، والتي هدف العراق إلى اجتذاب أكبر قدر من الدعم الدولي لها من خلال الحاضرين الذين يرتبط جميعهم بمصالح وخطط اقتصادية مع العراق، فإيران من جانب هي المصدر الأساسي لوقود الكهرباء إلى العراق، ويبلغ التبادل التجاري بينهما أكثر من 13 مليار دولار، فيما يبلغ هذا التبادل التجاري نحو 20 مليار دولار مع تركيا، في حين يرتبط العراق بخطط مشاريع للطاقة والربط الكهربائي والنقل مع مصر والأردن من خلال آلية التعاون الثلاثي، ويسعى إلى جذب دعم اقتصادي واستثمارات ومشاريع من دول الخليج.

ولذلك فإن إعلان أمين عام مجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف خلال المؤتمر عن الإعداد لعقد مؤتمر تحت عنوان: “مؤتمر الإعمار والاستثمار الخليجي – العراقي” في الفترة المقبلة في إطار دعم المجلس للعراق، فضلًا عن تشديده على ضرورة متابعة مخرجات مؤتمر الكويت التي نصت على دعم العراق اقتصاديًا؛ يمثل مكسبًا كبيرًا للعراق من المؤتمر. علاوة على تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن فرنسا ستكون بجانب العراق في عدد من مشاريع البنى التحتية والتعليم والصحة والطاقة والمياه. وقد أبدى ماكرون اهتمامه الكبير بالعراق من قبل من خلال زيارته إلى بغداد (سبتمبر 2020) وزيارة الكاظمي إلى باريس (أكتوبر 2020).

إجمالًا، حتى الآن لا يبدو أن مؤتمر بغداد قد حقق النتائج المرجوة منه فيما يتعلق بضبط الخلافات الإقليمية أو طرح معادلات جديدة أو الوصول إلى تفاهم في وجهات النظر بين القوى في المنطقة أو الحد من تدخلاتها في العراق؛ إلا أن استضافة العراق لهذا المؤتمر الذي يجمع بين قوى متضادة ومتناقضة على طاولة واحدة -حتى وإن لم تتقابل على المستوى الثنائي- تنهي عزلته الإقليمية والعربية، وتعيده لاعبًا مهمًا في المنظومة الإقليمية، وتعزز من انفتاحه على محيطه العربي الذي بدأ من خلال التعاون مع مصر والأردن، وتؤكد دوره وسيطًا مهمًا بين اللاعبين الإقليميين والدوليين حاليًا ومستقبلًا، وتفتح له أبوابًا لتحقيق مكاسب اقتصادية تعاونية مع مختلف الدول وعبر مسارات متوازية، مع الاستفادة من تقاطعاتها مع بعضها البعض.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى