
خروج قوات التحالف من العراق بين مخاطر الانسحاب وتداعيات البقاء
ألقت حرب غزة التي تجاوزت مئة يوم حتى الآن بظلالها على الأوضاع الإقليمية والدولية وأعادت فتح عدد من الملفات المنسية، وفي العراق أعادت الأوضاع في غزة إحياء حالة الإلحاح المطالبة بإنهاء مهام قوات التحالف في بغداد، وهو ما خلق مجالًا من النقاش العام داخل المجتمع العراقي كان قد تم تجنيبه منذ أعوام.
تأتي القوات الأمريكية على رأس قوات التحالف التي تواجدت في العراق لهزيمة تنظيم داعش الإرهابي، حيث تكمن المعضلة في رغبة متوافرة لدى المجتمع العراقي وجزء من التيارات السياسية العراقية في مغادرة هذه القوات في الوقت الذي يصر فيه الجانب الأمريكي على الإبقاء على قواته في العراق حتى إشعار آخر. وليس من الخفي أن الطريقة التي سيدار بها هذا الانسحاب سوف تساهم في رسم ملامح النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط مستقبلًا.
ولفهم الأمر بتفاصيله، تنبغي الإشارة للمحرك الأساسي الذي جعل ملف خروج قوات التحالف مطروحًا بقوة على الساحة السياسية العراقية منذ أيام، وكما تمت الإشارة مسبقًا فإن الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر تعد المحرك الأساسي لملف الخروج لعدد من الأسباب، أهمها وقوع العراق دومًا في خندق العلاقات الأمريكية- الإيرانية.
فمن ناحية اعتبرت المقاومة العراقية أن استهداف قاعدتي عين الأسد وحرير للقوات الأمريكية، “رد فعل طبيعي” تجاه الولايات المتحدة المنحازة للكيان الصهيوني الذي يرتكب جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
ومن المهم الإشارة هنا، إلى أن “إسرائيل” كانت قد تلقت تحذيرات من قِبل محاور المقاومة التابعة في مجملها للنفوذ الإيراني من أنه في حال قيامها بغزو بري لقطاع غزة، فإن الحرب سوف تتوسع لتشمل جبهات متعددة بما يتضمنه ذلك من استهداف القوات والقواعد الأمريكية في المنطقة، خصوصًا أنه وحسب وكالة تسنيم الإيرانية فإن نحو 5000 جندي أمريكي يشاركون في “العملية البرية” الإسرائيلية الموسعة التي بدأت في غزة، مضيفة أن العملية شاركت فيها ثلاث فرق وعدة ألوية. وبالتالي ينظر للولايات المتحدة على أنها داعمة للحرب على غزة بشكل لا لبس فيه.
ومن ناحية أخرى، فإن الضربات التي تشنها الولايات المتحدة على العراق ينظر لها على أنها انتهاك للسيادة العراقية، مما أعاد أيضًا طرح ملف انسحاب القوات الأمريكية بقوة خصوصًا إن اغتيال كاظم الجواري القيادي في حركة النجباء شكل تصعيد من نوع ما، وضع القوات الأمريكية في بؤرة التركيز بشكل أكبر. ولكن حتى الآن يمكن وصف الضربات الأمريكية بأنها اتسمت بنوع من ضبط النفس.
وتشي الضربة الإيرانية لمواقع تابعة لإسرائيل داخل أربيل في إقليم كردستان بأن العراق ومع بقاء القوات الأمريكية واستمرار النفوذ الإيراني ستتحول إلى ساحة لتصفية الخلافات.
وفي أعقاب الإشارة إلى المحرك الأساسي لإعادة طرح الملف ينبغي فهم مخاطر خروج القوات الأمريكية من ناحية، وتداعيات بقائها من ناحية أخرى، وذلك على النحو التالي:
أولًا) تداعيات البقاء:
تشير التيارات العراقية الرافضة لبقاء قوات التحالف وعلى رأسها القوات الأمريكية، إلى أن بقاء هذه القوات يؤثر بشكل كبير على بنية ومستوى الجيش العراقي، لأنها تخلق نوع من الاعتمادية سواء لدى الجيش العراقي او قوات الأمن والشرطة على تلك القوات.
كذلك فإن من تداعيات بقائها هو خلق حالة من التوتر السياسي في بلد لا يخلو من التوترات السياسية بالأساس، خصوصًا مع وجود حالة من عدم التوافق بين التيارات السياسية في العراق حول خروج القوات الأمريكية.
حيث تفضل الكتل السياسية السنية والكردية بقاء القوات الأمريكية وقوات التحالف، خصوصًا بعد استهداف إيران لمواقع تابعة لإسرائيل داخل أربيل مما يجعل كردستان أكثر تمسكًا ببقاء القوات الأمريكية، في حين تزيد الفصائل القريبة من إيران الضغط وتدعو إلى طرد هذه القوات.
وبين هذا وذاك، هناك تيار وسطي يرى أنه على حكومة السوداني أن تضغط من أجل إجراء مفاوضات مع واشنطن بشأن حاجة العراق لمستشارين أجانب فقط للتشاور، وأن وجود القوات المسلحة مسألة مرفوضة تمامًا.
بحيث إنه لو تم الاتفاق على تشكيل لجنة فنية للتفاوض مع الولايات المتحدة في هذا الشأن. ووافقت على سحب جميع القوات العسكرية والاحتفاظ بالمستشارين فقط، فيجب أن يضمن الاتفاق عدم استهداف فصائل المقاومة العراقية لهم.
ولكن هذا قد يخلق نوعًا آخر من الضغوط على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع سوداني، حيث قد يتعرض لانتقادات من الإطار التنسيقي الذي كان سببًا في توليه السلطة. مع الوضع بالاعتبار أنه لا يمكن للسوداني أن يتخذ قرارا بإخراج القوات الأمريكية دون الرجوع إلى البرلمان العراقي وتشريع قانون جديد، ولا شك أن هذا الانقسام السياسي سيحمل نفسه إلى أروقة البرلمان أيضًا. خصوصًا أن إصدار قانون إلغاء الاتفاقية يحتاج إلى موافقة ما يقارب 220 نائبًا في البرلمان من أصل 329 نائبًا لتأمين الثلثين، وهذا يعني وجوب إقناع الحلفاء من السنة والكرد بقبول حضور جلسة التصويت على الإلغاء.
وذلك حتى في ظل عدم إعلان القوى السنية موقفًا صريحًا في شأن وجود قوات التحالف في العراق، وهو ما يفترض تكرار سيناريو عام 2020 حين اتخذ البرلمان قرارًا بإخراج القوات الأمريكية وسط مقاطعة القوى الكردية وغياب غالبية النواب السنة، الذين يرون في انسحاب القوات الأمريكية مزيدًا من النفوذ للتيارات الشيعية الموالية لإيران.
ثانيًا) مخاطر الانسحاب:
يبرز الخطر الأول في أن انسحاب قوات التحالف والقوات الأمريكية، ربما يخلق حالة من الفراغ الأمني في العراق تعيد من حيث لا تدري الحياة لتنظيم داعش الإرهابي، حيث كانت مهمة الأمريكيين ظاهريًا هي منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وتدريب القوات المسلحة العراقية. ومع ذلك، عرّضت الولايات المتحدة استمرار وجودها في البلاد للخطر، من خلال استهداف الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران واغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني على الأراضي العراقية، بعد سلسلة من الهجمات على أهداف عسكرية ودبلوماسية أمريكية. خصوصًا أنه وضع العراق في موقف لا يحسد عليه من تحمل تبعات استعداء جار قوي يشترك معه في حدود يبلغ طولها 1400 كيلومتر.
ولم تكن الأوضاع بهذا القدر من السوء بين الولايات المتحدة وإيران داخل العراق، ولكن الأوضاع اتجهت للتفاقم بعد انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق النووي مع إيران في عام 2018، وسعي واشنطن إلى فرض حظر كامل على صادرات النفط الإيرانية في عام 2019. وذلك عندما بدأت إيران سلسلة من الإجراءات الانتقامية في الخليج العربي والعراق، والتي أدت إلى اغتيال سليماني في نهاية المطاف، وهو ما قلب الأمور بين عشية وضحاها من رفض الشارع العراقي لوجود الميليشيات الإيرانية إلى رفض العراقيين لوجود القوات الأمريكية.
من ناحية أخرى وعلى الصعيد العسكري قد تفوت بغداد على نفسها مزايا مثل التدريب العسكري، والخدمات اللوجستية، والاستطلاع، والمساعدة في عمليات القوات الخاصة والدعم الجوي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والوصول إلى المعدات العسكرية الأمريكية المتطورة. مع الوضع بالاعتبار أنه من الصعب على القوات العراقية تشغيل مقاتلات إف-16 الأمريكية، كما أن بغداد لا تمتلك أسلحة دفاع جوي أو منظومات صواريخ متطورة، أو نظام إنذار ومراقبة جوي، أو قدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية. وبالنسبة للجانب الأمريكي فإنه يرى في العراق مكانًا يمكن من خلاله مواجهة النفوذ الإيراني، كما تخدم قواعدها العراقية الأغراض الاستراتيجية الأمريكية.
وفي حال إصرار الحكومة العراقية على خروج القوات الأمريكية، فإن ذلك سيكون له ضرر بالغ على العلاقات الأمريكية- العراقية وقد لا تعتبر واشنطن بغداد حليفًا بعد الآن، الأمر الذي يجعل العراق مهددة بفرض عقوبات خصوصًا إذا ما تم النظر لها على أنها حليف لإيران، مع احتمال احتجاز المليارات من احتياطيات النقد الأجنبي العراقية الموجودة حاليًا في الولايات المتحدة.
ختامًا، تشي الأوضاع الحالية بأن خروج القوات الأمريكية هي مطلب عراقي شعبي وسط انقسام بين القوى السياسية، كما تشير إلى أن أي خروج مفاجئ دونما اتفاق يضر بالمصالح العراقية ولا يفيد ويشبهه البعض بانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، ومن هنا فإنه ربما يعد وجود اتفاق بالخروج المقاربة الأفضل بما يتضمنه بحالة من فك الارتباط التدريجي التي تضمن مصالح الطرفين، خصوصًا أن الطرف الأمريكي لا يخطط لأي انسحابات في ظل استمرار الحرب في غزة، وهو ما انعكس بشكل واضح في استقبال رئيس حكومة إقليم كردستان العراق القائد العام لقوات التحالف الدولي في العراق وسوريا، وتضمن المحور الرئيس للاجتماع التأكيد على أهمية حماية الأمن والاستقرار في العراق وإقليم كردستان، والتشديد على ضرورة أن تواصل قوات التحالف الدولي مهامها من أجل مساعدة الجيش العراقي.
باحث أول بالمرصد المصري