أوروباتركيا

توقعات منخفضة: التقارب التركي-الأوروبي… الدوافع والتحديات

التاريخ المعاصر لتركيا هو تاريخ من الارتباط العميق مع أوروبا والغرب؛ فلطالما كان التوجه الغربي للبلاد مبدأً توجيهيًا لأنقرة، وهو ما ظهر في مشاركتها بالحرب الكورية 1950-1953، وانضمامها إلى مجلس أوروبا عام 1950، ثم حلف شمال الأطلسي عام 1952، فاتفاقية الشراكة مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1963، والاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي عام 1995؛ ومن إلغاء عقوبة الإعدام في أوائل العقد الأول من القرن الحالي إلى الاتفاق على فتح مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004، والانخراط بها عام 2005 بالتزامن مع تنفيذ برنامج إصلاحي سياسي واقتصادي وثقافي وحقوقي يتماشى مع القواعد والمعايير الأوروبية في العديد من المجالات، وبدعم مالي وتقني من الاتحاد الأوروبي.

لكن بدأت الخلافات بين حلفاء الناتو عندما انضمت قبرص إلى الاتحاد الأوروبي في مايو 2004 الأمر الذي رفضته أنقرة، ومن هنا ظهرت بوادر تدهور العلاقات، وفرضت بروكسل قيودًا على عملية انضمام تركيا في ديسمبر 2006، تلتها قبرص وفرنسا. 

ومن جانبها، أخذت أنقرة تتباعد تدريجيًا عن المنظومة القيمية السياسية والاجتماعية والثقافية الأوروبية التي حرصت قبلًا على اتباع خطاها أملًا في الفوز بعضوية الاتحاد، بعدما انخرطت حكومة العدالة والتنمية في عملية لتعزيز قبضتها على مراكز القوة في البلاد، وتفكيك بنية سيادة القانون، وخلق بيئة مواتية للفساد، واعترى النظام الديمقراطي الوهن واعتمد مفهومًا ضيقًا للديمقراطية يحصرها في شرعية صناديق الاقتراع مبتعدًا عن الضوابط والتوازنات التقليدية التي تعتمدها الديمقراطيات الغربية. 

وحتى هذا النموذج ضُرب به عرض الحائط بعد تجاهل نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة وإقالة رؤساء البلديات الأكراد المنتخبين واستبدالهم أشخاص موالين لأردوغان بهم، فضلًا عن انتهاك التزاماتها بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وكذلك الاتجاه خارجيًا نحو تطوير علاقات جيدة مع خصمي الغرب الرئيسين روسيا والصين.

ذروة الخلافات

شكّل عاما 2019 و2020 نقطة تحول فاصلة في علاقات أنقرة مع شركائها الأوروبيين التقليديين، على إثر سلسلة من الممارسات غير المشروعة والمزعزعة للاستقرار على المسرح الدولي، والتصريحات العدائية التي صدرت عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومن ذلك الاعتداء على المصالح القبرصية واليونانية في مياه شرق المتوسط، ونشر القوات البحرية لدعم أنشطة البحث في المياه التنازع عليها ما أسفر عن وقوع حادث مع فرقاطة يونانية في أغسطس 2020 كاد يتحول إلى حرب لولا تدخل ألمانيا. 

هذا إلى جانب التحرش بالسفن العسكرية الأوروبية ضمن العملية “إيريني” ومهمات حلف الناتو من ضمنها الاشتباك مع سفينة فرنسية في يونيو 2020. والتدخل في النزاع الليبي ومد حكومة الوفاق بالأسلحة بالمخالفة لقرار مجلس الأمن بحظر الأسلحة عن ليبيا ولالتزامات أنقرة بوقف تسليم الأسلحة لجميع أطراف النزاع الليبي خلال مؤتمر برلين في يناير 2020. 

فضلًا عن الانخراط في الصراعين العراقي والسوري، والصراع في ناجورنو قره باغ، والدعوة إلى تقسيم قبرص بالترويج لحل الدولتين، والحصول على نظام الدفاع الجوي الروسي “إس-400” ومنح موسكو حقوق التحليق للقوات الجوية دون مراعاة مصالح حلفاء الناتو، ومواصلة استخدام ورقة اللاجئين في الخلافات مع الاتحاد الأوروبي وتكرار التهديدات بفتح الحدود الأوروبية أمام اللاجئين. وكانت الحادثة الأبرز خلال فبراير ومارس من العام المنصرم مع دخول حوالي 5800 لاجئ إلى الحدود اليونانية في هجوم شبه عسكري شنته الداخلية التركية على الحدود البرية مع اليونان، ما دفع الأخيرة للشروع في بناء جدار حدودي فاصل. 

علاوة على استمرار حبس السياسي الكردي صلاح الدين دميرطاش ورجل الأعمال المحسن عثمان كافالا بالمخالفة لحكم محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بإطلاق سراحهم. والتخلي عن نهج الحوار مع الجيران الأوروبيين، وبدلًا من ذلك لجأ أروغان لشن هجوم لفظي على السياسيين الهولنديين والألمان والفرنسيين، كان أبرزه وصفه للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالمجنون والمحتاج للعلاج العقلي. وكذلك، تأجيج الوضع الداخلي في البلدان الأوروبية عبر منظمات وجمعيات موالية لأنقرة. وانتهى العام بقرار المجلس الأوروبي خلال انعقاده يومي 10 و11 ديسمبر فرض عقوبات على الأشخاص والشركات المرتبطة بأنشطة التنقيب غير المشروعة في شرق المتوسط.

دوافع التقارب التركي-الأوروبي

في كل الملفات والقضايا العالقة كان كلا الطرفين يحرص على ألا يبلغ التصعيد الدرجة التي يصعب معها العودة للحوار والتهدئة، نظرًا لحجم المصالح التي تربطهما، ودائمًا ما رأت ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا أن الحوار هو الطريق الأمثل لحل الخلافات بعكس اليونان وقبرص وفرنسا التي طالبت أكثر من مرة بفرض عقوبات على أنقرة. لكن كان للمعطيات التي تشهدها الساحة العالمية مؤخرًا قولها في تسريع التقارب، ويُمكن استعراض دوافع الطرفين على النحو التالي:

• تغير الإدارة الأمريكية: بعث انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة في نوفمبر 2020 برسالة مقلقة إلى أنقرة مفادها أن حقبة العلاقة الشخصية القوية بين الرئيس التركي ونظيره الأمريكي التي أنقذتها من عقوبات محتملة قد انتهت. ومن المتوقع أن يتراجع إضفاء الطابع الشخصي على صنع السياسة الأمريكية، وأن يكون البيت الأبيض والكونجرس ووزارة الخارجية والدفاع أكثر تماسكًا، ما يعني أن ترتيبات اللحظة الأخيرة ستكون ممارسة نادرة. وفي المقابل تحدث مسؤولو إدارة بايدن عن الحاجة إلى استعادة الشراكة عبر الأطلسي بشأن التحديات الاستراتيجية الرئيسية، بما في ذلك تركيا. 

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت القوة الرئيسة وراء اندماج تركيا في المؤسسات الغربية، وشجعت البلاد في عضوية الاتحاد الأوروبي، إلا أن سياسة ترامب المناهضة للترتيبات الجماعية والمؤسسات المتعددة الأطراف، أدت إلى انخفاض كفاءة السياسة الأوروبية تجاه أنقرة، وخلقت حالة من الفراغ على الساحة الإقليمية استغلتها الأخيرة بتعميق الانخراط في سوريا وليبيا وشرق المتوسط ومؤخرًا ناجورنو قره باغ، وانتهي ذلك إلى تصدع التحالف الأوروبي-التركي وتباين وجهات النظر بشأن القضايا الدولية التي تهم أوروبا وعلى رأسها “المناخ”. في حين ستنعكس الوحدة الأوروبية الأمريكية على تعزيز المؤسسات المتعددة الأطراف وعلى رأسها الناتو بما يحفز تركيا على تسوية القضايا الخلافية مع دوله، كما أن عودة بايدن للاتفاقيات الدولية كاتفاقية باريس للمناخ قد تدفع تركيا للتصديق عليها.

علاوة على ذلك، ستتعزز يد الاتحاد الأوروبي عندما يتعلق الأمر بالتوترات في شرق البحر المتوسط؛ فمن المرجح أن تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا قوية على تركيا فيما يتعلق بالعلاقات مع قبرص واليونان، فأثينا تزداد أهمية بالنسبة لواشنطن، ويرجع ذلك إلى اعتبار البلاد بمثابة دعم للقواعد الأمريكية في حالة حدوث انجراف أكبر في العلاقات مع تركيا، ولدى بايدن مصلحة طويلة الأمد في قضية قبرص، ومحاولات تركيا لتغيير الوضع الراهن هناك غير مرحب بها. أخيرًا، من الممكن أن يشجع اهتمام واشنطن بقضيتي الديمقراطية وحقوق الإنسان، الاتحاد الأوروبي على تبني عقوبات ضد انتهاكات أنقرة لحقوق الإنسان بموجب نظام العقوبات الذي أقره في 7 ديسمبر الماضي.  

• قضية اللاجئين: الموقع الجغرافي لتركيا جعل منها حائط الصد البري الرئيس أمام تدفق ملايين اللاجئين من دول الاضطرابات والنزاعات في الشرق الأوسط إلى أوروبا، وهي قضية جوهرية في العلاقات بين الجانبين، ومرارًا سعت أنقرة التي تستضيف ما يزيد على 3.5 مليون لاجئ توظيفها لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ولطالما استخدمتها كورقة مساومة لابتزاز أوروبا في القضايا المشتركة، وحصلت من خلال “اتفاقية الهجرة” الموقعة في 10 مارس 2016 على 3 مليارات يورو من أصل 6 مليارات يورو.

لكن تركيا ترغب في إعادة تقييم الاتفاقية لتسريع عملية تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي لتشمل السلع الزراعية التقليدية والخدمات، وإعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة شنغن، إذ لا يزال الخلاف قائمًا بشأن ضرورة تعديل قانون مكافحة الإرهاب التركي ليتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي (كشرط ضمن 72 شرطًا آخرين)، إلى جانب زيادة المخصصات المالية لأنقرة بحجة استضافتها المزيد من اللاجئين. ويبدو أن الاتحاد مستعد لدفع المزيد مقابل إبعاد شبح اللاجئين الذي كان سببًا رئيسًا في تصاعد حركات اليمين الشعبوي بشكل غير مسبوق في أوروبا.

• حجم الشراكة الاقتصادية والتجارية: تعاني أنقرة من أزمة اقتصادية غير مسبوقة عكستها كافة مؤشرات الاقتصاد من خسارة الليرة لخمس قيمتها إلى ارتفاع البطالة والتضخم وعجز الموازنة والفقر. وبالمقابل يحل الاتحاد الأوروبي في المركز الخامس كأكبر شريك تجاري لأنقرة، وتحل تركيا في المركز السادس كأكبر شريك لصادرات الاتحاد الأوروبي من السلع (3%) وواردات الاتحاد من السلع (4%)، واستحوذت دول الكتلة الـ 27 على 67.2% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا بين عامي 2002 و2018. 

وبالنظر إلى أكبر اقتصادين في الكتلة، نجد أن ألمانيا أكبر مستورد للبضائع من تركيا وأكبر مصدر لها إذ بلغ حجم التجارة بينهما 38 مليار دولار بالرغم من جائحة كورونا، وتعد تركيا سوقًا للسلاح الألماني، إذ تعاقدت برلين بالفعل على التعاون مع تركيا في بناء ست غواصات من فئة 214، وتسعى الأخيرة للحصول على محركات للدبابة القتالية ألتاي من ألمانيا. 

أما بخصوص فرنسا فتأتي كثالث أكبر شريك تجاري لأنقرة في الاتحاد الأوروبي، وسابع أكبر مستورد من تركيا بحصة سوقية نسبتها 4.2%، وتشكل الشركات الفرنسية العاملة في تركيا نقطة استناد استراتيجية في الاقتصاد، ومنها مجموعة “رينو” للسيارات، وشركات “رون بولينك” و”سان جوبان” و”سانوفي أفنتيس” و”توتال” و”لافارج” و”سوديكسو” و”دانون” و”كارفور”، وشركات مطارات باريس. 

ويتبين مما سبق أنه إذا سقطت تركيا في حالة من اليأس الاقتصادي، فسوف تعاني أوروبا أيضًا، إذ سيخسر الاتحاد شريكًا تجاريًا مهمًا، وهو ما يفسر الحرص الأوروبي على العلاقات مع أنقرة. ويوضح الشكل البياني التالي حجم الواردات والصادرات والميزان التجاري بين الجانبين خلال 10 سنوات (20009-209).

• استباق قمتي الناتو وبروكسيل: من المتوقع أن يناقش الرئيس الأمريكي جو بايدن وزعماء الاتحاد الأوروبي في قمة الناتو التي ستعقد في 17 فبراير ببروكسل قرارات مشتركة بشأن تركيا، كما قررت قمة بروكسيل في ديسمبر الماضي تأجيل المناقشات بشأن عقوبات محتملة ضد تركيا بسبب “أنشطة التنقيب غير المصرح بها في شرق البحر المتوسط” إلى قمة مارس التي ستشهد تقديم تقريرًا عن العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية بين الكتلة وتركيا، وهو ما ترغب أنقرة في استباقه بإظهار حسن النية، خاصة وأنها لم تتجاوز بعد ضربة العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة عليها جراء شرائها نظام الدفاع الصاروخي الروسي “إس-400” وأنشطتها المزعزعة للاستقرار في شرق المتوسط وما يسببانه من عبئ إضافي على الاقتصاد.

• كسر العزلة الخارجية والداخلية: فقدت أنقرة حلفاءها الدوليين والإقليميين جراء مغامرات قيادتها غير المحسوبة، بينما لم تصل علاقاتها مع موسكو إلى الحد الذي يُمكن الاعتماد عليه كليةً في ظل التنافس وتباينات المصالح في مناطق متعددة أبرزها سوريا وليبيا والقوقاز، لذلك رغبت تركيا في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها على الساحة الدولية. وكان للعزلة الخارجية انعكاساتها على الداخل الذي اتهم أردوغان بالعصف بمصالح البلاد وتقويضها، وتراجعت شعبية الائتلاف الحاكم لما دون 40% لصالح أحزاب المعارضة وفقًا لاستطلاعات الرأي التي أجريت نهاية العام الماضي، بما يشكله ذلك من خطورة على المستقبل السياسي لحزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان في انتخابات 2023 التي بدأ الاستعداد لها مبكرًا.    

وأمام تلك المتغيرات بدأ أردوغان في تخفيف حدة لهجته تجاه أوروبا، معتبرًا أن العام 2021 يُمكن أن يكون ناجحًا في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، واستدعى الارتباط التركي بأوروبا والمصير الواحد في قوله إن تركيا ترى مستقبلها في الأسرة الأوروبية. وتحدث المسؤولون الأتراك والأوروبيون عن فتح “صفحة جديدة” في العلاقات الثنائية. وفي هذا السياق، اتخذ الجانبان خطوات أولى نحو إعادة بناء الثقة المفقودة شملت:

  • الانخراط في نشاط دبلوماسي مكثف غلب عليه النبرة التصالحية، إذ أجرى وزير الخارجية الألماني هايكو ماس زيارة إلى أنقرة لاستشراف مدى جدية أنقرة في تحسين العلاقات، ووصف خلالها استضافة تركيا لملايين اللاجئين السوريين بأنها نجاح ومجهود لم يلق تقديرًا مناسبًا من قبل أوروبا. ومن جانبه، قام وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو بجولة أوروبية شملت إسبانيا والبرتغال وبلجيكا. وخلال اللقاءات، وصف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز تركيا بأنها شريك استراتيجي للاتحاد الأوروبي وحليف في الناتو، كاشفًا إدارته ستعقد اجتماعًا حكوميًا مع تركيا هذا العام. فيما رأى متحدث المفوضية الأوروبية بيتر ستانو أن الخطوات البناءة وخفض التوتر من مصلحة تركيا والاتحاد الأوروبي، متمنيًا تأسيس وضع يقوم على الربح المتبادل.
  • أجرى تشاويش أوغلو اتصالًا هاتفيًا بنظيره الفرنسي جان إيف لودريان، موضحًا أن أنقرة وباريس ستعملان على خارطة طريق لتطبيع العلاقات في 4 مجالات رئيسية هي: المشاورات الثنائية، ومكافحة الإرهاب، والقضايا الإقليمية بما في ذلك سوريا وليبيا، والتعاون في مجال التعليم
  • نشر تشاويش أوغلو مقالين أحدهما في صحيفة “دياريو دي نوتيسياس” البرتغالية تحت عنوان “الشعب التركي يرى مستقبله في أوروبا”، والأخرى في صحيفة “لا رازون” الإسبانية، أكد فيهما أن تركيا ستبقى جزءًا لا يتجزأ من أوروبا كما كان حالها تاريخيًا، وأن أنقرة تؤيد مواصلة نهج الدبلوماسية والحوار وتطوير أجندة إيجابية في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي.
  • بعث أردوغان برسالة لنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون إثر إصابته بفيروس كورونا متمنيًا له فيها الشفاء، وأرسل له رسالة في نهاية ديسمبر الماضي متمنيًا له سنة جديدة سعيدة. وبالمقابل، بعث ماكرون برسالة بخط اليد إلى أردوغان في 10 يناير، أعرب فيها عن نيته تحسين العلاقات بين البلدين وأطيب تمنياته للشعب والرئيس التركي، استهلها بجملة “ديجيرلي طيب” وتعني بالتركية “عزيزي طيب”.
  • سحبت أنقرة سفينة المسح السيزمي “أوريش ريس” وسفينة الحفر “بارباروس” من مياه شرق المتوسط، والانخراط في الجولة 61 من المحادثات الاستكشافية التركية-اليونانية في 25 يناير، وهو الاجتماع الأول منذ انهيار المفاوضات بين البلدين في 2016 بعد 60 جولة غير مثمرة استمرت 14 عامًا. لم يتم إدراج مسألة المناطق الرمادية في المحادثات.  
  • عقد أردوغان اجتماعًا مع سفراء الاتحاد الأوروبي، وتباحث مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عبر دائرة إلكترونية مغلقة، داعيًا دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل لزيارة أنقرة.

تحديات التقارب بين الجانبين

يدرك القادة الأوروبيون النهج المزدوج لسياسة أردوغان الخارجية؛ بين التهديد والوعيد ورسائل التهدئة والود عندما تتطلب المرحلة ذلك، لذلك لا يزال القادة الأوروبيون ينتظرون أن تتحول دعوات “التهدئة” و”المصالحة” التركية إلى خطوات واضحة بممارسات ملموسة وعملية. وقد حدد الاتحاد على لسان مقرر البرلمان الأوروبي ناتشو سانشيز بعض الخطوات التي يجب أن تتحرك فيها أنقرة كبادرة لإظهار الجدية وحسن النية ومنها تطبيق قرارات المحكمة الأوروبية بالإفراج عن دميرطاش وكافالا، وإعادة رؤساء البلديات الكرية إلى مناصبهم، وعدم التدخل في قرارات القضاء واحترام استقلاليته، والكف عن اعتبار كل من ينتقد إرهابيًا، وعدم حبس الطلاب الذين يحتجون على تعيين رئيس الجامعة، وإتاحة القدرة للمنظمات غير الحكومية على العمل بشكل صحيح، والكف عن استخدام ورقة اللاجئين. 

لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فمع صعوبة استجابة أنقرة لتلك المطالب كون بعضها تنظر إليه تنازلًا عن سيادتها، يصعب تحقيق اختراقات كبرى وصفقات مستدامة في العلاقات التركية-الأوروبية، ويرجع ذلك إلى عدة تحديات نذكر منها:

• حالة عدم اليقين: تميل القيادة التركية إلى تعديل سرديات سياستها الخارجية بشكل متكرر لتلائم متطلبات السياسة المحلية، بما يخلق حالة من عدم اليقين في السياسة الخارجية لشركائها الأوروبيين، لأن تركيا تلعب دور الصديق والعدو في الوقت ذاته، ولعل أبرز عوامل اللا يقين تتعلق بتفاعلات تركيا مع روسيا في أذربيجان وليبيا وسوريا، وسلوك أنقرة في حالات التوترات المحتملة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي كدول البلطيق أو أوكرانيا أو البحر الأسود، خاصة في الظروف التي يُمكن فيها لروسيا فرض قيود سياسية واقتصادية أو إلحاق أضرار عسكرية بتركيا، لذلك بات لا يُنظر إلى تطور الصناعات العسكرية التركية على أنه إضافة للأصول التي يمتلكها حلف الناتو. وهو ما عبر عنه سفير الاتحاد الأوروبي السابق في أنقرة مارك بيريني، بقوله إن سياسات أنقرة غالبًا ما تتوافق بشكل مباشر أو غير مباشر مع المصالح الروسية، وأن تركيا لم تشترك في “هيكل دفاعي معين” في الناتو منذ سنوات، بل أعاقت بنية الدفاع عن أوروبا.

• قضية حقوق الإنسان: ستشكل قضيتا الديمقراطية وحقوق الإنسان عاملين رئيسين في تحديد مستوى العلاقات بين الجانبين، وعلى الرغم من انضمامها لإعلان القاهرة والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، إلا أنها تضرب بهم عرض الحائط وتتجاهل قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالإفراج عن كل من عثمان كافالا وصلاح الدين دميرطاش. وقد عد رئيس البرلمان الأوروبي سيرجي لاغودينسكي أن الإفراج عن سجناء الرأي سيوفر بداية جيدة لجهود تطبيع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي التي دعت إليها شخصيات تركية بارزة. ومع ذلك، يبدو أن أنقرة مصرة على تجاهل تلك الدعوات بقرار محكمة الاستئناف إلغاء حكم براءة كافالا.

• عدم استيفاء شروط الاندماج: سيتعين على الاتحاد الأوروبي تقييم ما إذا كان الاندماج الإضافي مع تركيا من خلال الاتحاد الجمركي أمرًا منطقيًا في حالة عدم توافر أي من شروط الاندماج الأساسية المتمثلة في تكافؤ الفرص الاقتصادية، واحترام الحريات الأساسية، وضمان استقلالية القضاء. إلى جانب أن البلاد لديها بدائل قليلة من حيث التجارة أو التمويل قصير الأجل أو الاستثمار الأجنبي المباشر أو التكنولوجيا. كما أن تسيس القضاء يثير مخاوف المستثمرين الأوروبيين الذين يرغبون في الاستثمار بتركيا.

• مسألة الانضمام للاتحاد الأوروبي: تثار بين الحين والآخر قضية إعادة إحياء مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وغالبًا ما يتم الإشارة إليها خلال المحادثات والاجتماعات بين الجانبين مثلما الحال في بيان 18 مارس 2016 الذي صاغه أردوغان بالتعاون مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ببروكسل، وكرره في مكالمته الأخيرة مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في 9 يناير الجاري. لكن يبدو أن هذا لا يتعدى مستوى البيانات الروتينية دون نية حقيقية للتطبيق على أرض الواقع، وكل ما يهم تركيا في الحقيقة هو رفع مستوى الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرات لا أكثر. 

وعلى جانب آخر لا تستوفي أنقرة معايير العضوية التي قررها المجلس الأوروبي في كوبنهاجن عام 1993 وتشمل استقرار المؤسسات التي تضمن الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان واحترام الأقليات وحمايتها، والأخذ بنظام اقتصاد السوق الفعال، وهو ما أقره المتحدث باسم أردوغان، إبراهيم كالين، في أكتوبر 2012، حيث دافع في كلمة بمنتدى اسطنبول عن إطار جيوسياسي جديد ورفض النموذج الأوروبي للديمقراطية العلمانية والسياسة والتعددية.

ختامًا، تخلق الخطوات التركية والأوروبية نحو التهدئة جوًا أكثر إيجابية يفتح الطريق للتقارب وبناء الجسور، لكن ما زال أمام أنقرة الكثير لاستعادة ثقة الاتحاد الأوروبي لإثبات جديتها والنزول بتعهداتها إلى أرض الواقع، وبالمقابل ستحتاج الكتلة بعض الوقت للتأكد من صدق نوايا أنقرة وأنها مدفوعة بإرادة سياسية حقيقية لغلق صفحة الماضي وليست مجرد مناورة تكتيكية في مواجهة إدارة بايدن والعقوبات المحتملة. وفي النهاية، سيتعين على تركيا والاتحاد الأوروبي إقامة شراكة عمل يتعاونان بموجبها في بعض القضايا ويتنافسان في قضايا أخرى، وهذا سيكون الخيار الأفضل في الوقت الحالي.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى