أوروبا

مستشار ألمانيا الجديد بين القيادة الأوروبية وتحديات الداخل

بعد انتخابات اتسمت بالتعقيد، فاز فريدريش ميرز بلقب مستشار ألمانيا، حاملًا في طيات ولايته الجديدة طموحًا كبيرًا إلى إعادة بناء الدور القيادي لألمانيا أوروبيًا بعد تراجع ملحوظ في الفترة الأخيرة في عهد سلفه “أولاف شولتز”. ويأتي ذلك من خلال التشخيص الصارم للأزمات، ووضع خطط للإصلاح المؤسسي، ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية. فما هي فرص “ميرز” في أن يصبح المستشار الذي تحتاجه ألمانيا للعودة من جديد للصدارة الأوروبية؟

بعد فوز حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي “CDU” بزعامة “فريدريش ميرز” وشريكه حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي “CSU” في انتخابات فبراير الماضي، فشل الائتلاف في تأمين مقاعد كافية للحكم المباشر، وهو أمر كان متوقعًا إلى حد كبير؛ نظرًا إلى تنوع البيئة السياسية الألمانية. ولكن “ميرز” أعلن أنه سيشكل ائتلافًا مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي”SPD” من يسار الوسط؛ بهدف إبقاء حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتشدد، الذي حل في المركز الثاني، بعيدًا عن السلطة، ما فعّل “جدار الحماية” الذي صُمم لإطباق الحصار المحكم على الأحزاب اليمينية وإبعادها عن المشهد السياسي الألماني. ومع ذلك، لم يكن هذا الاندماج كافيًا لضمان فوز “ميرز” بلقب المستشار.

وعادة ما يكون التصويت على لقب المستشار مجرد إجراء شكلي لا يحتاج إلى وقت طويل، ولكن ما حدث مع “ميرز” كان مفاجئًا، فقد سبقت عملية التصويت هجمات عدة على الائتلاف من قبل حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتشدد، وكذلك من قبل إدارة ترامب التي انتقدت استبعاد اليمين من المشهد السياسي، فضلًا عن وجود حالة غضب واسعة من قبل بعض أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الرافضين للانضمام لحزب “ميرز” سياسيا، واستياء عدد من أعضاء ائتلاف “ميرز” الأساسي بسبب عدم حصولهم على حقب وزارية في الحكومة الجديدة. وهو ما أدى إلى فشل “ميرز” في الحصول على لقب المستشار في الجولة الأولى من التصويت التي عقدت بتاريخ 6 مايو 2025 داخل “البوندستاج” بواسطة الائتلاف البالغ 328 مقعدا، حيث حصل على 310 أصوات فقط، وهو عدد أقل من 316 صوتًا المطلوبة.

وهذا الأمر يعد سابقة تاريخية؛ إذ لم يخسر أي مرشح لمنصب المستشار تصويتًا في البرلمان منذ استعادة الديمقراطية في ألمانيا عام 1949. لكن “ميرز” في النهاية استطاع الفوز في الجولة الثانية التي عقدت في نفس اليوم بعدد 325 صوتًا، بفارق تسعة أصوات عن الأصوات المطلوبة. ولأن الاقتراع يتم بشكل سرّي، لم يتضح –وقد لا يُعرف- من الذي انشق عن معسكر “ميرز”، ولكن إذلال مستشار ألمانيا الجديد للحصول على اللقب يكشف بما لا يدع مجالًا للشك عن هشاشة ائتلافه الجديد، كما يؤكد أن الفترة القادمة ستشهد هجومًا واسعًا وعرقلة ملحوظة من قبل “البديل من أجل ألمانيا” الذي سرعان ما دعا إلى انتخابات جديدة عقب عدم منح “ميرز” اللقب في الجولة الأولى. وبشكل عام، هناك ثقة متراجعة في قدرة السلطة التنفيذية الجديدة على تنفيذ مهمتها المتمثلة في جلب الاستقرار إلى ألمانيا وإنشاء نموذج اقتصادي وسياسي يسمح بالعودة إلى المسار الألماني القوي.

من اللافت أن “ميرز” وقبل فوز حزبه بالانتخابات كان يدرك حجم التحديات والأزمات التي تواجه ألمانيا في عهد سلفه أولاف شولتز، والتي تركت ألمانيا في حالة من العزلة والجمود السياسي غير القادر على اتخاذ قرارات أوروبية مصيرية في ظل المشهد الجيوسياسي المتغير، سواء كانت هذه التحديات داخلية أو خارجية. وبالنظر إلى تحديات الداخل الألماني بالترتيب نجد أننا أمام:

يعد هذا الملف من القضايا الحساسة في الداخل الألماني، حيث يتزايد القلق العام إزاء الجرائم المرتبطة بالهجرة. وقد تعهد “ميرز” خلال حملته الانتخابية بتشديد القيود على الهجرة، لدرجة الدفع بمشروع قرار يدعو إلى تطبيق قوانين الهجرة بشكل أكثر صرامة مدعومًا من حزب البديل من أجل ألمانيا الذي جعل هذه القضية محور برنامجه الانتخابي، وهو ما لاقى ردود فعل عنيفة، ورُفض في النهاية بسبب تحديات قانونية بموجب قانون الاتحاد الأوروبي والقانون الألماني.

وبعد انتخابه، اتخذ “ميرز” إحدى أولى خطواته الرسمية، وهي خطوةٌ “أحادية الجانب” لرفض المهاجرين غير المسجلين، بمن فيهم طالبي اللجوء الذين لا يحملون وثائق دخول سارية والذين سبق لهم تقديم طلب لجوء في دولة أخرى من دول الاتحاد الأوروبي، هذا بجانب تعليق لم شمل الأسرة للمهاجرين لمدة عامين، وتوسيع قائمة البلدان الآمنة التي يمكن إرسال المهاجرين إليها لتشمل الجزائر والهند والمغرب وتونس، وإدخال قواعد لترحيل المهاجرين الذين يواجهون أحكاما بالسجن، وإلغاء المساعدة القانونية الإلزامية قبل الترحيل.

وقد أثارت هذه الخطوة استياءً ملحوظًا من بعض الدول الأعضاء، وفي مقدمتها بولندا وسويسرا، اللتان تريان أن هذا القانون ينتهك القانون الأوروبي، وتحديدًا المبدأ الأساسي لمنطقة “شنجن” الذي يضمن حرية تنقل الأشخاص عير الحدود الداخلية، كما تخشيان أن تضطرا إلى استعادة أعدادًا كبيرة من المهاجرين المرفوضين، بينما تصمم برلين على أن هذه الضوابط ستكون حافزا لاتخاذ إجراءات مماثلة على مستوى الاتحاد الأوروبي، فالعديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تخضع حاليًا لحكومات يمينية تُركز على الحد من الهجرة، كما يسعى الاتحاد الأوروبي ككل إلى تغيير توجهه في هذا الشأن، وقد يكون لألمانيا دورٌ حاسم في تحديد مسار حوكمة الهجرة في الاتحاد الأوروبي خلال السنوات المقبلة.

لقد عانى النموذج الاقتصادي الألماني تحت وطأة جبهات جيوسياسية متعددة، منها: إدارة ترامب المعادية التي لا تزال تهدد الاتحاد الأوروبي بالرسوم الجمركية العقابية، والتحول الاستراتيجي للصين، وتسليح روسيا لإمدادات الطاقة. وقد أدت أزمة الطاقة جراء الحرب الروسية الأوكرانية إلى عرقلة تعافي البلاد من جائحة كورونا، ما أدى إلى تفاقم التضخم، وانخفاض الأجور وارتفاع البطالة، ودفع البلاد إلى تطبيق سياسة التقشف المالي، ما أدى إلى عامين متتالين من الركود. وكانت مسألة “كبح الديون” من المسائل الحرجة التي أدت إلى سحب الثقة من الائتلاف السابق بقيادة “أولاف شولتز”، وهي النقطة التي لعب عليها “ميرز” خلال حملته الانتخابية، فقد شدد على أهمية الالتزام بكبح جماح الديون الألمانية، ودعا إلى الانضباط المالي، لكن هذا الموقف تغيَّر فجأةً مع بدء المحادثات الاستكشافية بين الائتلاف الحاكم الجديد. 

وبحلول منتصف مارس الماضي، وافق المجلسان التشريعيان في ألمانيا على خطة إنفاق استثنائية ضخمة رغم أنها أن تسمح باستثمارات تصل إلى تريليون دولار في الدفاع والبنية الأساسية المدعومة بالديون على مدى العقد المقبل، حيث تعدّل هذه الحزمة دستور البلاد لتخفيف القيود الصارمة على الديون، والتي حددت لفترة طويلة معايير الإنفاق الألماني. 

وبموجب خطة الإنفاق الجديدة، سيُعفى الإنفاق الدفاعي الذي يتجاوز نسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي من قيود نظام تقييد الديون المدرج في الدستور الألماني، أي سيتم الاقتراض “خارج السجلات الرسمية”، وسيمكن ذلك من الالتزام بإنفاق دفاعي بنسبة 3٪ أو حتى 3.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مما يساعد على استعادة دور ألمانيا القيادي الأوروبي، وربما يساعد ميرز على تجنب النزاعات داخل الحكومة وداخل الائتلاف حول الموارد.

كما سيتوسع إعفاء الإنفاق الدفاعي ليشمل تمويل الدفاع المدني، وأجهزة الاستخبارات، والدفاع السيبراني، والمساعدات المقدمة لأوكرانيا. وهذه الآلية المالية، التي يرى المعارضون أنها قيد مالي، تفرض حدًا أقصى للعجز الهيكلي في الميزانية بنسبة 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي، باستثناء الظروف الطارئة. وقد وصف المؤيدون هذه السياسة بأنها حجر أساس في التزام ألمانيا بالانضباط المالي.

بجانب ذلك، ووفق على إنشاء صندوق للبنية التحتية بقيمة 570 مليار دولار، ويُموّل هذا الصندوق بالاقتراض، ومن المقرر استثماره في البنية التحتية المتداعية في ألمانيا على مدى السنوات الـ 12 المقبلة، على أمل تعزيز اقتصاد البلاد الراكد. ومن اللافت أن الصندوق يرتبط بحزمة الدفاع، كون أن الدفاع يتطلب بطبيعة الحال بنية تحتية فعالة. كما اتفق ائتلاف “ميرز” على تخصيص ما يزيد قليلًا على 100 مليار دولار من صندوق استثمار البنية التحتية لمشاريع تتعلق بالمناخ، ويبدو أنها محاولة لإرضاء “حزب الخضر” بعد توجيهه انتقادات عدة  حول أولويات الإنفاق المالي.

كما أعلنت الحكومة عن تخفيض أسعار الكهرباء، الأعلى في أوروبا، من خلال خفض ضريبة الكهرباء، مع تقديم حوافز لبناء ما يصل إلى 20 جيجاوات من سعة محطات الطاقة الغازية بحلول عام 2030، مع اعتماد حزمة تشريعية تسمح باحتجاز الكربون وتخزينه، بما في ذلك محطات الطاقة التي تعمل بالغاز، هذا بجانب دراسة إلغاء “قانون التدفئة” الذي يهدف إلى التخلص التدريجي من التدفئة بالوقود الأحفوري، وإلغاء ضريبة تخزين الغاز التي فرضتها برلين في عام 2022 لتغطية تكاليف استبدال الغاز الروسي بعد أن خفضت موسكو الإمدادات.

ومع ذلك، فإن الخطة الاقتصادية ليست تفاؤلية بهذا القدر، فبالرغم من أنها ستعمل على خفض الضرائب وزيادة الحد الأدنى للأجور فإن جزءًا كبيرًا منها سيقتضي خفض الإنفاق الاجتماعي والخصخصة وتحرير الاقتصاد، ما قد يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الاقتصادي بين المواطنين وزيادة التوترات مع شريك الائتلاف من يسار الوسط، في ظل استمرار استغلال “ترامب” وحزب “البديل من أجل ألمانيا” الإخفاقات الاقتصادية. وإذا فشلت الحكومة في تنفيذ خطة اقتصادية شاملة تعالج الأزمات الحقيقية، فستواصل الأحزاب المتطرفة اكتساب التأييد، مما يهدد الاستقرار الديمقراطي.

أدى التحدي المحلي الذي يمثله حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف الصاعد إلى تعميق الانقسامات الأيديولوجية في ألمانيا، وامتدت تلك الانقسامات لتؤثر على العلاقات الألمانية عبر الأطلسي. فداخليًا، حقق الحزب الذي تأسس عام 2013 تقدمًا ملحوظًا في استطلاعات الرأي ما مكنه من الحصول على 20.8% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة ليحوز المركز الثاني، وارتفعت هذه النسبة إلى 24.3% في الشهور الثلاثة الأخيرة،  وسط توقعات بأن تصل تلك النسبة إلى 27.9% إذ ما عقدت انتخابات جديدة اليوم.

ولمواجهة هذا الصعود، حرص “ميرز” على تشكيل ائتلاف بسرعة مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي؛ لمنع ترجمة هذا الصعود إلى وصول حتمي للسلطة، هذا بجانب تصنيف وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية لحزب البديل من أجل ألمانيا بتاريخ 2 مايو 2025 على أنه “حزب متطرف”، والذي دعا إلى تشديد مراقبة أكبر حزب معارض في البلاد. وجاء ذلك في تقرير سري خلص إلى أن الحزب يعد منظمة “عنصرية” معادية للمهاجرين وخصوصًا المسلمين، بما لا يراعي كرامة الإنسان. وهذا التصنيف يسمح لأجهزة الأمن بمراقبة أي حزب سياسي، عبر تجنيد المخبرين واعتراض الاتصالات، وهو ما أدى إلى إحياء الدعوات لحظر الحزب. ودافعت وزارة الخارجية الألمانية عن التصنيف، مشيرة إلى تحقيق مستقل قائم على الأدلة يهدف إلى حماية المعايير الديمقراطية.

ولكن هذا القرار أدى إلى موجة غير مسبوقة من الانتقادات للديمقراطية الألمانية، فقد أدان وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو القرار، واصفًا إياه بالاستبداد المقنّع، وكذلك أيده في الرأي “ماتيو سالفيني”، نائب رئيس الوزراء الإيطالي وزعيم حزب الرابطة اليميني المتطرف، وشدد الطرفان على أهمية أن تتراجع ألمانيا عن هذا المسار. ومن جانيه، ندد حزب البديل من أجل ألمانيا بهذا التصنيف، ووصفه بأنه محاولة ذات دوافع سياسية لتشويه سمعته وتجريمه، معلنا في بيان أنه سيرفع دعوى قضائية عاجلة حول الأمر.

وأدت الانتقادات إلى سحب جهاز الاستخبارات للتصنيف بعد ستة أيام، ليقتصر الأمر على قيام هيئة حماية الدستور بمراقبة الحزب باعتباره “مشتبها به”، وهو تصنيف من الدرجة الأدنى يسمح بالمراقبة، ولكن تحت إشراف قضائي أكثر صرامة، ولكن كل هذا الجدل من شأنه أن يسفر عن نتائج سلبية تعزز قوة الحزب وتغذي روايته عن الاضطهاد.

أما التحديات الخارجية، فتشتبك الإدارة الألمانية الجديدة مع ملفات عدة تعتبر الريادة الأوروبية في صدارتها، يلي ذلك العلاقات عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة الأمريكية، والموقف الألماني من التوترات العالمية، بما في ذلك الحرب الروسية والأوكرانية وأزمات الشرق الأوسط وغيرها:

يضع “ميرز” السياسة الخارجية” على قائمة أولوياته، ويعد بأن تستعيد ألمانيا مجددًا صوتها في أوروبا بعد أشهر من الاضطرابات السياسية في عهد “شولتز” تركت برلين تكافح من أجل التصرف بشكل حاسم على مسرح الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أفقد ثقة الحلفاء الأوروبيين. ويمكن رؤية ذلك من خلال زيارة “ميرز” لباريس ووارسو، للاجتماع مع كبار قادة دول الاتحاد الأوروبي، إذ يريد “ميرز” إحياء التحالف غير الرسمي “مثلث فايمار”، الذي يجمع ألمانيا وفرنسا وبولندا، والذي يعتقد أنه محرك محتمل لتشكيل استراتيجية دفاعية أوروبية أكثر قوة، خاصة بعد عودة بولندا بقيادة مؤيدة لأوروبا بعد سنوات من حكم حزب القانون والعدالة اليميني القومي.

وأفضت الاجتماعات إلى الاتفاق على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والمناخية الراهنة، وتعزيز التعاون الاستراتيجي لبناء أوروبا أكثر سيادة وقدرة تنافسية. يشمل ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي وتطوير القاعدة الصناعية الأوروبية، ودعم أوكرانيا ضد العدوان الروسي، وتعزيز التنسيق الأمني عبر مجلس فرنسي-ألماني مشترك. وعلى المستوى الاقتصادي، أعلنت ألمانيا أنها ستعمل على تسريع أجندة التنافسية الأوروبية عبر تبسيط القوانين، وتعزيز الاستثمار في التقنيات الحيوية، وتطوير سوق مالية موحدة، والتأكيد على ضرورة تحقيق أمن الطاقة عبر سياسات مناخية متوازنة، وتبني نهج تجاري أوروبي يحمي المصالح الاستراتيجية.

وفي الشهر القادم، سيتعين على “ميرز” حضور قمة مجموعة السبع في كندا، وحلف شمال الأطلسي في لاهاي، ثم المجلس الأوروبي في بروكسل. وفي كل عاصمة مما سبق، يضع الجميع توقعات عالية من الإدارة الألمانية الجديدة، وتأكيد ما إذا كانت برلين قادرة على إعادة ضبط أوروبا من جديد.

خلال ولاية ترامب الأولى، تعرضت ألمانيا لانتقادات لاذعة من قبل واشنطن بسبب تقصيرها في إنفاق 2% من ناتجها الاقتصادي السنوي على الدفاع، ومع عودة “ترامب” للبيت الأبيض بقراراته غير المتوقعة، سواء على المستوى التجاري مع الاتحاد الأوروبي أو على مستوى الالتزام بحلف شمال الأطلسي، وبدء عودة العلاقات الأمريكية الروسية، بات “ميرز” يدرك الأهمية المحورية إما للشراكة مع الولايات المتحدة، أو اليقين بأن الإدارة الأمريكية لن تبالي بأوروبا، وعليه يجب تعزيز الدفاعات الأوروبية، وربما إيجاد بديل للناتو المعتمد على الضمانات الأمنية الأمريكية.

ولهذا دفع ائتلاف “ميرز” بتعديلات دستورية شاملة عبر البرلمان في مارس الماضي كما ذكرنا أعلاه؛ لتخفيف قيود الديون وتوفير ما يصل إلى تريليون دولار للدفاع والبنية التحتية، بجانب الحديث عن “الردع النووي” المحلي بمشاركة فرنسا وبريطانيا، وعدم الاعتماد على واشنطن في هذا الصدد. وهذا الأمر يعكس تغيرًا كبيرًا في موقف ألمانيا السابق الذي كان يعارض بشدة دعوات باريس لمزيد من “الاستقلال الاستراتيجي” في الاتحاد الأوروبي.  وتجاريًا،  دعا “ميرز” -في محاولة لمغازلة الإدارة الأمريكية- إلى إلغاء الرسوم الجمركية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، معتقدًا أن تصعيد النزاع الجمركي سيضر الطرفين، ودعت الحكومة الألمانية إلى إبرام اتفاقية تجارة حرة متوسطة الأجل مع الولايات المتحدة.

بجانب ذلك، أظهر “ميرز” حزماً واضحًا حيال التدخل الأمريكي في السياسة الألمانية الداخلية، في إشارة إلى الانتقادات التي توجهها إدارة “ترامب” بشأن حزب البديل من أجل ألمانيا. ويبدو أن نهج “ميرز” المتوقع تجاه الإدارة الأمريكية هو نهج حذر سيحاول من خلاله الجمع بين تمثيل المواقف الألمانية والأوروبية معًا، من أجل تهدئة التوترات وتحقيق المصالح المشتركة.

لم يترك ائتلاف “ميرز” أي مجال للغموض بشأن موقف برلين تجاه موسكو، حيث وصف روسيا بأنها “التهديد الأكثر مباشرة وخطورة على السلام الأوروبي”، محذرًا من أن “أمن ألمانيا يتعرض لتهديد أعظم من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب البارد”، ولهذا فإن الدعم المستمر لأوكرانيا سيكون التزامًا ألمانيًا لا مفر منه، فهي ثاني أكبر مُقدّم للمساعدات العسكرية والمالية لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة.

وقد أكد “ميرز” بالفعل على ذلك، سواء على مستوى الاتفاقية الدفاعية التي وافق عليها المشرعون الألمان والتي ستمهد الطريق لتقديم دعم إضافي بقيمة 3.3 مليارات دولار لأوكرانيا، ليصل إجمالي المساعدات لعام 2025 إلى 7.3 مليارات دولار، أو بالتعهد بتزويد كييف بصواريخ “كروز” بعيدة المدى من طراز “توروس”، وأخيرًا بزيارة خارجية لكييف بمشاركة زعماء المملكة المتحدة وفرنسا وبولندا؛ في محاولة للضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتن للموافقة على وقف إطلاق النار لمدة 30 يومًا وفتح محادثات سلام ذات معنى.

ولكن مع هذا الدعم، سيبقى “ميرز” حذرًا بشأن أي تدخل أعمق في الصراع حال استمراره، وسيظل معارضًا لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. أما في حال نجاح المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة بين روسيا وأوكرانيا وتم التوصل بموجبها إلى اتفاق سلام، لن يتبقى أمام ألمانيا -وباقي الدول الأوروبية- في هذا الملف سوى تأمين هذا السلام.

يدرك “ميرز” مسؤولية ألمانيا الخاصة تجاه إسرائيل وأمنها، وبرغم كل الانتقادات الموجهة للاعتداءات الإسرائيلية في غزة، فإن السياسيين الألمان وأولهم “ميرز” يؤكدون مرارًا وتكرارًا على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، متجاهلين سياسة التجويع والقتل التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية بحق سكان القطاع، ليقتصر الأمر على التنبيه بأهمية أن تفي إسرائيل بالتزاماتها بموجب القانون الدولي.

وكانت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي قد أصدرت في نوفمبر 2024 مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت من بين آخرين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب مزعومة في غزة، وبما أن ألمانيا من الأعضاء المؤسسين للمحكمة، فسيتعين عليها اعتقال “نتنياهو” إذا زارها. ومع ذلك، صرح “ميرز”، بعد محادثة هاتفية مع “نتنياهو” في اليوم التالي بعد فوزه بالانتخابات، بأنه سيجد السبل والوسائل لضمان أن يتمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي من زيارة ألمانيا ومغادرتها مرة أخرى دون أن يُعتقل، ولكن “ميرز” لم يتطرق إلى هذا الموضوع منذ انتخابه مستشارًا.

ختامًا، يمثل “ميرز” فرصةً واعدة لقيادة ألمانية أكثر حزمًا على مستوى القارة الأوروبية، لكن نجاحه يعتمد على تجاوز انقسامات الداخل التي سلطت الضوء على بداية ضعف سياسي محتمل، وإلا سيضطر إلى التركيز بشكل أكبر على القضايا الداخلية للوفاء بوعوده الانتخابية، وبالتالي سوف يكون لديه وقت أقل للمعضلة الأهم وهي تحديد النبرة الألمانية في السياسة الخارجية والأوروبية.

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى