أفريقيا

سياق ودلالات زيارة الرئيس “السيسي” إلى جوبا

وصل الرئيس “عبد الفتاح السيسي” صباح اليوم إلى جوبا، عاصمة جنوب السودان، في أول زيارة رسمية له، واستقبله “سلفا كير مَيارديت ” رئيس جنوب السودان في مطار جوبا الدولي، وعَقدا مُباحثات ثنائية بالقصر الجمهوري، أعَقبتها جلسة مُباحثات موسعة بحضور وفدى البلدين، لبحث سُبل تعزيز العلاقات الثنائية وتحديدًا في المجالات الاقتصادية والتنموية، ومُناقشة التطورات الإقليمية ذات الاهتمام المُشترك بين البلدين.     

 وقد أعرب الرئيس “سلفا كير” عن تقدير بلاده لعلاقات التعاون الوثيقة مع مصر، والتي تأتي انعكاسًا للإرث البشري والحضاري المُتصل بين البلدين لعقود طويلة، والعلاقة الخاصة التي جمعت مصر بالزعيم الراحل “جون جارانچ”، ومشيدًا بالجهود المصرية المُخلصة والساعية نحو المساهمة في تحقيق السلام والاستقرار في جنوب السودان وتقديم كل سُبل الدعم له وتوفير المساعدات الإنسانية.   

أجندة ومُباحثات الزيارة           

في ظل حرص مصر على نقل الخبرات المصرية وتوفير الدعم الفني وبرامج بناء القدرات للكوادر في جنوب السودان بمختلف القطاعات، وكذلك دفع التعاون الثنائي وتعزيز الدعم المصري المُوجه إلى جهود التنمية في جنوب السودان خاصةً مع وجود آفاق واسعة لتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين وكذلك التعاون في مجالات الزراعة والري والبنية التحتية والطاقة.

وعليه، تناولت المباحثات الثنائية؛ سُبل تعزيز التعاون المُشترك بين البلدين، ومُستجدات اتفاق السلام المُنشط بين أطراف النزاع في جنوب السودان، والأوضاع في منطقة حوض النيل، وتطورات مُفاوضات سدّ النهضة، ويمكن توضيح أهم ملفات أجندة الزيارة على النحو التالي:      

  1. آفاق التعاون المُشترك: شهدت المباحثات مُناقشة أطر وآفاق التعاون المشترك بين البلدين، حيث تم الإعراب عن الارتياح لمستوى التعاون والتنسيق القائم بين الدولتين، مع التأكيد على استمرار الدعم لصالح البلدين، والاستغلال الأمثل لجميع الفرص المتاحة، وتعزيز الزيارات المُتبادلة بين كبار المسؤولين بالدولتين، وسُبل تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين على مختلف المستويات، وعلى رأسها التنسيق السياسي والعسكري والأمني خلال هذه المرحلة المهمة التي تمر بها المنطقة، إلى جانب بحث المجالات الاقتصادية والتجارية، والسعي للارتقاء بمعدلات التبادل التجاري بين البلدين، وتشجيع الاستثمارات المصرية في جنوب السودان، بما يحقق المنفعة المشتركة للبلدين.

وعلاوةً على ذلك الاتفاق على تكثيف التعاون في مجال نقل الخبرات المصرية وتوفير الدعم الفني وبناء قدرات الكوادر الوطنية في جنوب السودان من خلال مُواصلة البرامج التدريبية التي تقدمها الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في مختلف القطاعات كالتعليم والصحة والزراعة والري وغيرها من المجالات المدنية والعسكرية المختلفة، وتعزيز التعاون القائم بين البلدين في مجال الموارد المائية والري والجهود المُشتركة لتعظيم الاستفادة من موارد نهر النيل، والتأكيد على رؤية مصر المستندة إلى أن نهر النيل يجب أن يكون مصدراً للتعاون والتنمية كشريان حياة لجميع شعوب دول حوض النيل.  

  1. تطور الوضع في جنوب السودان: عرض الرئيس “سلفا كير” تطورات تنفيذ اتفاق السلام بالبلاد، مثمنًا في هذا السياق التحركات المصرية في مختلف المحافل الدولية والإقليمية لشرح طبيعة التحديات التي تواجه جنوب السودان، وتأكيد أهمية دعم الاستقرار والمصالحة الوطنية في البلاد وحث المجتمع الدولي على الوفاء بتعهداته والتزاماته تجاه جنوب السودان، وأكد الرئيس “السيسي” دعم مصر الكامل وغير المحدود لجهود حكومة جنوب السودان لتحقيق السلام والاستقرار في البلاد كامتداد للأمن القومي المصري، وأهمية البناء على قوة الدفع الحالية على الساحة السياسية في جنوب السودان وتوافر الإرادة اللازمة من قِبل كافة الأطراف بهدف الاستمرار في تنفيذ استحقاقات اتفاق السلام. 
  2. القضايا الإقليمية: تناولت المباحثات التطورات الجارية في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وكيفية العمل على احتواء تداعياتها المُحتملة على المنطقة، والتوافق على تنسيق الجهود المُشتركة لتحقيق أمن واستقرار المنطقة، حيث عكست المناقشات تفاهمًا مُتبادلاً بين الجانبين إزاء سُبل التعامل مع تلك الملفات بما يكفل تعزيز القدرات الأفريقية على مُواجهة التحديات التي تواجه القارة ككل، كما تم الاتفاق على تكثيف وتيرة انعقاد اللقاءات الثنائية بين كبار المسؤولين من البلدين بصورة دورية للتنسيق المُتبادل تجاه التطورات المتلاحقة التي يشهدها حاليًا المحيط الجغرافي للدولتين في ظل جهود الرئيس “كير” في الوساطة بين حكومة السودان والفصائل المُسلحة، والتوقيع على اتفاق سلام “جوبا” بين الطرفين في شهر أكتوبر الماضي.
  3. تطورات سدّ النهضة: تطرقت المباحثات إلى التطورات الخاصة بقضية سدّ النهضة ومسار المفاوضات الجارية بهدف التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل سدّ النهضة، حيث تم التوافق حول أهمية التوصل إلى اتفاق قانوني مُلزم ومتوازن حول ملء وتشغيل سدّ النهضة، مع تعزيز التعاون بين دول حوض النيل على نحو يُحقق المصالح المشتركة لشعوب حوض النيل وتجنب الإضرار بأي طرف.  

اتفاق السلام المُنشَط في جنوب السودان       

دعمت مصر جهود الرئيس “سلفا كير”، ونائبه “رياك مشار”، وجميع الأطراف الجنوب سودانية من أجل تحقيق السلام في البلاد، في ظل الجهود المبذولة من قِبل الأطراف السياسية في جنوب السودان للمضي قدماً في تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية طبقًا لبنود اتفاق السلام المُنشَط، وهذا الاتفاق الذي تحرص مصر على تعزيز آليات تنفيذه، وكذا دعم جهود حكومة الوحدة الوطنية لصياغة دستور جديد يحقق تطلعات شعب جنوب السودان نحو السلام والاستقرار والتنمية.

وتواصل مصر تقديم كافة أوجه الدعم لجنوب السودان من خلال الآليات القائمة للتعاون بين البلدين، ودعوة المجتمع الدولي للوفاء بتعهداته والتزاماته تجاه دولة جنوب السودان في مسيرتها نحو بناء مُستقبل أفضل، ودعم مساعي رفع العقوبات الدولية عن جنوب السودان لدعم عملية الانتقال السياسي الجارية.

وفى هذا الصدد، نلاحظ التقدم المحرز في اتفاق السلام ومجالات الحاجة التي تتطلب اهتمامًا أو دعمًا من مصر، حيث جاء هذا الاتفاق بعد حالة من التوتر والصراع المُسلح خاصًة بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 2013، وقد مر بمرحلتين الأولى؛ الإعداد للاتفاق والمفاوضات المختلفة الخاصة ببنود هذا الاتفاق، والمرحلة الثانية؛ التنفيذ التي وجدت صعوبة للتنفيذ خاصًة بعد اندلاع موجة العنف الثانية في يوليو 2016، وشمل هذا الاتفاق عدة محاور؛ الانتقال السياسي الذي شهد حالة من التقدم الفترة الأخيرة، والترتيبات الأمنية والمؤسسات الخاصة بالحكم، والعدالة الانتقالية، والدستور والانتخابات.       

بدأت عملية التشاور بين أطراف النزاع في جنوب السودان منذ مارس 2019، وتم التوافق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ولا تزال مسألة حكم الولايات عالقة في عملية الانتقال السياسي والتي تُعد مسألة مهمة، خاصًة وأنها عامل مؤثر على مسار العملية الانتخابية في سيناريو الاستحقاقات المختلفة المُفترض أن تشهدها الدولة.   

وفيما يتعلق بملف الترتيبات الأمنية؛ لم يتم التوافق على مستويات الدمج وهيكل القيادة الرئيسي سواء للجيش أو المؤسسات الأمنية الأخرى كما هو الحال بالنسبة للأمن الداخلي “الشرطة”، وعدم التوصل لاتفاق حول الهياكل التنظيمية المختلفة، حيث ساهمت مصر في ملف الترتيبات الأمنية خاصًة الدعم اللوجستي من زي عسكري وإقامة خيم عسكرية مواد غذائية وإيواء وتموين وإمدادات.

تطورات العلاقات المصرية- الجنوب سودانية      

تَتسم العلاقات المصرية- الجنوب السودانية على المستويين الرسمي والشعبي بالقوة والمتانة في ظل علاقات الود المُتبادل، والعلاقات المتميزة على المستوى الرسمي وخاصًة على صعيد القيادة السياسية، والسفارة المصرية في جوبا، ومجالات التعاون، والزيارات المُتبادلة، حيث تمتلك مصر أكبر قوة في قوات حفظ السلام المتواجدة في جنوب السودان، وشكر “سلفاكير” جهود مصر في إطار مراكز تجميع وتدريب القوات المحلية، ورحبت مصر بحل النزاع بين السودان وجنوب السودان في منطقة آبيي الغنية بالنفط من خلال التحكيم الدولي.    

تُعدُّ مصر ثاني شريك لدولة جنوب السودان بسبب الدعم السياسي والعلاقات القوية على مستوى القيادة والحكومة بين البلدين، والانفتاح لبحث سُبل التعاون مع جنوب السودان، والاستفادة من الخبرات المصرية في مجالات الري والزراعة والتعليم العالي والصحة، وبناء الكوادر، وتطوير العلاقات المصرية- الجنوب سودانية، وتعزيز التعاون في كافة المجالات والقطاعات:

\\SERVER\Folder Redirection\M.abdelrazik\Desktop\0ae8e94c-07bb-46ce-9168-505870085489.jpg
  • المجال الاقتصادي والتنموي: تتولى وزارة التعاون الدولي المصرية ملف التنمية في جنوب السودان من خلال تمويل وتخطيط مشروعات، ومنح واتفاقيات بغرض التنمية الشاملة، خصوصًا في مجالي التعليم والصحة، وفى هذا الصدد، في 8 سبتمبر 2020، قام وزير الموارد المائية والري “محمد عبد العاطي” بزيارة لجنوب السودان، تلبية لدعوة وزير الموارد المائية والري بجنوب السودان “مناوا بيتر قادكوث”، للتباحث حول مشروعات التعاون الثنائي بين البلدين في مجال الموارد المائية، بالإضافة إلى تفقد سير العمل في مشروعات محطات الآبار الجوفية التي تقيمها وزارة الري المصرية حاليًا في مدينة جوبا لخدمة الأهالي والمواطنين بجنوب السودان.

وعلاوةً على ذلك المشروعات التنموية في ولاية غرب بحر الغزال ومنها إنشاء مزرعة نموذجية، ومشروعات حصاد مياه الأمطار وتطهير المجاري المائية من الحشائش بحوض بحر الغزال ونهر السوباط، وإزالة تراكم الطمي لتأهيل المجري الملاحي لمجري بحر الجبل، و في هذا الإطار تُساهم الشركات المصرية في جوبا في جهود التنمية من خلال زيادة نشاط القطاع الخاص المصري في جنوب السودان في ظل حرص جنوب السودان على توفير كافة التسهيلات والمناخ الداعم لذلك، مع التأكيد على التقدير لما تقدمه مصر من دعم فني وبرامج بناء القدرات والتدريب على مدار السنوات الماضية للكوادر من جنوب السودان في شتى المجالات المدنية والعسكرية.    

  • المجال الثقافي: قدمت مصر عددًا من الدورات التدريبية لإعداد الكوادر الجنوب سودانية، وتوفير آلاف المنح الدراسية السنوية لأبناء جنوب السودان بالجامعات المصرية، حيث وقعّ البلدان مُذكرات تفاهم في مختلف المجالات الثقافية والعلمية، ووضع حجر الأساس لفرع جامعة الإسكندرية في جنوب السودان.   
  • المجال الصناعي والاستثماري: تم التوقيع على برتوكول تعاون لإنشاء أكبر منطقة صناعية مصرية بالعاصمة جوبا، للمُساهمة في زيادة حجم الصادرات المصرية، وإتاحة فرص عمل للشباب، وقامت مصر بتنفيذ حزمةً من المشروعات التنموية في المناطق المعزولة بجنوب السودان لتوفير مياه الشرب الصالحة، وعلاوةً على ذلك إقامة مؤتمر دولي لعرض فكرة إنشاء أول سد مُتعدد الأغراض في جنوب السودان.
  • المجال الصحي: سعت مصر إلى زيادة دعمها إلى جنوب السودان من خلال شحنات المساعدات الطبية والدوائية من خلال إعداد وتجهيز طائرة نقل عسكرية وعلى متنها كميات كبيرة من المساعدات الطبية والدوائية والمطهرات والبدل الواقية للأطقم الطبية، فضلًا عن كميات كبيرة من ألبان الأطفال للتغلب على جائحة “كورونا” في ظل الأزمات المتتالية التي تتعرض لها جنوب السودان، وإنشاء وحدات الغسيل الكلوي في مستشفيات جوبا، وتدريب الأطقم الطبية في جنوب السودان، بالإضافة إلى الحملة الرئاسية لمُكافحة فيروس “سي” في جنوب السودان، حيث تم توقيع الكشف الطبي على 1500 مواطن من الجنوب، وتقديم العلاج اللازم لهم، وافتتاح المركز الطبي المصري الجديد في جوبا في إطار زيارة رئيس المخابرات، اللواء “عباس كامل” ووزيرة الصحة “هالة زايد” إلى جنوب السودان في منتصف أغسطس الماضي.
  •  المجال الإغاثي: خلال أزمة الفيضانات والسيول الضخمة التي اجتاحت البلاد في سبتمبر الماضي، وجه الرئيس “السيسي”، بفتح جسر جوى لتقديم المساعدات الإغاثية العاجلة إلى مُتضرري السيول بجمهوريتي السودان وجنوب السودان، وحملت طائرات النقل العسكرية شحنات من المواد الغذائية والمستلزمات الطبية.

وإجمالاً، تبذل مصر جهودًا كبيرة لتوطيد علاقاتها مع جنوب السودان في إطار استراتيجية شاملة من أجل دعم التنمية وتحقيق السلام والاستقرار في جنوب السودان، وتأتى هذه الزيارة في توقيت مهم، واستمرارًا لمسيرة العلاقات المتميزة التي تربط البلدين على المستويين الرسمي والشعبي وما يجمعهما من مصير ومُستقبل واحد، كما عكست الزيارة توافر الإرادة السياسية المُشتركة لتعزيز الشراكة الاستراتيجية المُتكاملة بين البلدين في مختلف المجالات بما يخدم مصالح البلدين.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى