آسياالأمريكتان

كيف تلعب الحرب التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة دورًا محوريًا في أزمة الرقائق العالمية؟

يشهد الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي الكثير من التحديات الاقتصادية الناتجة عن انتشار فيروس كورونا وغيره من الأسباب، ولم تتوقف تلك التحديات عند المستوى الكلي فقط بل إنها تخطت هذا لتلقي بظلالها على أصغر المكونات والقطاعات الاقتصادية.

ومن بين تلك التحديات؛ أزمة الرقائق وأشباه الموصلات التي تضرب مختلف دول العالم وتؤثر على العديد من القطاعات كالسيارات والأجهزة الإلكترونية وغيرها حيث أعلن بنك “جولد مان ساكس” إن أزمة نقص الرقائق سوف تلقي بظلالها على 169 صناعة مختلفة، مشيرًا إلى أن  القطاعات التي تنفق أكثر من 1% من إجمالي ناتجها على أشباه الموصلات سوف تتأثر بشكل مباشر أو غير مباشر بالأزمة.

وترجع بعض التحليلات الاقتصادية تلك الأزمة إلى تداعيات فيروس كورونا وحدها ولكن لم يكن تفشي الجائحة المتسبب الوحيد في هذا المأزق حيث انطلقت شرارة الأزمة مع تحول الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى حربًا تكنولوجية.

وفي ضوء ما سبق، يحاول هذا المقال استعراض حجم السوق ومدى أهميته، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الصراع الأمريكي – الصيني كمسبب رئيسي لأزمة الرقائق مع عرض أهم الأسباب الأخرى.

لمحة عن سوق الرقائق وأشباه الموصلات

شهد سوق أشباه الموصلات نموًا مطردًا خلال العام الماضي بسبب تزايد الطلب في الصناعات التي تعتمد على هذا المكوًّن الهام، وتشير أحدث التوقعات إلى استمرار نمو حجم هذا السوق الحيوي خلال العامين الجاري والمقبل. وفيما يلي رسمًا لتوضيح حجم السوق خلال عقدٍ زمني.

الشكل (1): تطور حجم سوق أشباه الموصلات 

يتضح من الشكل السابق ارتفاع حجم سوق أشباه الموصلات إلى 440.39 مليار دولار خلال 2020، على أن يستمر هذا الارتفاع إلى 527.22 مليار دولار و573.44 مليار دولار خلال عامي 2021 و2022 على التوالي.

وتستند هذه التوقعات إلى ارتفاع مبيعات أشباه الموصلات خلال الربع الأول من 2021، بنسبة 17.8% إلى 123.1 مليار دولار مقارنة بالربع المقابل من 2020، وذلك عقب صعودها بنحو 6.5% إلى 439 مليار دولار خلال عام 2020 بأكمله مقارنة بنحو 412.3 مليار دولار في عام 2019.

وشكلت دول آسيا، والمحيط الهادىء، النصيب الأكبر في مبيعات أشباه الموصلات العام خلال العام الماضي  بحصة 61.5% حيث بلغت مبيعات المنطقة 271.032 مليار دولار، مقابل 257.879 مليار دولار في عام 2019.

كما زادت المبيعات في الأمريكيتين بنسبة 21.3% إلى 95.366 مليار دولار مقابل 78.619 مليار دولار في 2019، لتمثل 21.7% من إجمالي المبيعات العالمية. فيما بلغت مبيعات اليابان 36.471 مليار دولار، ومبيعات أوروبا 37.52 مليار دولار خلال نفس الفترة.

ومن المرجح استمرار زيادة مبيعات آسيا والمحيط الهادىء في 2021 بنسبة 10.8%، وفي الأمريكيتين بنسبة 9.7%، وفي أوروبا بنسبة 14.5% وفي اليابان بنسبة 10.6%.

ومع تزايد الطلب والمبيعات بشكل ملحوظ وتراجع مستوى العرض، عانى القطاع من أزمة حادة أشارت إليها جميع الشركات العاملة في القطاعات المتصلة بهذا السوق.

أسباب معقدة

اجتمعت عدة عوامل ساهمت في تفاقم أزمة الرقائق وأشباه الموصلات والتي تتمثل أهمها في الخلاف بين بكين وواشنطن، وانتشار فيروس كورونا الذي فرض بالفعل ضغوطًا ضخمة على سلاسل التوريد العالمية، وأسفر عن تراجع العرض بسبب إغلاق عدد كبير من مصانع إنتاج الرقائق رغم ارتفاع الطلب عليها، ويُمكن تلخيص أسباب تلك الأزمة في النقاط التالية:

  1. توقعات خاطئة:

ساهمت الإجراءات الاحترازية الناتجة عن الجائحة في إغلاق مصانع السيارات مؤقتًا، وكنتيجة لذلك قامت معظم شركات حول العالم بإلغاء طلبات شراء الرقائق المستخدمة في أنظمة إلكترونيات السيارات في ظل التوقعات التي أشارت إلى استمرار انخفاض الطلب واستمرار إغلاق خطوط الإنتاج بقية عام 2020. ولكن ما حدث كان عكس ذلك، إذ تعافت صناعة السيارات بشكل أسرع من المتوقع  وانتعشت المبيعات بحلول الربع الرابع من العام الماضي وحتى الشهور الأولى من العام الجاري 2021، ولهذا حاول صانعو السيارات زيادة الإنتاج مرة أخرى، ولكن لم تستطع مصانع الرقائق الاستجابة بالسرعة الكافية نظرًا للمدة الطويلة اللازمة لجدولة الطلبات من جديد. وفيما يلي رسمًا توضيحيًا لمبيعات وإنتاج السيارات خلال 2020:

الشكل (2): مبيعات السيارات عالميًا 

من الرسم السابق يتبين تراجع إجمالي مبيعات السيارات عالميًا من 90.42 مليون وحدة في 2019 إلى 77.97 مليون وحدة خلال 2020، وذلك بنوعيها؛ سيارات الركاب والمركبات التجارية. أما عن إنتاج السيارات:

الشكل (3): إنتاج السيارات سنويًا 

يوضح الرسم السابق انخفاض إنتاج السيارات عالميًا خلال 2020 للأسباب سالفة الذكر من 92 مليون وحدة في 2019 إلى 78 مليون وحدة بنسبة تراجع تبلغ 15.2% على أساس سنوي.

  1. ارتفاع الطلب:

اتخذت جميع الدول قرارات بإغلاق حدودها العام الماضي فضلًا عن فرض حظر التجوال لفترات طويلة بهدف الحد من انتشار فيروس كورونا وهو ما أسفر عن بقاء الأفراد في منازلهم لوقت أطول من المعتاد مما أدى إلى تزايد الإقبال بشكل ملحوظ على شراء الأجهزة الإلكترونية من أجل الاستخدام الترفيهي أو الالتزام بقواعد العمل والتعليم عن بعد، وفيما يلي عرضًا للبيانات الخاصة بأكبر خمس شركات خلال الربع الأخير من 2020:

الشكل (4): شحنات الهواتف العالمية لأكبر خمس شركات 

يتضح من الرسم السابق تحقيق جميع الشركات ارتفاعًا في حجم شحنات هواتفها الذكية عالميًا خلال الربع الرابع من 2020، عدا شركة “هواوي”، وربما يرجع ذلك للعقوبات الأمريكية على الشركة والتي تهدف لتضييق النطاق على أنشطتها.

  1. محدودية العرض:

يتسم سوق الرقائق بقلة عدد الشركات العاملة بداخله، حيث أدى النقص العالمي في الرقائق إلى لفت الانتباه إلى دور تايوان الضخم في تصنيع أشباه الموصلات، وهو ما يوضحه الشكل التالي:

الشكل (5): الحصة السوقية لكبار اللاعبين في سوق الرقائق

من الرسم السابق يتبين أن تايون تستحوذ على النسبة الأكبر من سوق الرقائق وأشباه الموصلات لاسيما شركة “تي إم سي” التي وصلت حصتها السوقية إلى 54% حتى أوائل عام 2021.

وإلى جانب جميع الأسباب السابقة، تعرض مصنع الرقائق المملوك لشركة “Renesas Electronics” اليابانية –التي تمد السوق بنحو 30% من وحدات التحكم الدقيقة المستخدمة في السيارات- لحريق مارس الماضي مما سيستغرق نحو 100 يوم على الأقل للعودة إلى الإنتاج الطبيعي. 

  1. العقوبات الأمريكية على الصين:

واجهت صناعة الرقائق وأشباه الموصلات ضغطًا قبل أزمة كورونا  -كما ذكرنا سابقًا- بفعل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي انعكست بشكل أساسي على شركة “هواوي” التي بدأت في تخزين الرقائق بداية من عام  2019 للحد من وطأة العقوبات، مما ساهم في تركيز شركة “تي إس إم سي” التايوانية -الموردة الرئيسية لـ”هواوي”- على توريد رقائقها بشكل أساسي للشركة الصينية مما مثل ضغطًا على باقي السوق. وهو ما سنتعرض له تفصيلًا في الجزء القادم.

دور الحرب التكنولوجية في تفاقم الأزمة

تحاول الولايات المتحدة فرض حصار قوي على نمو القطاع التكنولوجي في الصين، وبحلول السابع عشر من أغسطس 2020، أعلنت وزارة التجارة الأمريكية قرارها بمطالبة المصنعين الأجانب الذين يستخدمون التكنولوجيا الأمريكية بالحصول على تصريح في حال رغبتهم لبيع أشباه الموصلات لشركة “هواوي”، وذلك عقب منع  وزارة التجارة الأمريكية الشركات المحلية بشكل أساسي من بيع الرقائق المصنوعة في الولايات المتحدة للشركة الصينية العملاقة.

وبالتوازي مع فرض العقوبات، اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” خطوات جادة لصبَّ الاهتمام على أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل التالي، وذلك في صلب استراتيجية الولايات المتحدة لتقويض آسيا. ففي يونيو 2021، تبنى مجلس الشيوخ الأمريكي مشروع قانون يقضي بتخصيص أكثر من 170 مليار دولار لأغراض البحث العلمي والتطوير، وتهدف بشكل خاص إلى تشجيع الشركات على إنتاج أشباه الموصلات على الأراضي الأمريكية بدلًا من الآسيوية.

وترصد الخطة الأمريكية 120 مليار دولار للوكالة الحكومية “مؤسسة العلوم الوطنية” لتشجيع البحث في مختلف المجالات التي تعتبر رئيسية مثل الذكاء الاصطناعي. كما تشمل 1.5 مليار دولار لتطوير شبكة الجيل الخامس (5جي) للاتصالات التي تشكل إحد القضايا الخلافية الأساسية بين الصين والولايات المتحدة.

وفي نفس الوقت، بدأت الصين في شق طريقها لتوطين التكنولوجيا طبقا لخطتها الخمسية 2021-2025، حيث ساهمت العقوبات الأمريكية على بكين في اتجاهها إلى تكثيف شراء كميات ضخمة من الرقائق تجنبًا لتصاعد حدة الخلافات بين البلدين. وفيما يلي شكلًا يوضح استهلاك الرقائق حول العالم.

الشكل (6): الحصة السوقية لاستهلاك الرقائق حول العالم

يتضح من الشكل نمو حصة استهلاك الصين للرقائق من إجمالي الاستهلاك العالمي بشكل مطرد منذ عام 2003 وحتى 2019 من 18.5% إلى 60.5% بنسبة ارتفاع تبلغ 42%، ويأتي ذلك مع تراجع حصة الاستهلاك في جميع المناطق الأخرى كالامريكتين وأوروبا واليابان. ويعني ما سبق أن الصين تستحوذ على أكثر من 60% من إجمالي الاستهلاك العالمي كالرقائق.

 وفي الختام، ينبغي الإشارة إلى مساهمة الحرب التكنولوجية بين أكبر اقتصادين في العالم بجانب فيروس كورونا إلى تزايد الطلب على الرقائق وأشباه الموصلات في الوقت الذي يعاني فيه العالم من نقص حاد في المعروض مما أسفر عن تفاقم أزمة الرقائق العالمية.

+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

بسنت جمال

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى