
لا يحلو للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تبرد أي أزمة في المنطقة، وكلما اتجهت أزمة إلى بوادر حل أو استقرار سعى بخطوات حثيثة إلى صب الزيت على النار لإعادة إشعال الأمور. وكانت آخر هذه المحاولات الزيارة المثيرة للجدل التي قام بها الرئيس التركي وطاقمه الحكومي إلى مدينة الأشباح القبرصية” فاروشا” في أواخر يوليو الماضي، وهي الزيارة التي اجتذبت الكثير من الانتباه والانتقادات في نفس الوقت؛ لأنها تطرح بوضوح مقاربة تركية جديدة للمسألة القبرصية، وهي المقاربة التي تبدو منتَقدة من جميع الأطراف والقوى الدولية ما عدا تركيا، وهو نهج أنقرة المعروف.
حتى جمهورية قبرص التركية التي تم إنشاؤها في عام 1983 لم يعترف بها إلا تركيا من بين دول العالم أجمع، وهو ما يستمر حتى الآن؛ إذ لا يوجد أي طرف مقر لزيارة الرئيس التركي إلى فاروشا إلا الرئيس التركي نفسه، في حالة من العناد العثماني ليس مع دولة أو دولتين ولكن مع القانون الدولي ومع المجتمع الدولي.
لماذا يشهر أردوغان ورقة قبرص؟
تستخدم أنقرة الورقة القبرصية حاليًا بغرض الضغط على الجانبين الأمريكي والأوروبي بهدف تحقيق مصالحها في شرق المتوسط، وتراهن أنقرة على أن خلط الأوراق في الفترة الحالية سيجبر عواصم القارة العجوز على العودة إلى طاولة المفاوضات فيما يتعلق بالتنقيب عن الغاز في منطقة شرق المتوسط، خصوصًا بعد أن أصبحت نيقوسيا جزءًا من تحالف إقليمي للتنقيب عن الغاز في المنطقة الغنية به.
ولكن على أي حال فإنه مع إصرار الرئيس التركي على التأكيد أن مطالب القبارصة الأتراك هي الاعتراف باستقلال دولتهم لا يبدو أن الأوروبيين يخضعون لأي ضغوطات، وهو ما ظهر في الرفض الأوروبي الواضح لزيارة أردوغان للمدينة الساحلية السياحية المهجورة وإعادة فتح بعض أجزائها. وقد أُجبر السكان المحليون على ترك المدينة والتوجه إلى الجزء ذي الصبغة اليونانية في قبرص بعد الغزو الذي أطلقته أنقرة في عام 1974 على الجزء الشمالي من الجزيرة.
وينتظر الوضع الحالي في الجزيرة إعادة إطلاق المفاوضات برعاية الأمم المتحدة والتي كانت قد توقفت في عام 2017. وتستهدف المفاوضات برعاية الأمم المتحدة إزالة الخط الأخضر الفاصل بين شطري الجزيرة وإعادة توحيدها. ولكن ما يظهر حتى الآن هو أن السماح لتركيا بقيادة الملف القبرصي سينتهي بسيطرة تركيا على جزيرة أوروبية؛ إذ تؤكد أنقرة على أنها لن تضيع العشرات من السنوات في التفاوض حول مسائل محسومة، وحسم المسائل هنا يكمن في أنه لن يتم إحراز أي تقدم في المفاوضات بوجود دولتين وشعبين.
حل الدولتين
في رد فعل على موقف الأتراك أكدت واشنطن أنها لا تقبل التحركات الأحادية لتركيا في قبرص لأنه يعد تراجعًا عن وعود أنقرة باستئناف المفاوضات على أساس حل الدولة الواحدة، فخلال زيارة الرئيس التركي للجزيرة في يوليو الماضي أكد في خطاب شديد اللهجة أنه لا يمكن إحراز أي تقدم في المفاوضات في وجود دولتين وشعبين، وهو ما يمثل انقلابًا ومقاربة تركية جديدة لما تم الاستقرار عليه في المسألة القبرصية حتى الآن.
ومما استرعى الانتباه في تلك الزيارة غياب زعيم حزب “الشعب الجمهوري” كمال كلشدار أوغلو؛ فتاريخيًا كان من المعروف أن المسألة القبرصية يتم التعاطي معها عن طريق التحالف بين حزب الشعب الجمهوري وحزب السلامة بقيادة نجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا في الفترة من 1996-1997.
ومع الوضع بالاعتبار أن جمهورية قبرص قد انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004 إلا أن الحكومة هناك لا تستطيع ممارسة سلطاتها إلا على الجزء الجنوبي من الجزيرة في حين يبقى الشطر الشمالي بعيدًا تمامًا عن الحكومة المركزية التي أعلنت رفضها بشدة لزيارة الرئيس التركي، معتبرة الزيارة عملًا استفزازيًا لا يمكن قبوله، وقدمت الحكومة احتجاجًا رسميًا إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بسبب زيارة أردوغان للمدينة الساحلية التي تم غلقها وإخلاؤها منذ عام 1974 بينما ما زالت تركيا تمتلك هناك حوالي 20 ألف جندي.
محركات داخلية
يتحرك أردوغان بعزيمة قوية في مسألة قبرص التركية لأنه يحظى بتأييد داخلي، وفي هذا الإطار يعلق متخصصون في الشأن التركي الداخلي على أنه على الرغم من الاستقطاب الحاد الذي يعيشه الداخل التركي حول عدد من الأمور والأزمات الداخلية والخارجية إلا أنه من الواضح أن تحرك الدولة التركية في المسألة القبرصية يحظى بتأييد في الأوساط التركية الشعبية. وهو ما يدعم أردوغان في خريطة السياسة الداخلية.
وقد كان من اللافت للنظر التقارب الواضح بين الرئيس التركي وأوغزوهان أصلترك وهو القيادي البارز في حزب السعادة، في ظل وجود تكهنات بأن “أوغزوهان” يرغب في الانضمام لتحالف الجمهور؛ أي أن أردوغان يسعى حاليًا إلى تجميع أوراقه الداخلية، ولا شك أن ورقة قبرص تربح على الصعيد الداخلي بشكل كبير. ذلك أنها الورقة التي تؤكد أن النظام التركي لم يتنازل للغرب عن أية حقوق، ويشهر حزب العدالة والتنمية هذه الورقة بين الحين والآخر ليلمح أنه بين الأحزاب التي تتبنى أجندة قوية وواضحة إزاء القبارصة الأتراك، الأمر الذي يمنحه شعبيه في المجتمعات القومية والمحافظة.
مقاربات تركية
على أي حال تصر تركيا أن هذا لم يكن موقفها من البداية وأنها حاولت توحيد الشطرين تحت لواء دولة واحدة إلا أن المفاوضات برعاية الأمم المتحدة باءت بالفشل حتى عام 2017. وكانت هناك ثلاث مقاربات لدى الجانب التركي: الأولى تعتمد على دعم القبارصة الأتراك بشكل مطلق وعدم النظر لأي شيء غير ذلك، والثانية تنظر إلى المسألة القبرصية من ناحية النزاع مع القبارصة اليونانيين، وترى أن في الإبقاء على الوضع الحالي تحقيق مكاسب لهم ونزولًا على رغبتهم، أما المقاربة الثالثة فتعتمد على التقرب من الأوروبيين في مساعٍ لتسوية الأزمة التي تسبب تردي العلاقة بين الأتراك والأوروبيين في تصاعدها، حتى أن الرئيس التركي يشهر حاليًا ورقة حل الدولتين للضغط على الجانب الأوروبي في مسألة الغاز. وإضافة إلى ذلك فإن زيارة أردوغان لـ” فاروشا” وإعادة افتتاح بعض أجزائها تؤكد أن تركيا ستغير كل قواعد المفاوضات في الفترة القادمة.
وكان أبرز المواقف الأوروبية هو موقف اليونان التي أدانت الإعلان التركي بشأن المنتجع القبرصي وعدّت ما حدث انتهاكًا صريحًا لقرارات مجلس الأمن ” رقم 550 لسنة 1984 وكذلك القرار رقم 789 لعام 1992″ وكذلك لقرارات الاتحاد الأوروبي التي حذرت الجانب التركي أكثر من مرة من اتخاذ أية خطوات أحادية الجانب والتي من شأنها زعزعة استقرار المنطقة وهو الذي دفع العاصمة القبرصية نيقوسيا للتقدم بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن.
وتنبغي الإشارة إلى أن الممارسات التركية دفعت القبارصة اليونانيين إلى التحالف مع دول أخرى على عدم وفاق مع تركيا خصوصًا فيما يتعلق بمسألة التنقيب عن الغاز الطبيعي ومنها مصر وإسرائيل.
وقد بدا ما كان خافيًا عندما ضربت تركيا عرض الحائط بكل المواقف الأوروبية والأمريكية وقامت بإنشاء قاعدة للطائرات المسيرة في شمال قبرص التركية؛ القاعدة التي اتخذت من مطار “غيجيتكالي” مركزًا لها جاءت لتكون بمثابة عين راصدة لكل التحركات في شرق المتوسط بهدف حماية عمليات التنقيب وتتبع حركة السفن المعادية، الأمر الذي شكل ضربة للتحالف اليوناني – الجنوب قبرصي. وقد أسست القاعدة الجوية في المطار الذي أنشئ في ذلك الشطر من الجزيرة في عام 1982 إلا أن أول طائرة تركية تهبط فيه كانت في 2019.
يبقى أن نشير إلى أن الرهان الحقيقي يعتمد على موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من الإعلان التركي الأخير. وكذا، سيشكل موقف مجلس الأمن الدولي تغطية مناسبة لموقف واشنطن وبروكسل؛ ففي مرحلة معينة من الضغط ربما يأخذ أردوغان خطوة بل خطوات إلى الوراء كما اعتدنا عليه، وقد بدا في خطابه الأخير من المدينة القبرصية وقد انتابته حالة من الضجر من تأخر فرض سيطرته على قبرص الشمالية. ويراهن أردوغان أنه يستطيع إشهار ورقة اللاجئين في وجه الأوروبيين كلما استدعى الأمر، ولذلك تبقى واشنطن العقبة الأكبر أمامه في المسألة القبرصية.
باحث أول بالمرصد المصري